"العدالة المؤجلة".. الأمم المتحدة توثق 32 ألف انتهاك لحقوق الأطفال حول العالم
"العدالة المؤجلة".. الأمم المتحدة توثق 32 ألف انتهاك لحقوق الأطفال حول العالم
وثّقت الأمم المتحدة أرقامًا صادمة عن انتهاكات جسيمة بحق الأطفال في مناطق النزاع خلال عام 2024، واصفة العام بأنه الأسوأ منذ ثلاثة عقود من حيث الاعتداءات على الطفولة.
وأكدت الممثلة الخاصة للأمين العام للأمم المتحدة المعنية بالأطفال والنزاعات المسلحة، الدبلوماسية الأرجنتينية فيرجينيا غامبا، أن المنظمة سجّلت خلال العام الماضي أكثر من 32,500 انتهاك جسيم في حق الأطفال حول العالم، تضمنت عمليات قتل وتشويه وتجنيد قسري، واعتداءات جنسية، وهجمات على المدارس والمستشفيات، وحرمانًا من المساعدات الإنسانية، وذلك بحسب التقرير السنوي الذي صدر في يونيو 2025.
وانتقدت غامبا ما وصفته بـ"صمت العالم المريب"، مشيرة إلى أن معظم هذه الانتهاكات تقع بشكل ممنهج ومستمر، سواء أمام أنظار المجتمع الدولي أو في ظل تعتيم إعلامي متعمد، ما يجعل من هذه المآسي سلسلة جرائم ترتكب بإفلات من العقاب.
وحذّرت من الانزلاق الأخلاقي في التعامل مع حقوق الأطفال، مؤكدة أن التقاعس الدولي عن المحاسبة أدى إلى تعاظم الأزمات الإنسانية، لا سيما في مناطق مثل غزة ودارفور واليمن وسوريا، التي سجلت أعلى معدلات الانتهاكات.
قوانين بلا نفاذ
رغم وضوح الأطر القانونية الدولية، بيّنت الأمم المتحدة أن التطبيق ما زال معطّلاً بفعل غياب الإرادة السياسية، وتستند المنظمة في تقاريرها إلى اتفاقية حقوق الطفل لعام 1989، والبروتوكول الاختياري بشأن إشراك الأطفال في النزاعات المسلحة (2000)، إلى جانب نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، الذي يدرج تجنيد الأطفال ضمن جرائم الحرب.
وسجّل التقرير الإشارة إلى سابقة محاكمة القائد الكونغولي توماس لوبانغا، الذي أدين بتجنيد الأطفال، معتبرًا ذلك نموذجًا للمحاسبة، لكنه ما يزال استثناءً نادرًا في غياب تفعيل آليات دولية صارمة.
وأبرز التقرير حجم المأساة في قطاع غزة، حيث أكدت بيانات منظمة الأمم المتحدة للطفولة "اليونيسف" أن أكثر من 17,000 طفل فقدوا أحد والديهم أو كليهما منذ بدء العدوان الإسرائيلي في أكتوبر 2023 حتى منتصف 2024، فيما تجاوز عدد المصابين 13,000 طفل، كثير منهم تعرضوا لبتر أطراف أو إعاقات دائمة.
كما رصد التقرير تداعيات الحرب الأهلية في السودان، خصوصًا في دارفور، حيث تُعاني مناطق واسعة من انهيار التعليم، مع تعطل نحو 70% من المدارس، وفق بيانات مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة (OCHA).
وسلّط التقرير الضوء على التأثيرات النفسية المروعة للنزاعات على الأطفال، مؤكدًا أن الكثير منهم يعانون من اضطراب كرب ما بعد الصدمة، والاكتئاب، والميول الانتحارية، نتيجة مشاهدتهم للعنف أو فقدانهم ذويهم أو إجبارهم على القتال.
واعتبر التقرير أن انهيار التعليم في مناطق الصراع لا يمثل فقط حرمانًا من الحق في الدراسة، بل يفتح الباب أمام جيل كامل معرض للتجنيد والاستغلال والفقر والجهل.
فعالية مشكوك فيها
أشار التقرير إلى أن أدوات الأمم المتحدة مثل "قائمة العار" التي تُدرج فيها الأطراف المتورطة بانتهاكات ضد الأطفال، تخضع لتجاذبات سياسية. فقد سبق إدراج التحالف بقيادة السعودية في اليمن، ثم شُطب لاحقًا، كما تجنّب الأمين العام مرارًا إدراج الجيش الإسرائيلي رغم الأدلة الدامغة على الجرائم المرتكبة ضد الأطفال في فلسطين، بحسب تقارير منظمات حقوقية.
واعتبر التقرير أن هذه الازدواجية تضعف مصداقية النظام الدولي وتكرّس ثقافة الإفلات من العقاب.
ولفت التقرير إلى العقبات التي تعترض إيصال المساعدات الإنسانية في مناطق النزاع، مشيرًا إلى أن إسرائيل عرقلت بشدة إدخال الإمدادات إلى غزة، بينما تعرقل الاشتباكات في السودان وصول فرق الإغاثة للمخيمات المكتظة، ما يفاقم معاناة الأطفال من سوء التغذية والأوبئة.
ورغم أن الأمم المتحدة أصدرت هذا التقرير السنوي المدعوم بالصور والأدلة والشهادات، فإن فاعليته تبقى رهينة بإرادة المجتمع الدولي، وبما يتبعه من خطوات ملموسة مثل التحقيقات أو الإحالات للمحكمة الجنائية أو فرض العقوبات.
وأكّدت فيرجينيا غامبا أن التقارير الأممية ليست مجرد وثائق أرشيفية، بل مرآة للضمير العالمي، تُسجل الانتهاكات، وتمنع تزوير الحقائق، وتمنح الناشطين والمجتمع المدني أدوات للمحاسبة والضغط، لكنها شدّدت في الوقت ذاته على أن هذه الوثائق وحدها لا توقف القصف، ولا تعيد الأطفال إلى مقاعد الدراسة، ما لم تتحول إلى قرارات سياسية حاسمة، وآليات محاسبة دولية لا تستثني أحدًا.
انتهاكات الأطفال بمناطق النزاع
اعتبر الدكتور مجيد بودن، رئيس جمعية محامين القانون الدولي في باريس، أن التقرير الأخير الصادر عن الأمم المتحدة حول النزاعات المسلحة والانتهاكات الجسيمة التي يتعرض لها الأطفال في مناطق الصراع، يمثل ناقوس خطر يجب ألا يُكتفى بقراءته بل أن يُفعّل قانونيًا وأخلاقيًا وسياسيًا، خاصة أن عام 2024 سجّل ـ حسب التقرير ـ أعلى معدلات لانتهاك حقوق الأطفال منذ عقود، مع تركّز هذه الانتهاكات في مناطق مثل غزة، أوكرانيا، دارفور، الكونغو وهايتي، إلى جانب بؤر توتر أخرى حول العالم.
وأكد بودن، في تصريحات لـ"جسور بوست"، أن هذا التقرير الأممي ليس وثيقة توصيفية فحسب، بل يجب أن يُعتمد كدليل إثبات قانوني، يحرك الدعوات أمام المحاكم الدولية لمساءلة المسؤولين عن هذه الجرائم التي تطال المدنيين، وخصوصاً الأطفال، الذين يتمتعون بحماية خاصة بموجب القانون الدولي الإنساني واتفاقيات جنيف، بل وتُعدّ الاعتداءات عليهم جرائم حرب موصوفة، يجب أن يُحاسب مرتكبوها أمام العدالة، سواء كانوا أفرادًا أو دولًا أو جماعات مسلحة.
وأشار إلى أن هناك معاهدات دولية، في مقدمتها "اتفاقية حقوق الطفل"، تُلزم الدول بتوفير الحماية الشاملة للأطفال دون أي تمييز، سواء في أوقات السلم أو الحرب، وتشمل هذه الحماية الجوانب النفسية، الجسدية، التعليمية، والصحية، إضافة إلى ضمان البيئة الاجتماعية التي تحترم كرامتهم وتصون حقهم في الحياة الكريمة. وكل دولة تُخلّ بهذه الالتزامات تُعتبر خاضعة للمساءلة الدولية، سواء بعدم منع الانتهاكات أو بالتقاعس عن محاسبة مرتكبيها.
وأوضح بودن، أن حماية الأطفال ليست قضية إنسانية فقط، بل هي ركيزة لاستقرار المجتمعات وسلامها الداخلي، ذلك أن الأطفال الذين يتعرضون للعنف في سن مبكر، سواء في البيت أو في محيطهم أو في سياق النزاعات المسلحة، يصبحون أكثر عرضة لتبني ثقافة العنف لاحقًا، مما يحوّلهم من ضحايا إلى فاعلين محتملين في دوامة العنف المستمرة، وهذا ما يُحدث شرخًا في نسيج المجتمع، ويغذّي دائرة الانتقام وانهيار المعايير الأخلاقية والقانونية.
وشدد بودن على أن الصمت الدولي أو المواقف الرمادية تُعدّ نوعًا من التواطؤ غير المباشر، معتبرًا أن الدول التي تتلكأ في اتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة، أو تكتفي بالإدانة اللفظية دون تحريك آليات المساءلة، تتحمل قسطًا من المسؤولية عن استدامة هذه الجرائم، وأن غياب العدالة يولد جيلاً كاملاً مشبعًا بالإحباط والتطرف والعنف.
وأضاف أن النموذج الأكثر فظاعة لذلك يتجلى في غزة، حيث حوّل الاحتلال الإسرائيلي العنف إلى مكوّن يومي من مكونات الحياة، بل إلى أداة لتغيير البنية النفسية والاجتماعية للطفل الفلسطيني، في محاولة لفرض ثقافة الهزيمة والعجز، وهو ما اعتبره الدكتور بودن جريمة مركبة، لا تستهدف الجسد فقط، بل تستهدف الذاكرة والهوية والكرامة والحق في الأمل.
ولفت إلى أن ما يحدث في دارفور أو الكونغو أو هايتي من استباحة لأجساد الأطفال وكرامتهم، يشكل صورة أخرى للعنف البنيوي الذي يغذيه غياب المساءلة وازدواجية المعايير الدولية، محذرًا من أن هذه الانتهاكات لا تقتصر على اللحظة الراهنة، بل تُمهّد لمستقبل مظلم تكون فيه المجتمعات هشّة، قابلة للانهيار أمام جماعات الجريمة المنظمة أو القوى الاستعمارية الجديدة.
وتابع بودن، قائلاً: إن "التقارير الأممية، مهما كانت دقيقة، لا تكفي"، مؤكدًا أن الأمم المتحدة تمتلك أدوات قانونية وآليات تحقيق دولية يجب تفعيلها، لا سيما من خلال المحكمة الجنائية الدولية، التي تُخوّل لها محاسبة مرتكبي الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب، بما في ذلك الجرائم الموجهة ضد الأطفال، والتي تُعتبر من أشد الجرائم خطورة وأشدها إلحاحًا على العدالة الدولية.
وختم تصريحه بالتأكيد على أن حماية الأطفال ليست مسألة خيار سياسي أو تعبير عن حسن نية، بل واجب قانوني وأخلاقي وإنساني، يرتبط بمستقبل البشرية ككل، مشيرًا إلى أن رعاية الأطفال هي رعاية للمستقبل، وأن من يُفرّط في طفولة اليوم، يزرع فوضى الغد، داعيا الدول إلى التحرك الفوري لتفعيل الاتفاقيات الدولية، ومعاقبة كل من يسهم في تكريس العنف ضد الأطفال، مشددًا على أن لا سلام حقيقي يُبنى على جراح الطفولة، ولا عدالة تُكتب على أنقاض أرواحهم الصغيرة.
واقع قاسٍ بمناطق النزاع
عبّر إبراهيم شيخو، مدير منظمة حقوق الإنسان في عفرين، بصيغة واضحة وحازمة تُلخص واقعَ الأطفال في مناطق النزاع، مقتبساً من خبرته والمعطيات الراهنة قائلًا«إنّ هناك أطرًا قانونية واضحة تُتيح محاسبة مرتكبي الجرائم، عامةً، والأطفال تحديدًا، في مناطق النزاع المسلح، لا يمكن تجاهل ما يكفله لهم القانون الدولي، من اتفاقيات كانت أو مواثيق، وأولها “اتفاقية حقوق الطفل”، التي تُعدّ حائط صدّ أمام جميع أنواع الانتهاكات، سواء كانت جسدية أو معنوية. ففي النزاعات المسلحة، نواجه صورًا مؤلمة من إصابات واعتداءات تُضرب في صلب حياة الأطفال، من قتل وتشويه إلى حرمانٍ تعسفي من التعليم أو فصل عن الأسرة.
وقال شيخو، في تصريحات لـ"جسور بوست"، إن التأثيرات السلبية لهذه الانتهاكات لا تقف عند حد الجسد، فالطفل المُبعد عن مقاعد المدرسة أو الذي أُجبِر على تركها، محكومٌ بأن تنمو فيه بدائلٌ خطرة: من المخدرات والتدخين إلى العنف المُنظّم الذي يترعرع في بيئات النزوح. إذ إنّ كثيرًا من الأطفال باتوا هدفًا لعصابات مسلّحة، تُغرّهم بأموالٍ أو سلاح، لتشكّلهم في أجهزةٍ لإجرامٍ منظّم، بينما ينتهي مصيرهم إلى دائرة الجريمة والاعتقال، وتنتشلهم حافة المجتمع التي لم توفرهم حمايةً كافية».
وأشار مدير المنظمة إلى هشاشة التنفيذ القانوني، رغم صرامة النصوص الدولية: في سوريا، على سبيل المثال، شهدنا انتهاكات وتجاوزات أضحت تقليدًا؛ آلافُ الأطفال فقدوا حياتهم، أو أصيبوا، أو اختُطفوا، أو نزحوا، بينما شهد بعض المدارس تحوّلات مريعة إلى مراكز لتعذيب وتحقيق، وبرغم صدور عشرات التقارير من الأمم المتحدة ومنظمات دولية تُدين هذه الجرائم عامةً ضد المدنيين، والأطفال على وجه الخصوص، فإن وتيرة الانتهاكات لم تقلّ، بل زادتها اشتعالاً.
ووجّه شيخو رسالة إلى المجتمع الدولي والجهات القضائية الدولية، قائلا: إنّ التقارير الصادرة عن الأمم المتحدة والمجالس الدولية تحمل في مضامينها إنذارًا واضحًا للمجرمين، فجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية لا تسقط بالتقادم، والطريق إلى العدالة يمرّ عبر التحقيقات المحكمة، والإحالة إلى المحاكم الدولية، وتوقيع عقوبات ملموسة، ويجب ألا ننتظر 5 أو 10 سنوات، حتى تُصنف تلك الجرائم، أو يُسمح بوثائقها في محكمة، بل يجب التحرك فورًا، فالأطفال الآن يُزهقون، وطفولتهم تُسرق.