إيرلندا تبدأ في استخراج رفات 796 طفلاً من مقبرة جماعية تديرها راهبات
إيرلندا تبدأ في استخراج رفات 796 طفلاً من مقبرة جماعية تديرها راهبات
بعد أكثر من عقد على كشف واحدة من أفظع الفضائح الإنسانية في تاريخ إيرلندا الحديث، تبدأ هذا الشهر عمليات استخراج رفات مئات الأطفال الذين دُفنوا في مقبرة جماعية داخل دار سابق للأمهات العازبات في بلدة توام (Tuam) غرب البلاد.
قادت هذه المعركة الشاقة المؤرخة الإيرلندية كاترين كورليس (71 عاماً)، التي كشفت عام 2014 عن وجود مقبرة جماعية تضم رفات 796 طفلاً تراوح أعمارهم من حديثي الولادة إلى 9 سنوات، ماتوا بين عامي 1925 و1961 في مؤسسة كانت تُدار من قبل راهبات كاثوليكيات وتُعرف باسم "دار الأم والطفل".
قالت كورليس في مقابلة مع وكالة "فرانس برس": "عندما بدأت، لم ينصت إليّ أحد.. توسلت إليهم لإخراج هؤلاء الأطفال من المجاري ودفنهم دفنًا كريمًا، لكنهم تجاهلوني تمامًا".
دار للموت المقنّع
المأساة تعود إلى فترة كانت الكنيسة الكاثوليكية والمجتمع الإيرلندي والدولة ينظرون فيها إلى الأمهات العازبات باعتبارهن وصمة عار، فكان يتم احتجازهن قسرًا في دور مغلقة، تُنتزع منهن أطفالهن لاحقًا.
في دار "توام"، لم تُسجل أسماء الأطفال في سجلات دفن، ولم يُعثر على شواهد قبور أو صلبان، ولم يُدلل على وجود مقبرة من الأساس، حتى تم الكشف عن خزان إسمنتي كبير تحت الأرض وُجدت فيه عشرات الهياكل العظمية عامي 2016 و2017.
رغم ذلك، لم يتحرك التشريع الإيرلندي حتى عام 2022، حين تم سن قانون رسمي يسمح بالتنقيب في مواقع "دُور الأم والطفل"، وتشكيل فريق خاص لتحديد هويات الضحايا ودفنهم بصورة لائقة.
وتشير التحقيقات الرسمية التي تلت أبحاث كورليس إلى أن أكثر من 56 ألف امرأة و57 ألف طفل مرّوا عبر 18 مؤسسة مماثلة بين عامي 1922 و1998، تُوفي منهم ما يُقارب 9 آلاف طفل نتيجة الإهمال وسوء المعاملة وسوء التغذية، في مشهد يتناقض مع القيم الأخلاقية والدينية التي كانت تُروج لها الكنيسة.
وكانت بعض تلك المؤسسات تُدار من قبل الراهبات، في حين كانت أخرى تخضع لإشراف السلطات الصحية المحلية.
قالت كورليس: "جميع هؤلاء الأطفال تم تعميدهم، لكن الكنيسة غضت الطرف عنهم، لأنهم غير شرعيين... بالنسبة لهم، لم يكونوا مهمين، وانتهى الأمر".
شهادات مؤلمة و"عدالة مؤجلة"
آنا كوريغان، واحدة من أقارب الأطفال المفقودين، اكتشفت في الخمسينات من عمرها أن والدتها الراحلة أنجبت طفلين في "توام"، لم تُمنح لها أي معلومات دقيقة عن مصيرهم.
قالت كوريغان: "ثمة أسرار صغيرة قذرة في إيرلندا نفضل إخفاءها... البلاد التي تتمتع بسمعة طيبة في الخارج تخفي جانبًا مظلمًا وكئيبًا في الداخل".
وأضافت أن أحد الأطفال فُقد دون تسجيل رسمي للوفاة، فيما الآخر ربما تم بيعه للتبني بطريقة غير قانونية في الخارج، وهو ما كان يحصل في حالات عدة بحسب تقارير دولية.
العدالة تنتظر دفناً لائقاً
بحسب الفريق المكلف بالمهمة، فإن أعمال التنقيب ستشمل استخراج الرفات، وتحليل الحمض النووي للأهالي الذين يستطيعون إثبات روابط عائلية، على أمل التعرّف إلى هوية بعض الضحايا، ومن ثم إقامة جنازات مناسبة لهم.
لكن كورليس تحذر من المبالغة في التوقعات: "لن نتمكن من معرفة هوية الجميع. كثير من الوثائق مفقودة أو زُورت... قد لا يحصل الجميع على إجابات، لكن هذه الخطوة ضرورية من أجل كرامتهم، ومن أجلنا جميعًا".
ولا تمثل هذه الفضيحة مجرد مأساة تاريخية، بل تفتح الباب أمام نقاش واسع حول دور الدولة والكنيسة في التواطؤ على إسكات الحقيقة لعقود، وسط مطالب متزايدة بتقديم اعتذارات رسمية وتعويضات لعائلات الضحايا.
وإذا كانت الخطوة الحالية تمثل بداية طريق العدالة، فإنها كذلك محطة فاصلة في تاريخ إيرلندا الحديث، لإعادة الاعتبار لضحايا "العار المُمنهج"، ولإعادة كتابة سردية وطنية ما زالت تُخفي جراحها خلف جدران الصمت.