من الحق في التظاهر للاتهام بالإرهاب.. كيف تحوّل المواطن الأمريكي إلى هدف عسكري؟

من الحق في التظاهر للاتهام بالإرهاب.. كيف تحوّل المواطن الأمريكي إلى هدف عسكري؟
مظاهرات في الولايات المتحدة- أرشيف

في قلب الولايات المتحدة أماط الشارع اللثام عن صدع واضح في العلاقة بين المواطن والدولة، فمنذ مطلع يونيو 2025 شنت سلطات الهجرة الأمريكية (ICE) مداهمات واسعة في ولايات كبرى، واستهدفت مئات المهاجرين، بينهم من يحملون وثائق قانونية، ما خلق موجة خوف اضطر معها بعض المدارس والمؤسسات إلى تأجيل الفعاليات بسبب "غياب واليأس بين الأهالي"، وفق تقارير منظمة UnidosUS وشبكات مدنية.

أطلقت الحملة الاحتجاجية حركة "خمسون احتجاجًا في خمسين ولاية"، مسجلة انخراط نحو 5.2 مليون شخص في مختلف أنحاء البلاد، تحت مظلة شعبية تطالب بوقف الاعتقالات الجماعية، إصلاح إدارة الهجرة، وإعادة النظر في شراكة الإدارة مع شركات خاصة للتحكم في البيانات ودفع الأجندة الأمنية، في نفس الوقت، تصاعدت مجموعة أخرى من الاحتجاجات تحت شعار "Hands Off" في أبريل، شارك فيها مناهضون للعنصرية وأصحاب رواسب تاريخية في الدفاع عن الحقوق، مؤكدين أن حرية التعبير والمساحات المدنية مستهدفة من تقاطع سياسات الهجرة والاقتصاد الرقمي.

ومع بدء موجات الاحتجاج في لوس أنجلوس، تم اعتقال أكثر من 1,000 محتج على مدى أيام متتالية، بينهم 411 اعتقالًا في أسبوع واحد في المدينة وحدها، وسُجّلت إصابات بين الصحفيين (7 على الأقل)، و5 خيول تابعة للحرس الوطني، و6 إصابات حرجة بين المدنيين.

وقد سلمت السلطات ردها بأنه جاء لحماية المنشآت الفيدرالية، لكن النقاش القانوني تركز على حقيقة أن ترامب لم يعتمد على "قانون التمرد" (Insurrection Act)، بل على "المادة 10" من القانون الفيدرالي، وهو ما اعتبره محللون انتهاكًا للنص الدستوري الذي يفترض أن تحفّز مشاركته موافقة حكام الولايات، وهو ما لم يحدث.

جاء القرار بإرسال ما يقارب 4,100 من عناصر الحرس الوطني و700 جندي مشاة بحرية، إلى لوس أنجلوس، وهي أول مرة منذ 1965 تُستخدم فيها القوات الفيدرالية داخليا دون موافقة حكومية محلية، بحسب كثير من المراقبين الحقوقيين.. ووصف حاكم كاليفورنيا غافن نيوسوم والمدعي العام روب بونتا التدخل بأنه "غير قانوني"، ورفعوا دعوى قضائية للطعن فيه، بينما وصفت عمدة لوس أنجلوس كارن باس الأمر بأنه "استفزاز سياسي وضربة للسلطة المحلية".

وعلى المستوى الوطني، امتدّ الاحتجاج إلى نيويورك، وشيكاغو، وأتلانتا، وأوساكا وسانت لويس وغيرها، حيث شهدت كل منها تجمعات سلمية قوامها آلاف المتظاهرين، ونسبة ضئيلة من التصعيد الفردي.. وفي بعض المدن، حُدد عدد المعتقلين في حدود العشرات، لكن تنوع التفاعل شكّل جرس إنذار لقوة المركز واهتزازها أمام نزف الحقوق.

الحملة الأمنية الأخيرة في الولايات المتحدة ضد موجة الاحتجاجات التي عمّت عدداً من المدن الكبرى، كشفت عن تصدعات خطيرة في البنية الحقوقية للدولة، وطرحت تساؤلات جوهرية حول مدى تماشي الأداء الرسمي مع الالتزامات الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان. 

أربع زوايا رئيسية انكشفت من خلالها هذه الانتهاكات، شكلت خريطة أولية لفهم ما يحدث في العمق.

أولى هذه الزوايا تمثلت في الاعتداء على حرية التعبير وحق التجمع السلمي، الوثائق الحقوقية المحدثة تشير إلى تسجيل ما لا يقل عن 35 حالة اعتداء مباشر على صحافيين أثناء تغطيتهم للاحتجاجات، منها 30 حالة اعتداء تمّ توثيقها ضد صحافيين ميدانيين في لوس أنجلوس وحدها، وشملت استخدام الرصاص المطاطي والغازات المسيلة للدموع، رغم وضوح هوياتهم الإعلامية. بحسب نقابة الصحفيين في كاليفورنيا (LA Press Club)، فقد جرى توقيف عدد من المصورين واحتجاز معداتهم، بل أُطلقت طلقات مطاطية تجاههم من مسافة قريبة، وهو ما اعتُبر استهدافاً ممنهجاً لحرية الصحافة في لحظة حساسة من التعبير المدني.

والأشد تعقيداً يرتبط بخلط الأدوار بين السلطات المدنية والعسكرية، وهو خرقٌ صريح لقانون "Posse Comitatus" الذي يمنع القوات المسلحة من التدخل في الشؤون المدنية دون تفويض واضح. خلال الأسبوع الأول من الاحتجاجات، تم نشر أكثر من 4,700 عنصر من الحرس الوطني ومشاة البحرية في شوارع لوس أنجلوس، ليس فقط لحماية المنشآت الفيدرالية، بل لمراقبة الحركة العامة، وتطبيق حظر التجول الليلي، وقمع التجمعات السلمية من خلال إطلاق تحذيرات باستخدام مكبرات الصوت ووسائل التشويش. هذا التدخل، الذي تمّ دون تنسيق مسبق مع السلطات المحلية، أثار ردود فعل قوية من حكام الولايات، أبرزها تصريحات حاكم كاليفورنيا الذي قال إن "البلاد تحوّلت إلى دولة أمنية".

ولم تتأخر ردود الأفعال الدولية؛ فقد أصدرت الأمم المتحدة عبر مكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان بياناً أعربت فيه عن "قلق بالغ من استخدام القوة العسكرية لقمع مظاهرات سلمية". منظمة "هيومن رايتس ووتش" رأت أن هذا التصعيد "استعادة خطيرة لمعادلة العنف كأداة ضبط سياسي"، وأن أمريكا، رغم ديمقراطيتها العريقة، تنزلق نحو نموذج "الأمن قبل الحقوق"، مما يهدد القيم التي تأسست عليها الجمهورية. كما عبّرت منظمة العفو الدولية عن قلق مماثل، مؤكدة أن "السلطات الأمريكية تُخفق مجددًا في التزاماتها الأساسية تجاه الحق في الاحتجاج السلمي".

في الجهة المقابلة، اعتمدت إدارة ترامب آنذاك خطاباً شديد اللهجة تجاه المتظاهرين، ووصفتهم بـ"راديكاليين يساريين"، و"مجرمين يهددون السلم الأهلي"، ووصفت المشهد في بعض المدن بـ"حالة تمرد". هذا الخطاب أدى إلى استقطاب حاد بين الرأي العام، حيث أظهر استطلاع أجرته جامعة نورث إيسترن أن 49% من الجمهوريين دعموا استخدام الجيش في الداخل، بينما رفض 76% من الديمقراطيين هذا الإجراء واعتبروه "تهديداً للحريات المدنية".

المحامون الحقوقيون داخل الولايات المتحدة بدؤوا فعلياً إجراءات قضائية أولية في محاكم اتحادية ضد وزارة العدل والداخلية، بدعم من منظمات مثل ACLU (الاتحاد الأمريكي للحريات المدنية)، بهدف التحقيق في ما إذا كانت إجراءات نشر القوات وتوسيع صلاحيات الشرطة قد تجاوزت الحدود الدستورية. كما أُدرج ملف الاحتجاجات ضمن جلسات استماع خاصة في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، بعد دعوات من منظمات دولية إلى فتح تحقيق مستقل.

سياسيًا، بادر أكثر من 30 نائبًا ديمقراطيًا في الكونغرس بتقديم مقترحات لتقييد سلطة الرئيس في نشر الجيش داخليًا دون موافقة الكونغرس أو حكام الولايات، إلى جانب مطالبات بإنشاء هيئة رقابية مدنية مستقلة تُشرف على تفاعل الشرطة مع المحتجين وتتمتع بصلاحيات تحقيق وتبليغ ومساءلة.

على المستوى الاجتماعي، بدت الاحتجاجات كحركة تجميعية جامعة لمختلف الأصوات المهمّشة، من مهاجرين يطالبون بإصلاح قوانين الإقامة، إلى نشطاء بيئة يرفضون تواطؤ الشركات العملاقة، إلى مجتمع السود والأقليات الذين يواجهون عنفاً هيكلياً متجذراً.. هذه اللحظة، بوعيها المتقدم وتعدد روافدها، تشير إلى ما يشبه بداية إعادة تشكّل في البنية المدنية للقوة داخل المجتمع الأمريكي.

الحق الدستوري وفوضى الشارع

علّق الدكتور إحسان الخطيب، عضو الحزب الجمهوري وأستاذ العلوم السياسية بجامعة "موراي ستيت"، على المشهد الاحتجاجي المتصاعد في الولايات المتحدة، مبرزًا موقفه من الجدل الدائر حول حدود حرية التعبير وأداء المؤسسات الأمنية، في ضوء الالتزامات الدستورية والدولية للبلاد.

وقال الدكتور الخطيب، في تصريح لـ"جسور بوست"، إن الولايات المتحدة، بوصفها عضوًا في الأمم المتحدة، ملزمة بميثاقها وبالإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الذي يكفل بشكل واضح حرية التعبير والتظاهر السلمي. وأكد في المقابل أن الدستور الأميركي نفسه، عبر التعديل الأول، يضمن هذا الحق لكن باستخدام تعبير دقيق: peaceably to assemble، أي التجمّع السلمي، مشددًا على أن أي خروج عن هذا الإطار القانوني، كأعمال العنف أو الشغب، يخرج الاحتجاج من طبيعته السلمية ويمنح السلطات الحق في تفريقه تحت بند "تجمع غير قانوني" (Illegal assembly).

ورأى أن المشكلة لا تكمن في المحتجين السلميين، بل في فئة محدودة وصفها بأنها "تستغل تلك التجمعات كغطاء للفوضى والاعتداء على الممتلكات والشرطة". 

وأضاف: "كنت في زيارة شخصية لمدينة دي موين بولاية أيوا خلال احتجاجات حركة ’حياة السود مهمة‘، وقد شهدت بعيني حالة من الفوضى؛ بدأنا التظاهر بشكل سلمي، لكن سرعان ما ظهرت مجموعة ملثمة بادرت إلى مهاجمة الشرطة وتحطيم الممتلكات، فيما كنا نحن، السلميين، محاصرين في الوسط. انسحبت فورًا بعدما شعرت بأن الأمور خرجت عن السيطرة".

وعن التقارير التي تتحدث عن تجاوزات ضد الصحفيين والمتظاهرين، قال الخطيب: "نعم، تحدث أخطاء أحيانًا، لكن في غالب الأحيان تكون ناتجة عن حالة من الفوضى العامة، وليست ممارسات ممنهجة. بعض الصحافيين أصيبوا بطلقات مطاطية في مواقع الاحتجاج، ولكن السياق العام كان مربكًا والشارع يعج بالاضطراب، وهو ما يُصعّب على قوات الأمن التفرقة الدقيقة دائمًا".

وأوضح الدكتور الخطيب أن "الرئيس ترامب تدخل بعد يومين من الفوضى التي لم تنجح فيها السلطات المحلية في احتوائها"، مؤكدًا أن إرسال الحرس الوطني جاء "لضبط الشارع، ومنع الاعتداء على المباني الفيدرالية، وحماية أرواح الموظفين". ورفض الخطيب وصف تلك الإجراءات بالقمع، بل وصفها بـ"الاستجابة المتأخرة لحالة من الانفلات الأمني".

وفي ما يخص ملف الهجرة، أشار إلى أن الفوضى المصاحبة لبعض الاحتجاجات يتم توظيفها أحيانًا كأداة ضغط على الدولة لثنيها عن تطبيق القانون في قضايا الهجرة، معتبراً أن هذه "معركة أساسية" لا يقبل ترامب بخسارتها. وأضاف: "الرئيس نجح بشكل استثنائي في ضبط الحدود، لكن عملية الترحيل كانت بطيئة بسبب ضخامة الأعداد، إذ يتراوح عدد المهاجرين غير النظاميين بين 12 و20 مليون شخص، فيما كان الهدف هو ترحيل 3,000 يوميًا، وهو ما يتطلب موارد هائلة".

ورأى الدكتور الخطيب أن "الضغط يجب أن يُمارس على الكونغرس لإيجاد حلول واقعية"، معتبرًا أن "غالبية المهاجرين غير الشرعيين أشخاص صالحون، يمثلون نعمة اقتصادية واجتماعية للولايات المتحدة، ويستحقون معالجة قانونية شاملة تحفظ كرامتهم وتراعي مصلحة البلاد في آن".

وختم بالقول إن المنظمات الحقوقية تلعب دورًا مهمًا في توثيق الانتهاكات، لكنه شدد على أن موازنة الحرية بالأمن ضرورة وطنية، مضيفًا: "لا يمكن التغاضي عن مشاهد إحراق المباني ورفع أعلام دول أجنبية والهجوم على الشرطة، تحت شعار حرية التعبير.. التظاهر السلمي مقدّس، أما العنف فلا يمكن التساهل معه، ولا يمكن لدولة مسؤولة أن تقف متفرجة على انهيار النظام العام".

بين حق التعبير وحدود الدولة

قال المحلل السياسي والكاتب السوداني سيبويه يوسف، إن حرية الرأي تُعدّ من الحقوق الأصيلة التي تكرّست في مبادئ الشريعة الدولية لحقوق الإنسان، وهي ليست حرية مطلقة، بل مرتبطة بمعايير توازن بين الفرد ومجتمعه، وبين التعبير والمسؤولية.. فالفرد، كما يملك الحق في التعبير عن رأيه، فإنه مطالب بعدم المساس بسلامة الدولة أو انتهاك حقوق الآخرين أو ممتلكاتهم، لأن حرية التعبير -وإن كانت مكفولة- إلا أنها لا تبرر الفوضى أو العنف، وكل تجاوز يتحوّل إلى اعتداء على الدولة، مما يشرعن من حيث المبدأ تدخل السلطات لضبط النظام العام، بما يشمل استخدام القوة وفق ما يتيحه القانون.

وأشار يوسف، في تصريحات لـ"جسور بوست"، إلى أن ما شهدته الولايات المتحدة في بعض محطات الاحتجاج لم يعد ضمن دائرة التظاهر السلمي، فبمجرد أن تُحرق السيارات، وتُهاجم المباني، وتتحوّل الشوارع إلى مسارح للمواجهات، تكون الصورة قد انقلبت من مجرد احتجاج إلى تمرد على هيبة الدولة، وهنا يبرز التحدي بين حفظ النظام العام واحترام الحريات.

ولفت إلى أن كثيرًا من التوترات في المناطق التي شهدت احتجاجات، لا يمكن فصلها عن التكوين السكاني الخاص بها. فمدينة مثل لوس أنجلوس، رغم أنها أميركية الهوية، فإن جذورها المكسيكية لا تزال حاضرة في نسيجها الثقافي والاجتماعي.. وهذا يجعل من قضية المهاجرين غير النظاميين هناك مسألة أكثر تعقيدًا، إذ تُستحضر أحيانًا بوصفها جزءًا من صراع تاريخي قديم يتخذ اليوم وجوهًا جديدة في ظل قوانين الهجرة الصارمة والإجراءات الحدودية.

ويرى يوسف أن من حق الولايات المتحدة أن تدير ملف الهجرة وفق ما يخدم مصالحها، ولكن بشرط أن توازن بين الإجراءات الأمنية والحس الإنساني في المعالجة، خاصة أن كثيرًا من المهاجرين غير النظاميين ينتمون لفئات دُفعت للهجرة لأسباب قهرية تتعلق بالعنف والفقر في بلدانهم الأصلية. 

وأضاف: “لا يمكن أن نفصل أي قضية حقوقية عن بعدها الإنساني، ولا عن واجب الدولة في الحفاظ على نسيجها الداخلي المتماسك، لكن ذلك يجب أن يتم دون انزلاق إلى انتهاكات ممنهجة، ودون أن يُفتح الباب أمام العنف المضاد”.

ووجّه نقدًا مبطنًا لبعض المنظمات الحقوقية التي تنحاز، برأيه، بشكل مفرط إلى جانب المتظاهرين، متناسية أن الدولة أيضًا تملك حقوقًا في حماية مؤسساتها ومواطنيها من التهديدات، وأن تكرار حالات الشغب قد يُفقد الاحتجاجات معناها السلمي.

وختم بالقول إن المشهد الأميركي يعكس جدلية مستمرة بين مطلب الحرية وضرورات الأمن، وبين الحقوق الفردية ومتطلبات السيادة، وإن التوازن في هذا المجال هو التحدي الأكبر الذي يواجهه أي نظام ديمقراطي يواجه اضطرابات داخلية.

 



ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية