غياب الضوء.. حين تُطفئ العتمة أحلام 666 مليون إنسان في زمن الطاقة الذكية
غياب الضوء.. حين تُطفئ العتمة أحلام 666 مليون إنسان في زمن الطاقة الذكية
في عالمٍ يُنار ليله بالمصابيح الذكية وتُدار نهاراته بتطبيقات الذكاء الاصطناعي، لا يزال في الزوايا المنسية من هذا الكوكب أكثر من 666 مليون إنسان يعيشون في ظلامٍ دائم.. ظلام ليس مجازًا عن العزلة أو التهميش، بل ظلامٌ فعلي، مادي، يُطفئ شمعة الحياة قبل أوانها، ويُقيد الأحلام في قيد العتمة.
وبينما تصل الكهرباء اليوم إلى نحو 92% من سكان العالم، بحسب تقرير أممي حديث صادر عن منظمة الصحة العالمية وعدد من الشركاء الدوليين، فإن الوتيرة الحالية لهذا التقدم لا تزال أقرب إلى السير على قدمٍ واحدة، في ماراثون يتطلب الجري بأقصى سرعة لتحقيق "العدالة الطاقية" قبل عام 2030.
التقرير الصادر هذا الأسبوع، والذي رصده موقع "أخبار الأمم المتحدة"، رسم صورة قاتمة رغم الخط البياني الصاعد في نسب التوصيل الكهربائي حول العالم. إذ حذّر من أن التقدم الحالي، وإن بدا واعدًا على الورق، لا يزال هشًّا في عمقه، بطيئًا في خطاه، غير كافٍ للوصول إلى الهدف السابع من أهداف التنمية المستدامة: "ضمان حصول الجميع على خدمات الطاقة الحديثة والموثوقة والمستدامة بأسعار معقولة بحلول عام 2030".
ويكشف التقرير أن 666 مليون شخص، غالبيتهم العظمى في إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، لا يزالون غير متصلين بأي شبكة كهربائية. وهذه ليست مجرّد فئة "إحصائية" تُذكر في الهامش، بل هي واقع إنساني متفجر، يتجلى في حرمان من التعليم، وصعوبة في الرعاية الصحية، وشلل في الأنشطة الاقتصادية.
في إفريقيا، ما يقرب من 85% من المحرومين من الكهرباء عالميًا يقطنون جنوب الصحراء، أما القدرة الكهربائية المركبة من مصادر الطاقة المتجددة هناك فلا تتعدى 40 واطًا للفرد، وهي كمية لا تكفي لتشغيل مروحة صغيرة في قيظ الظهيرة، وللمقارنة، فإن هذا الرقم لا يعادل سوى ثُمن المعدل في البلدان النامية الأخرى، بحسب تقرير وكالة الطاقة الدولية.
الحلول الممكنة
ويسلط التقرير الضوء على الحلول الممكنة، ومنها الأنظمة اللامركزية للطاقة المتجددة: الألواح الشمسية الصغيرة، المحطات المحمولة، والمولدات العاملة بالغاز الحيوي، وهذه الأدوات ليست فقط فعّالة من حيث الكلفة، بل أكثر استدامة بيئيًا، وتملك القدرة على تجاوز عقبات البنية التحتية التقليدية، ويمكن لهذه النظم أن تشكّل "شموعًا ذكية" في المناطق التي لم تبلغها أعمدة الكهرباء بعد، خاصةً في القرى الريفية.
وفي هذا السياق، يؤكد المدير العام لمنظمة الصحة العالمية، الدكتور تيدروس أدهانوم غيبريسوس، أن "الملوثات نفسها التي تسمم كوكبنا تسمم أجسادنا أيضًا"، مشيرًا إلى أن الاعتماد على تقنيات خارج الشبكة مثل الطهي الكهربائي أو الغاز الحيوي يمكن أن يحدث فرقًا جذريًا إذا ما توفر بالدعم الكافي.
لكن العائق الأضخم الذي يلوح في الأفق ليس تقنيًا، بل مالي، إذ يشير التقرير إلى أن التمويل الميسر والطموح، لا يزال غائبًا عن مشهد الطاقة المستدامة، رغم كل الوعود، فالدول النامية، رغم تحسن طفيف في تدفقات التمويل منذ 2022، تلقت في عام 2023 تمويلًا أقل بكثير مما كان يُضخّ في عام 2016. وبهذا المعنى، فإن "أزمة الظلام" ليست فقط مأساة إنسانية، بل فشل في هندسة الأولويات العالمية.
وأطلق مدير شعبة الإحصاءات بالأمم المتحدة، ستيفان شفينفست، دعوة واضحة، قائلا: "حان وقت التكاتف والبناء على ما تحقق. نحتاج إلى تسريع التعاون الدولي وتعزيز الشراكات بين القطاعين العام والخاص، خصوصًا في دعم إفريقيا"، إنها دعوة لفك الحصار غير المرئي المفروض على مئات الملايين، لا بقرارات سياسية فقط، بل برؤية إنسانية شاملة تُعيد تعريف معنى التنمية.
وبينما تتسابق العواصم الكبرى في نشر أهداف "الحياد الكربوني" و"الاقتصاد الأخضر"، يبدو أن كثيرًا من هذا الخطاب يُبنى على أرض غير مستوية. كيف نتحدث عن تحولات الطاقة العالمية، بينما ثلث سكان بعض الدول لا يجدون لمبة تضيء عشاءهم؟ كيف ننادي بالتخفيف من الانبعاثات، بينما تُجبر ملايين النساء يوميًا على حرق الخشب والفحم لطهو وجبة؟ هنا، تُصبح "العدالة المناخية" و"العدالة الطاقية" ليست شعارات بيئية، بل مسألة كرامة ووجود.
الطاقة المتجددة كحل
رغم كل ما قيل عن الطاقة المتجددة بوصفها "حل المستقبل"، فإنها، بحسب التقرير، يجب أن تكون "حل الحاضر"، خاصة في المناطق النائية. وإذا كان الأمل في الطاقة الشمسية، والرياح، والغاز الحيوي، فعلى المجتمع الدولي أن يتحرك من طور الكلام إلى طور الاستثمار، من طور الأهداف المجردة إلى طور الإنجاز الملموس.
وليس المطلوب معجزة، بل إرادة. المطلوب أن يتم توجيه التمويل العالمي إلى حيث الحاجة الحقيقية، لا إلى حيث العائد الأكبر فحسب. فالبنك الدولي، وصناديق التنمية، وحكومات الشمال، تملك الإمكانيات لتغيير المشهد جذريًا في أقل من عقد، لكن السؤال: هل تملك الرغبة؟
ومع بقاء خمس سنوات فقط على موعد 2030، تبدو العقارب تتحرك أسرع من القدرة العالمية على الوفاء بالوعود. وإذا استمرت الوتيرة الحالية، فإن الهدف السابع من أهداف التنمية المستدامة سيبقى معلقًا في سماء الخُطب، بعيدًا عن أرض الواقع.
ربما يكون أكثر ما يختصر المفارقة هو ما قاله المدير التنفيذي لوكالة الطاقة الدولية، فاتح بيرول: "رغم التقدم المحرز، فإن توسيع نطاق الوصول إلى الكهرباء والطهي النظيف لا يزال بطيئًا بشكل مخيب للآمال".
الحق في الماء والكهرباء
قال رئيس المركز التونسي لحقوق الإنسان، مصطفى عبد الكبير، إن الحق في الوصول إلى الموارد الأساسية مثل الماء الصالح للشرب والتيار الكهربائي ليس رفاهًا أو ترفًا، بل من الحقوق الإنسانية الأساسية المكفولة بموجب المواثيق الدولية والدساتير الوطنية، مؤكدا أن حرمان الشعوب من هذه المقومات يمثل خرقًا فادحًا للكرامة الإنسانية وتقصيرًا فاضحًا في الواجبات الأساسية للدول، حتى في الحالات التي لا تشهد صراعات مسلحة أو نزاعات سياسية.
وأوضح عبد الكبير في تصريحات لـ"جسور بوست"، أن مئات الملايين حول العالم محرومون من حقهم في الماء الصالح للشرب، ما ينعكس مباشرة على الصحة العامة، حيث تتكاثر الأمراض المرتبطة بتلوث المياه وسوء التغذية، وتنهار القدرات المناعية لأجيال بأكملها، وتنتشر الأوبئة وسط ضعف بيئي شامل.
واعتبر أن الأسباب متعددة، في مقدمتها الصراعات المسلحة، وسوء إدارة الموارد المائية، وغياب سياسات رشيدة، فضلاً عن الصراعات الجيوسياسية حول مصادر المياه، والتي غالبًا ما تؤدي إلى تسييس هذا المورد الحيوي. وأردف أن الاستبداد السياسي يمثل عائقًا رئيسيًا أمام تمكين المواطنين من حقوقهم الاقتصادية والاجتماعية، وعلى رأسها الماء.
وأضاف عبد الكبير، أن بعض الدول، رغم خلوها من النزاعات والحروب، تعاني شعوبها من انقطاعات مستمرة في الماء، ويضطر الناس إلى استخدام مياه آبار ملوثة أو مياه أمطار راكدة، ما يفاقم الأزمة ويعمق الجراح.
وانتقد غياب المنظمات الدولية عن أداء دورها الحقيقي في تمويل وإنجاز مشاريع تُمكّن من الوصول إلى مصادر مياه آمنة، لاسيما في الدول الإفريقية والآسيوية التي تملك في باطن أراضيها مخزونًا هائلًا من المياه الجوفية غير المستغل بسبب غياب الإرادة السياسية أو عجز الحكومات عن تمويل مشاريع البنية التحتية.
وانتقد عبد الكبير الحكومات التي تفشل في استثمار الموارد البديلة مثل الطاقة الشمسية، رغم وفرتها الهائلة، خصوصًا في المناطق الإفريقية والآسيوية. وأضاف أن غياب الحوكمة الرشيدة، وغياب الإرادة السياسية، واستمرار الهيمنة الأجنبية على القرار الاقتصادي في كثير من الدول الفقيرة، كلها عوامل تعمق فجوة التنمية وتبقي الملايين في الظلام.
وقال إن المشكلة لا تقتصر على القدرات التقنية، بل على غياب الرؤية الواضحة والفساد الذي يعطل كل إصلاح، مضيفًا أن الطاقات البديلة، مثل الشمس والرياح والمياه، يمكن أن تتحول إلى قاطرة للنهضة الشاملة، لو توفرت الإرادة السياسية والمساعدة الدولية. وأكد أن الحق في الكهرباء هو حق تنموي بامتياز، يتقاطع مع كل مناحي الحياة: من التعليم إلى الصحة إلى الاقتصاد إلى الثقافة.
وختم عبد الكبير تصريحه بالتنبيه إلى أن استمرار هذه الأوضاع في ظل السباق الدولي نحو التسلح واحتكار الموارد، يؤكد أن هناك صراعًا واضحًا بين من يسعى لنهضة الإنسانية، ومن يصر على إبقائها في العتمة والعطش، معتبرا أن العدالة الطاقية والمائية يجب أن تتحول إلى محور أساسي في السياسات الدولية، إذا ما أراد العالم فعلاً بناء مستقبل آمن للبشرية.
الطاقة حق إنساني
قالت خبيرة حقوق الإنسان، الدكتورة أسماء رمزي، إن تحقيق العدالة الطاقية بحلول عام 2030 لم يعد خيارًا أخلاقيًا فحسب، بل ضرورة إنسانية عاجلة، تستوجب تضافر الجهود الدولية وتكاتف السياسات التنموية والبيئية على حد سواء، مؤكدة أن الكهرباء لم تعد رفاهية كما يُنظر إليها في بعض السياقات، بل هي حق أساسي من حقوق الإنسان، لا يقل شأنًا عن الحق في الحياة، والصحة، والتعليم، والعيش الكريم.
وحذّرت رمزي، في تصريحات لـ"جسور بوست"، من أن استمرار حرمان ملايين البشر من الوصول إلى الكهرباء، يعني استمرار تهميشهم، وتكريس واقع قاسٍ من الفقر وعدم المساواة، مضيفة أن العيش في الظلام لم يعد مجرد انقطاع في التيار، بل انقطاع في فرص الحياة الكريمة، وقطعٌ للطريق نحو مستقبل آمن وتنمية شاملة.
وشرحت الدكتورة رمزي، أن غياب الكهرباء يُعد انتهاكًا صارخًا لجملة من الحقوق الأساسية، تبدأ من الحق في الصحة، حيث تعتمد المراكز الطبية على الطاقة لتشغيل الأجهزة الحيوية، وحفظ الأدوية واللقاحات، وتوفير الإضاءة الضرورية للعمليات والإسعافات. كما أن غياب الطاقة يهدد الحق في التعليم، إذ يُحرم الطلاب من الدراسة بعد غروب الشمس، ويمنع المدارس من استخدام أدوات التكنولوجيا، مما يُفاقم الفجوة المعرفية والرقمية.
وفي ما يتعلّق بالتنمية الاقتصادية، شدّدت رمزي، على أن الكهرباء تشكّل العمود الفقري لفرص العمل، وتشغيل المصانع والمشاريع الصغيرة، وبالتالي فإن انعدامها يُبقي المجتمعات في دائرة الفقر والاعتماد على وسائل ملوثة كالفحم والحطب.
وتطرقت الخبيرة الحقوقية إلى الأبعاد الاجتماعية والصحية لهذا الانعدام، مشيرة إلى أن ملايين الأسر لا تملك خيارًا سوى استخدام الكيروسين والشموع، ما يتسبب بأمراض تنفسية مزمنة، خاصة للأطفال وكبار السن، ناهيك عن الحرائق المنزلية. كما أن غياب التبريد المناسب يحرم المراكز الصحية من حفظ اللقاحات، ما يشكل تهديدًا مباشرًا للأمن الصحي في هذه المناطق.
وفي سياق متصل، حمّلت رمزي الدول الغنية جزءًا كبيرًا من المسؤولية، داعية إياها إلى الالتزام الأخلاقي والبيئي بتمويل مشاريع الكهرباء النظيفة في الدول الفقيرة وتيسير نقل التكنولوجيا بأسعار عادلة.
واختتمت الدكتورة أسماء رمزي تصريحها بالقول، إن العدالة الطاقية ليست مطلبًا تقنيًا فحسب، بل هي ترجمة فعلية لحق الإنسان في أن يحيا حياة تليق بكرامته، وتكفل له المشاركة الفعّالة في بناء مجتمعه، وحماية بيئته، وصناعة مستقبله.