نقص الأدوية واستهداف المستشفيات.. كيف استنزفت إسرائيل قدرة غزة على العلاج؟
نقص الأدوية واستهداف المستشفيات.. كيف استنزفت إسرائيل قدرة غزة على العلاج؟
في قطاعٍ محاصر ومثقلٍ بالجراح، لم تعد حياة المرضى مرهونة بتعقيد أمراضهم، بل بقدرتهم على إيجاد جرعة دواء أو مقعد شاغر في مستشفى لم يُقصف بعد، في غزة، الحرب لا تقتل فقط بالصواريخ، بل أيضًا بنقص الأدوية، وباستهداف المستشفيات، وبانسحاب كل مقومات الحياة من جسد المنظومة الصحية المتهالك.
وبين مريض قلب لا يجد علاجًا، وآخر ينتظر دورًا لغسل كليته، تتكشف مأساة متصاعدة تُجسّد الانهيار الصحي الشامل في وجه آلة حرب لا تفرّق بين مقاتل ومريض.
في هذا التقرير، ترصد “جسور بوست” تفاصيل مريرة من واقعٍ طبي أصبح فيه الدواء أمنية، والمستشفى ملاذًا هشًا، والحياة احتمالًا ضعيفًا.
يمضي غسان المقيد، (34 عامًا) من مدينة غزة، ساعات طويلة بين الصيدليات؛ بحثًا عن علبة دواء واحدة لوالده المصاب بمرض القلب، لكنه يصطدم بعدم توفرها، ويعود دون أي جدوى.
يحتاج والد غسان إلى جرعة دواء محددة كل يوم، لكن رفوف المستشفيات التي ما زالت تعمل بقدرات ضئيلة خاوية منذ أسابيع.
من أمام شباك إحدى صيدليات منطقة حي الرمال غرب المدينة، يشرح المقيد معاناة والده لـ"جسور بوست"، قائلاً: " يحتاج والدي إلى دواء يومي لتنظيم دقات القلب، لكنه غير متوفر منذ أكثر من شهر، وأشعر بالخوف كل يوم من أن تتدهور حالته الصحية".
ويضيف المقيد: "ظهرت على والدي علامات التعب والدوار بسبب عدم حصوله على العلاج اللازم سوى من بعض البدائل غير الناجعة، وقد أوصانا الأطباء بضرورة الاستمرار في أخذ الدواء المخصص له بانتظام، لكن عدم توفر الدواء يحول دون ذلك".

ذات المعاناة تحاصر الحاجة سميرة عاشور (52 عامًا) من مدينة رفح وتنزح حاليًا بمدينة خان يونس، بحثًا عن الدواء المخصص لزوجها إبراهيم النجار الذي يعاني من فشل كلوي، ويقضي فترات علاجه داخل قسم الكلى بمجمع ناصر الطبي بمدينة خان يونس جنوب قطاع غزة.
تقول عاشور لـ"جسور بوست": "نعاني من نقص شديد في الأدوية الخاصة بمرض الفشل الكلوي، ومنها أيضًا ما يحتاج إليه زوجي لمرض القلب، وبعض أنواع مرض الضغط، وحتى المسكنات كالتروفين والأكامول والبانادول شحيحة جدًا سواء داخل المستشفيات أو حتى الصيدليات، وإن وجدت فهي بثمن باهظ جدًا لا نستطيع شراءه".

وبكل أسى تروي عاشور أن زوجها يحتاج أيضًا للأدوية الخاصة بتنظيم دقات القلب لكنه غير متوفر منذ أكثر من شهرين، فضلاً عن أن نقص الغذاء الصحي وتدهور حال المستشفى المكتظ بالمصابين والجرحى والمرضى وما تخلفه الحرب من أحوال كارثية ستؤثر على الوضع الصحي والنفسي لزوجها.
تضيف عاشور أنها تضطر حاليًا لجلب أدوية منتهية الصلاحية بفترة قليلة لاستدراك الاستمرار على العلاج، لعدم توفره، رغم تخوفها على زوجها من الأعراض التي قد تسببها تلك الأدوية، لكنها تتساءل: ما البديل؟
على الجهة المقابلة، يرقد خميس البشيتي (42 عامًا) منتظرًا دوره على جهاز غسيل الكلى الذي بالكاد يستطيع استخدامه مرتين أسبوعيًا بواقع 3 ساعات لكل مرة.
يقول البشيتي لـ"جسور بوست": "كنت قبل الحرب أجري عملية غسل الكلى 3 مرات أسبوعيًا، وفي كل مرة 6 ساعات، لكن بسبب تكدس المرضى لا يتاح لي سوى مرات ضئيلة".
يعاني البشيتي من نقص حاد في الدواء الخاص بتكسير الدم الذي يتلقاه خلال مرحلة غسل الكلى، ونقص المستلزمات الطبية، والأعطال المتكررة للأجهزة، وعدم انتظام التيار الكهربائي، وعدم وجود المياه العذبة.
ويقول: "مريض الكلى بحاجة لأدوية خاصة منها الأدوية المدمجة لضغط الدم ولا تتاح لنا داخل المستشفى واضطر لجلبها أحيانًا من أحد المستشفيات الميدانية الدولية أو مستشفى الهلال الأحمر إن توفرت، فضلاً عن أنني لا أستطيع شراءها من الصيدليات مطلقًا".
وقد بدت مستودعات الأدوية بوزارة الصحة في غزة شبه خالية، في مشهد يعكس عمق الكارثة الصحية نتيجة النقص الحاد في الأدوية والمستلزمات الطبية، بفعل الحصار الإسرائيلي المشدد وإغلاق المعابر منذ أكثر من شهرين.
ويصف الدكتور أحمد الفرا، مدير مبنى التحرير بمجمع ناصر الطبي، واقع أزمة نقص الدواء في مستشفى ناصر بالكارثية، محذرًا من أن جميع مستشفيات القطاع تطولها هذه الأزمة الخانقة.
وقال الفرا في حديث لـ"جسور بوست": "هناك نقص شديد في الأدوية الخاصة بمرضى السكر مثل الإنسولين قصير وطويل المدى وهذا يؤدي إلى مشكلات في متابعة ومراقبة مرضى السكري، والأمراض المزمنة مثل التهاب المفاصل المعرف بالروماتويد".
وأضاف الفرا أن هذا الواقع ينسحب على عديد من المستلزمات والمستهلكات الطبية مثل الكانيولات الصفراء والكحول واليود ورصيدها شارف على النفاد وبالكاد ندبر احتياجاتنا.
وبحسب الفرا فإن النقص يشمل المضادات الحيوية المتقدمة والجيل الرابع منها وأدوية الفطريات وخلال الأسبوع القادم أو ما يليه هناك قائمة طويلة من الأدوية التي ستكون مفقودة تماًمًا من مخازن وزارة الصحة وهذا سينعكس على الوفاء باحتياجات المستشفى".
وشدّد الفرا على أن الأزمة لا تتركز في الأدوية الحساسة فقط، "بل إن مختلف أنواع الحليب العلاجي الخاص بالأطفال لدينا نقص واضح فيها".
واستعرض الفرا التخوفات من انعدام توفر حليب الأطفال الخاص بالتراكيب العلاجية الخاصة بأمراض متلازمة "ڤينولبيتونوريا"، قائلاً: "هؤلاء الأطفال يجب أن يتناولوا حليبًا خاليًا من الحمض الأميني، وفي حال لم يتوفر سيعانون من تخلف عقلي وإدراكي وفقد بعض الحواس، وتأخر النمو، وهذا مثال لأنواع الحليب المفقودة".
كما عدّد الفرا بعض الأنواع من أنواع الحليب المفقودة منها ما هو خاص بمتلازمات سوء الامتصاص والأطفال يعانون بشكل كبير من نقص الحليب الخاص بهم.
استهدافات ممنهجة
لكن نقص الأدوية في القطاع لا يشير وحده إلى حجم الكارثة التي تلحق بالمنظومة الصحية جراء استمرار حرب الإبادة الجماعية، إذ تعاني المستشفيات من عجز في قدراتها وخروج معظمها عن الخدمة الفعلية بفعل الاستهدافات الإسرائيلية المتكررة لها.
ويؤكد مدير عام المستشفيات الميدانية بوزارة الصحة د. مروان الهمص، أن الاحتلال سعى وفق خطة ممنهجة لاستهداف المستشفيات خلال الحرب، لإخراج المنظومة الصحية عن العمل.
وقال الهمص في حديث لـ"جسور بوست": "قبل الحرب كان عدد المستشفيات 38 واستهدفها الجيش الإسرائيلي جميعًا، سواء بالتدمير الكلي أو الجزئي أو عبر اقتحامها واعتقال الكوادر الطبية منها، وأغلبها خرج عن الخدمة كليًا مثل مجمع الشفاء الطبي الذي نحاول عبر جهود محلية ودولية استعادة جزء من طاقته".
وأوضح الهمص أن القدرة الاستيعابية والاستشفائية لجميع المستشفيات باتت في حدها الأدنى، فمدينة رفح خرجت بالكامل عن الخدمة الطبية، وباقي مستشفيات القطاع فقدنا فيها الخدمة بنسبة 65% تقريبًا".
واستعرض الهمص انعكاس استهداف المستشفيات على الواقع الصحي، من خلال تدمير الأجهزة الطبية، بما فيها أجهزة الأشعة والتشخيص ومعدات العناية الفائقة والغسيل الكلوي، بالإضافة إلى العجز في توفر المستلزمات الطبية وفقدان الأدوية بنسبة 45% من الخدمة الدوائية في مدن القطاع، و65% من المستهلكات الطبية المهمة.
وأشار المدير بالوزارة إلى أن المستشفيات الميدانية أسهمت في إسناد المستشفيات العامة خلال تلقي الجرحى والمصابين خاصة في حالات الطوارئ والأمراض المزمنة وأقسام العظام والخدمة لا تتعدى 35% عما كان قبل الحرب.
كما لفت الهمص أن تدهور عمل القطاع الصحي ألقى بظلال سلبية على ذوي الأمراض المزمنة، من ضمنهم 110 آلاف من مرضى السرطان والقلب حيث يوجد 80 ألف مريض سكري بالقطاع على حافة الموت بسبب المضاعفات نتيجة عدم الانتظام في تلقي العلاج وتوفره.
وبيّن الهمص الآثار السلبية التي لحقت بأقسام رعاية مرضى الفشل الكلوي، ووفاة 45% منهم بسبب عدم وجود طعام مناسب أو مياه صحية وعدم وجود خدمة صحية ملائمة".
وشدد الهمص على أهمية التنسيق مع المنظمات الأممية والدولية على مدار الساعة لاستعادة جزء من قدرة المستشفيات، مطالبًا المجتمع الدولي بالضغط على إسرائيل لوقف الحرب، وفتح المعابر لإنقاذ أكثر من مليوني فلسطيني قبل فوات الأوان.
تغييب القانون
بدورها، أكدت الباحثة في القانون الدولي وممثلة مركز راصد لحقوق الإنسان، زينب الخالدي، أن استهداف المشافي محظور في القانون الدولي بأي حال من الأحوال، وأنها تحظى بحماية خاصة في اتفاقية جنيف الرابعة، مشيرة إلى أن الاعتداء عليها يشكل جريمة حرب إذا ما وقع أثناء نزاع مسلح دولي وتختص بالنظر فيه المحكمة الجنائية الدولية.
وقالت الخالدي في حديث لـ"جسور بوست" :"أمعن الاحتلال في وضع سيناريو إجرامي باعتدائه على مستشفى مجمع الشفاء الطبي، الأمر الذي أدى إلى تدمير العديد من المباني وإلحاق أضرار بعدد آخر منها الصيدلية والمختبر ومبنى الإسعاف والاستقبال والطوارئ"، مضيفة: "هذا من ضمن تدمير 34 مستشفى أخرجها عن الخدمة في إطار خطة ممنهجة للقضاء على ما تبقى من القطاع الصحي في قطاع غزة".
توثيق للجرائم
وأوضحت الخالدي أن المركز عمل على توثيق جميع هذه الاستهدافات بحسب قدرته على الوصول إلى مكان الجريمة في حينه عبر رصد الأدلة المتوفرة ما بين الصور الحية من مسرح الجريمة للذخائر التابعة لجيش الاحتلال وكذلك صور حية للمجني عليهم من الأفراد سواء المرضى والجرحى ومن مرافقين والطواقم الطبية على اختلاف عملهم.
وإلى جانب الاستهدافات الممنهجة، ذكرت الباحثة أن الاحتلال يسعى جاهدًا لتقويض عمل المنظومة الصحية عبر إغلاق المعابر ومنع دخول الأدوية والمستلزمات الطبية والوقود اللازم لتشغيل الأجهزة والمعدات وإغلاق الطرق ومنع وصول سيارات الإسعاف التي تنقل المصابين وتعمد استهداف سيارات الإسعاف وإعدام المسعفين كما حدث في مدينة رفح في أبريل 2025.
واعتبرت الخالدي أن المجتمع الدولي وأعضاء مجلس الأمن قد فشلا في وقف حرب الإبادة، مطالبة بالكف عن سياسة الكيل بمكيالين والازدواجية في التعامل والمساواة بين الجاني والضحية خاصة، عبر الدعم الأمريكي الواضح لموقف جيش الاحتلال من الحرب على قطاع غزة والدعم والإمداد العسكري لقتل المدنيين.
كما حذّرت الخالدي من أن نقص الأدوية وانهيار جزء كبير من المستشفيات وخروجها عن الخدمة سيزيد من نسب استشهاد الجرحى بأكثر من 50%، لعدم توفر الإمكانيات لإجراء العمليات الجراحية ونقص المستلزمات الطبية، داعية إلى ضرورة تحمل المنظمات الطبية والدولية لمسؤولياتها في دعم القطاع الصحي.
ومع استمرار إغلاق المعابر واستهداف المستشفيات في غزة، يبقى الموت مترصدًا بالغزيين لا عبر القصف وحده، بل أيضًا بغياب الدواء في مستشفيات أصبحت ركامًا، ما حوّل الحياة إلى معركة يومية للبقاء، وسط صمت دولي لا يداوي ولا يحمي.