من وهم الإقلاع إلى فخ الإدمان.. هل تتسبب السجائر الإلكترونية في كوارث صحية؟

من وهم الإقلاع إلى فخ الإدمان.. هل تتسبب السجائر الإلكترونية في كوارث صحية؟
السجائر الإلكترونية - أرشيف

انطلقت المملكة المتحدة، يوم الأحد، في خطوة تعدّ من أبرز التحولات في سياستها الصحية والبيئية، نحو تنفيذ حظر شامل على السجائر الإلكترونية أحادية الاستخدام

ويأتي هذا القرار بعد أشهر من الجدل حول مدى خطورة هذه المنتجات، التي باتت تُتهم بأنها تسهم في خلق جيل جديد من المدمنين، مستغلة تصميمات جذابة ونكهات لذيذة تستهدف المراهقين، في ما يشبه الفخ التسويقي المقنّع داخل عبوة صغيرة.

طرحت وزيرة البيئة البريطانية، المسؤولة الحكومية ماري كري، القضية بلغة حادة، مؤكدة أن هذه الأجهزة "تملأ شوارعنا" و"تسبّب إدمان أطفالنا"، وواصفة الظاهرة بأنها "متسارعة بشكل مقلق". 

وتعكس هذه التصريحات إدراكاً رسمياً بأن الأمر لم يعد يتعلق بمنتج ترفيهي، بل بأزمة تتقاطع فيها عوامل الصحة العامة والسلوك المجتمعي والتدهور البيئي.

وانضمت بريطانيا بهذا الحظر إلى دول أوروبية مثل فرنسا وبلجيكا، حيث بدأت الحكومات تقييد هذه الأجهزة لحماية الصحة العامة ومكافحة التلوث البيئي المتفاقم. 

وأوضحت وكالة "فرانس برس" أن القرار البريطاني ينسجم مع مسار أوروبي متصاعد باتجاه تقليص انتشار هذه المنتجات، والتي لم تعد تُصنّف فقط كبدائل للتدخين، بل كمصدر تهديد متزايد للبيئة والشباب.

تحوّلت السجائر الإلكترونية إلى سلعة شبابية تحمل هوية ثقافية تتجاوز وظيفتها الأصلية. تُباع بنكهات العلكة، والفواكه، والحلوى، وتُغلف بألوان زاهية وتصميمات عصرية تستقطب الأطفال واليافعين. 

وتشير بيانات جمعية "ASH" البريطانية إلى أن نحو 18% من المراهقين الذين تتراوح أعمارهم بين 11 و17 عاماً جربوا هذه السجائر خلال عام 2024، أي ما يقرب من 980 ألف مراهق – رقم ينذر بتحول الاستخدام إلى ظاهرة مجتمعية تستوجب التدخل العاجل.

قنابل بيئية في الشوارع

كشفت منظمة "ماتيريال فوكس" البيئية أن نحو 5 ملايين سيجارة إلكترونية أحادية الاستخدام تُرمى أسبوعياً في شوارع بريطانيا، مما يفرز أكثر من 40 طناً من الليثيوم سنوياً – ما يكفي لتشغيل 5000 سيارة كهربائية، هذه البطاريات الصغيرة، القابلة للاشتعال، لا تمثل مجرد نفايات، بل قنابل بيئية محتملة، تهدد بإشعال الحرائق وتعطيل سلاسل إعادة التدوير.

سلّطت تقارير بيئية الضوء على التلوث الصامت الناتج عن هذه الأجهزة، حيث تحتوي على بلاستيك ومعادن ثقيلة تتسرب إلى التربة والمياه، مفاقِمةً التحديات البيئية التي تواجه المدن البريطانية. 

وتحوّلت الأرصفة إلى أماكن لتجميع هذه القنابل المؤجلة، في مشهد يعكس فشل أنظمة إدارة النفايات أمام اجتياح استهلاكي غير محسوب.

روّجت شركات التصنيع للسجائر الإلكترونية بوصفها أقل ضرراً من السجائر التقليدية، مشيرة إلى خلوها من القطران وأول أكسيد الكربون، لكن الحقيقة أن النيكوتين يظل المكوّن الأكثر خطورة، ويُعد النيكوتين مادة عالية الإدمان، تؤثر بعمق في دماغ المراهق الذي لم يكتمل نموه العصبي، وتغير سلوكه، شهيته، ونومه، وقد تقود إلى اضطرابات في التركيز والذاكرة.

وأظهرت دراسة صادرة عن "المعهد الوطني البريطاني للصحة والرعاية الممتازة" أن 29% من المراهقين الذين يستخدمون هذه الأجهزة بانتظام يعانون من أعراض قلق حادة، في مقابل 11% فقط بين غير المستخدمين. 

ورُصدت اضطرابات في التركيز لدى 35% من مستخدميها يومياً، ما يؤكد التأثير العميق للنيكوتين على وظائف الدماغ لدى الفئات العمرية الأصغر.

الرئة تختنق في صمت

بيّنت مراجعة علمية نشرتها مجلة The Lancet Respiratory Medicine أن 78% من مستخدمي السجائر الإلكترونية على المدى الطويل أظهروا علامات على التهابات مزمنة في الجهاز التنفسي العلوي. 

واستنتجت الدراسة أن الأبخرة الكيميائية المحمّلة بالنكهات تتسبب بتراكم طبقات دهنية وميكروبلاستيكية في الرئة، وهو ما يشبه خنق كتاب ثمين داخل غلاف بلاستيكي محكم.

وتفوقت السجائر الإلكترونية في بعض الحالات على نظيرتها التقليدية من حيث إيصال النيكوتين بسرعة، وأشارت دراسة نُشرت في مجلة Addictive Behaviors إلى أن نسبة النيكوتين في دماء مستخدمي هذه الأجهزة قد تتجاوز بـ35% ما يُسجّل لدى مدخني السجائر العادية، لا سيما لدى الشباب دون 25 عاماً.

وواجه القطاع الصحي تحدياً في مواكبة تصاعد الظاهرة. وبيّنت دراسة للمجلس الطبي البريطاني عام 2025 أن 61% من الأطباء يشعرون بعدم كفاءتهم في التواصل مع المراهقين حول مخاطر الإدمان. 

ويعني ذلك أن المنظومة الصحية تحتاج إلى تطوير أدواتها ولغتها لتكون أكثر قرباً من فئة الشباب، التي تعتمد على "تيك توك" و"إنستغرام" كمصادر معلومات رئيسية.

وشجّعت وزارة الصحة البريطانية على إطلاق حملات توعية رقمية تفاعلية تتناسب مع أدوات العصر، عبر مقاطع الفيديو القصيرة والرسوم المتحركة والحوار المباشر، بدلاً من الاكتفاء بالكتيبات التقليدية، إذ أظهر تقرير رسمي أن 73% من المراهقين يحصلون على معلوماتهم الصحية من منصات التواصل، وليس من القنوات الرسمية أو المدرسية.

السوق السوداء وقلق التهريب

حذّر مسؤولون من إمكانية تنامي السوق السوداء بعد تطبيق الحظر. وذكر دان مارشانت، مدير متجر "Vape Club"، أن القانون يجرّم البيع فقط، لكنه لا يمنع الاستخدام، ما قد يفتح الباب أمام تدفق منتجات مغشوشة أو أكثر ضرراً. 

وأكدت بيانات منظمة الجريمة الوطنية البريطانية (NCA) ارتفاع عمليات تهريب السجائر الإلكترونية غير القانونية بنسبة 47% في النصف الأول من عام 2025.

وأثار هذا التصاعد في التهريب مخاوف من أن يؤدي الحظر إلى نتائج عكسية، في حال لم تترافق الإجراءات القانونية مع بدائل توعوية ومراقبة صارمة على الحدود والأسواق الإلكترونية، خصوصاً أن الشباب يملكون قدرة كبيرة على الوصول إلى المنتجات غير المشروعة بوسائل غير تقليدية.

وفنّدت أرقام المعهد الملكي للصحة العامة مزاعم أن السجائر الإلكترونية تساعد المدخنين على الإقلاع، إذ تبين أن 62% من مستخدميها تحت سن 25 لم يكونوا مدخنين أصلاً قبل استخدامها، ما يثبت أن هذه الأجهزة لا تؤدي دوراً انتقالياً، بل تخلق دائرة إدمان جديدة تماماً. 

وأكدت الحكومة البريطانية في تصريحاتها أن الحظر لا يستهدف القضاء على السجائر الإلكترونية، بل تقنين استخدامها، ومنع استهداف الأطفال في الحملات التسويقية.

خطر يهدد الصحة العامة

قالت الدكتورة دعاء جاد الله، أستاذ الأمراض الصدرية بكلية الطب جامعة سوهاج، إن السجائر الإلكترونية تمثل خطرًا صحيًا بالغًا لا يقل عن خطر السجائر التقليدية، بل يتجاوزه في بعض الجوانب، مؤكدة أن الأضرار الناجمة عن استخدام هذه الأجهزة لا تقتصر على المستخدم المباشر فحسب، بل تمتد لتصيب من يجاوره من غير المدخنين من خلال التعرض غير المباشر للانبعاثات الصادرة عنها.

وأوضحت في تصريحات لـ"جسور بوست"، أن السجائر الإلكترونية تعتمد في تركيبها على سوائل إلكترونية قد تحتوي على النيكوتين أو لا تحتويه، إلا أن الانبعاثات الناتجة عن تسخين هذه السوائل تتضمن مواد ضارة تؤثر سلبًا في صحة الجهاز التنفسي والقلب والأوعية الدموية، مضيفة أن بعض الدراسات العلمية الحديثة أظهرت أن معدل استخدام السجائر الإلكترونية قد يؤدي إلى زيادة نسبة التدخين مقارنة بالسجائر التقليدية بما يعادل ثلاثة أضعاف، مما يُضاعف فرص الإصابة بالأمراض المزمنة.

وأشارت إلى أن هذه الأنواع من السجائر، حتى وإن صممت لتقنين كمية النيكوتين التي يحصل عليها المستخدم، إلا أنها تؤدي إلى الإدمان بشكل فعّال، لافتة إلى أن المدخن يتعرض لتأثير نفسي وسلوكي يجعله أكثر اعتمادًا على النيكوتين، ما يفتح الطريق أمام مزيد من التعلق به واستخدام أشكال أخرى من التبغ.

ونبّهت جاد الله إلى خطورة استخدام السجائر الإلكترونية بين المراهقين والشباب، مؤكدة أن هذا النمط الجديد من التدخين أصبح بوابة للدخول إلى التدخين التقليدي، وليس وسيلة للإقلاع عنه كما يُروَّج له أحيانًا. وقالت إن الجمع بين النوعين -الإلكتروني والتقليدي- يُضاعف من الأضرار الصحية، ويزيد من احتمالات الإصابة بأمراض خطِرة، من بينها الربو الشعبي، وتليف الرئة، وسرطان الرئة، واضطرابات القلب، وارتفاع ضغط الدم، وخلل الجهاز العصبي، وتضيّق الشرايين.

وأوضحت أن السجائر الإلكترونية تُسبب سعالًا شديدًا، وألمًا في الصدر، وضيقًا في التنفس، إلى جانب اضطرابات في نبضات القلب، وكلها أعراض تُهمل في الغالب من قبل المستخدمين الشباب ظنًّا بأنها "مؤقتة" أو "غير خطيرة"، رغم كونها مؤشرات تحذيرية مبكرة على تلف مزمن قد يصعب تداركه لاحقًا.

وأشادت جاد الله بالجهود الدولية التي تقودها منظمة الصحة العالمية في رصد استخدام النيكوتين الإلكتروني وتأثيره على الصحة العامة، مؤكدة أن المنظمة تُولي أهمية كبرى لمكافحة التبغ بكافة أشكاله، من خلال فرض قيود صارمة على تسويقه، ومنع الإعلانات المروجة له، وتوفير تحذيرات صحية واضحة، إلى جانب دعم برامج الإقلاع عن التدخين وتشجيع الأفراد على تركه بمختلف الوسائل المتاحة.

وأعربت عن قلقها من الانتشار المتزايد لاستخدام السجائر الإلكترونية بين الأطفال والمراهقين، مطالبة بتدخل حكومي وتشريعي صارم يضمن حماية هذه الفئة العمرية من الوقوع في فخ الإدمان المبكر. وأكدت ضرورة اتخاذ الدول لإجراءات وقائية وتشريعية حازمة، بما في ذلك الحظر الكامل للإعلانات الموجهة لهذه الفئات، ومراقبة الأسواق، وتقييد بيع هذه المنتجات في منافذ محددة وتحت رقابة مشددة.

واختتمت جاد الله تصريحها بالتأكيد على أن مكافحة التدخين لا يجب أن تقتصر على السجائر التقليدية وحدها، بل لا بد من شمول السجائر الإلكترونية في سياسات المكافحة، لافتة إلى أن التغاضي عن هذا النوع الجديد من التدخين سيؤدي إلى نتائج صحية كارثية على المدى البعيد، ليس فقط على الأفراد، بل على أنظمة الصحة العامة واقتصادات الدول التي ستتحمل تكلفة علاج هذه الأمراض المزمنة والمتزايدة.

تهديد بيئي يتطلب حظرًا عاجلًا

قال الدكتور صلاح الدين فهمي، أستاذ الاقتصاد بجامعة الأزهر، إن تصاعد الحديث أخيرًا حول أخطار السجائر الإلكترونية لا يمكن فصله عن القلق العالمي المتزايد بشأن التغيرات المناخية، مشيرًا إلى أن هذا النوع من التدخين لا يمثل فقط خطرًا صحيًا مباشرًا على الأفراد، بل يمتد أثره السلبي إلى البيئة والمناخ بشكل لا يمكن تجاهله.

وأوضح فهمي، في تصريحات لـ"جسور بوست"، أن العالم اليوم يواجه موجات متلاحقة من التحذيرات بشأن التلوث البيئي الناتج عن انبعاثات الغازات الضارة، وفي مقدمتها ثاني أكسيد الكربون، فضلًا عن التعدي المستمر على المساحات الخضراء في مختلف الدول، وهو ما يؤدي إلى تدهور في المناخ وارتفاع في درجات الحرارة وتزايد في الكوارث الطبيعية، مثل ما شهدناه في الآونة الأخيرة من فيضانات وعواصف في دول مثل ليبيا وبعض مناطق الإسكندرية، الأمر الذي يعكس عمق الأزمة المناخية التي تتفاقم يومًا بعد يوم.

وأضاف أن السجائر الإلكترونية، رغم أنها تُقدَّم في بعض الأوساط بوصفها بديلًا أقل ضررًا للسجائر التقليدية، إلا أن الحقيقة تشير إلى خلاف ذلك؛ فهي تعتمد على تسخين سوائل تحتوي على مواد كيميائية، وعند التبخير تنبعث منها مركّبات تؤثر سلبًا على الهواء وتزيد من مستويات التلوث، فضلًا عن تأثيرها المحتمل على جودة الأوزون وتغير مكونات الغلاف الجوي، ما يزيد من الأعباء البيئية ويُضاعف من أضرارها المناخية.

وأشار فهمي إلى أن الإقبال على السجائر الإلكترونية بين الشباب والفتيات لا ينبع من حاجة حقيقية، بل هو في كثير من الأحيان انعكاس لما وصفه بـ"موضة استهلاكية"، تدفع إليها الرغبة في المباهاة والتظاهر بالتمرد على السائد، حيث يشعر البعض بالفخر لمجرد مخالفة العرف الاجتماعي أو تقليد بعض السلوكيات الغربية دون وعي بالعواقب.

وأكّد أن الدول التي تمتلك إرادة سياسية حقيقية في حماية صحة شعوبها والحفاظ على بيئتها لا تتردد في منع استيراد أو تداول هذه المنتجات، إدراكًا منها لحجم الأضرار البليغة التي تسببها على المستويين الصحي والمناخي. ولفت إلى أن بعض الدول المتقدمة بدأت بالفعل في اتخاذ خطوات جادة نحو تحقيق تنمية بيئية مستدامة، تسعى من خلالها إلى إعادة التوازن بين ما خلقه الله من موارد طبيعية وحياة نباتية وحيوانية، دون الإخلال بالنظام البيئي الدقيق الذي يعاني اليوم من سوء الاستغلال والتعدي المستمر.

وأوضح أن من بين هذه الإجراءات تقليص الاعتماد على البلاستيك في تغليف المنتجات، مثل الفاكهة والبقالة، واستبدال الأكياس البلاستيكية بالحقائب القماشية القابلة لإعادة الاستخدام، وهو توجه بيئي واعٍ يجب أن يُطبق كذلك على قضية السجائر الإلكترونية، التي باتت تمثل تهديدًا مضاعفًا للصحة والبيئة معًا.

وشدد فهمي على أن مواجهة هذه الظاهرة لا يجب أن تقتصر على التوعية الفردية فقط، بل لا بد من وجود آليات تشريعية وتنفيذية رادعة تضع حدًا لاستخدامها وانتشارها، وذلك ضمن إطار أوسع للتحول نحو الاقتصاد الأخضر، الذي بات ضرورة ملحة وليست ترفًا فكريًا. وأكد أن التحول إلى الاقتصاد الأخضر لا يمكن أن يتحقق ما لم تكن هناك سياسات صارمة تُراعي الحفاظ على الموارد البيئية، والحد من أي نشاط يؤدي إلى الإضرار بها.

واختتم أستاذ الاقتصاد تصريحه بالتأكيد على أن قضية السجائر الإلكترونية لم تعد مجرد مسألة صحية أو شخصية، بل أصبحت قضية بيئية في المقام الأول، تتطلب تضافر الجهود بين الجهات الصحية والاقتصادية والبيئية على المستويين المحلي والدولي، من أجل حماية كوكب الأرض من مزيد من التدهور والانهيار المناخي.

 



ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية