غابات على حافة الموج.. كيف تحوّلت جذور المانجروف إلى أذرع تُقاتل الكربون؟

غابات على حافة الموج.. كيف تحوّلت جذور المانجروف إلى أذرع تُقاتل الكربون؟
غابات- أرشيف

حين تسللت جموع الشجيرات الخضراء على شواطئ تتآكل تحت ضغط البحر والخرسانة، أعلنت الطبيعة عودتها إلى المعركة، غابات المانجروف، التي تشابكت جذورها في الماء والرماد، أثبتت قدرتها على حماية الأرض وسكانها، فباتت اليوم الحائط الأول في وجه تغير المناخ وارتفاع مستوى البحار.

في مصر، تفرقت غابات المانجروف على ساحل البحر الأحمر، في بقع لا تتجاوز 500 هكتار، وتعرضت هذه الغابات لتآكل بفعل الإهمال ومشاريع البناء السياحي، لكن الدولة أدركت منذ عام 2020 أهمية هذه النباتات المالحة، وأطلقت مشروعًا لإعادة زراعة 210 هكتارات جديدة في مواقع شملت سفاجا وحماطة والقلعان، في محاولة لإحياء النظم البيئية الساحلية ومقاومة تعرية الشواطئ.

وفي الخليج، بادرت الإمارات منذ سبعينيات القرن الماضي إلى زراعة أولى شتلات المانجروف في أبوظبي، ومنذ عام 2003، نمت هذه الغابات إلى 6400 هكتار، ناتجة عن أكثر من 20 مليون بذرة، منها 1.2 مليون تمت زراعتها بواسطة طائرات بدون طيار.

وفي تقرير مشترك حديث، أوضحت دراسات بالأقمار الصناعية أن مساحة المانجروف في الدولة ارتفعت من 7081 هكتارًا في 2017 إلى 9142 في 2024، محققة نموًا سنويًا بلغ حتى 8.4%.

هذه الغابات امتصّت كميات ضخمة من الكربون، بمتوسط 0.5 طن للهكتار سنويًا، ما يجعلها أكثر كفاءة من الغابات الاستوائية التي تمتص ربع تلك الكمية فقط. عالميًا ساهمت غابات المانجروف في 11% من الكربون المدفون في البحار سنويًا، وخزّنت أكثر من 4.19 بيتاغرام من الكربون في 2012.

خطة إنقاذ عالمية

في مؤتمر المناخ COP27 بشرم الشيخ، أطلق المنتدى الاقتصادي العالمي مبادرة "Mangrove Breakthrough"، التي هدفت إلى حماية واستعادة 15 مليون هكتار من غابات المانجروف، والوصول إلى صافي صفر خسائر بحلول عام 2030، وسعت المبادرة لتأمين تمويل قدره 4 مليارات دولار، بينما تشير التقديرات إلى أن الحماية السنوية تحتاج 630 مليون دولار سنويًا.

وبيّنت دراسات علمية أن استعادة الغابات تتطلب نحو 20 عامًا لتستعيد 70% من مخزونها الكربوني الحيوي، وفي مصر، أثبت مشروع "MERS" فعالية زراعة 50 ألف شتلة في سفاجا وحماطة، مع نمو سنوي للغطاء النباتي بنسبة 2%.

وفي صعيد مصر، شاركت مجتمعات ساحلية في رعاية الشتلات وتأسيس مشاتل بيئية للعسل البحري، ودرّب المشروع أفرادًا محليين على مراقبة نمو الشتلات، وبالتعاون بين وزارة البيئة والجامعة الأمريكية بالقاهرة، وبتمويل من بنك HSBC، نُفّذ نموذج مجتمعي يعزز العدالة البيئية ويعيد الثروات إلى أهلها من خلال السياحة وصيد الأسماك ومنتجات العسل.

ولم تكن الطريق مفروشة بالزهور؛ فنجاح زراعة المانجروف تطلّب توازنًا دقيقًا في ملوحة المياه وعمقها وتركيبة التربة. أظهرت دراسات المعهد العالمي للنظم البيئية أن اختلال هذا التوازن بنسبة 10% رفع معدل فشل الشتلات إلى 65% خلال السنة الأولى.

وفاقم التلوث البحري التحديات، إذ أضرّت النفايات الصناعية، الغنية بالنيتروجين والفوسفات، بصحة الأشجار. ووفق "مجموعة عمل المانجروف العالمية"، فإن أكثر من 67% من الغابات الساحلية في العالم تدهورت منذ القرن العشرين، خاصة في الخليج وجنوب شرق آسيا.

ماليًا، احتاجت مشاريع الاستعادة إلى تمويل يتجاوز 100 مليون دولار لكل ألف هكتار، واستلزم المشروع مراقبة تمتد إلى عامين على الأقل. في أبوظبي، تسببت قنوات صناعية تم حفرها بين 2015 و2018 بفقدان مؤقت لأكثر من 300 هكتار من الغطاء النباتي الساحلي.

عوائد تفوق التكاليف

رغم العقبات، حققت المحميات أرباحًا مجزية. ففي الإمارات، درّت محمية "خليج قعدة" عوائد سياحية بلغت 2.2 مليون دولار سنويًا. أما في مصر، فقد شهدت محميات رأس محمد ونبق ارتفاعًا في إنتاج الأسماك بنسبة 40% خلال 5 سنوات فقط، وفق المركز القومي للبحوث. وأنتجت مشاتل محلية عسل المانجروف بقيمة وصلت إلى 25 ألف دولار في موسم واحد.

وفي ضوء ذلك، أوصى الخبراء باستراتيجية من خمس خطوات لإنقاذ المانجروف، وهي إصدار تشريعات صارمة لحماية السواحل، وإشراك المجتمعات المحلية في مشاتل أهلية، وتوظيف التكنولوجيا (الدرون، الأقمار الصناعية) لتسريع المراقبة، وتخصيص تمويل مستدام من صناديق المناخ الدولية، ونشر التوعية البيئية ودمجها في التعليم الوطني.

المانجروف درع الكربون الأزرق

اعتبر الدكتور عادل سليمان، رئيس جمعية "بيئة بلا حدود" والخبير في مجال التنوع البيولوجي، أن غابات المانجروف تُعد من أقوى النظم البيئية في قدرتها على امتصاص الكربون، بل وتتفوق في هذا الجانب على الغابات البرية بما يقارب أربعة إلى خمسة أضعاف، إذ تمتلك هذه الأشجار قدرة فريدة على عزل الكربون داخل التربة وجذورها فيما يُعرف بـ"الكربون الأزرق"، وهو كربون يبقى مخزنًا لقرون إذا لم تتعرض هذه الغابات للتجريف أو التدمير. 

وأشار سليمان، في تصريحات لـ"جسور بوست"، إلى أن غابات المانجروف لا تؤدي فقط دورًا بيئيًا مباشرًا، بل تعمل كذلك على تثبيت التربة الساحلية وتقليل التعرية وامتصاص طاقة الأمواج، مما يخلق بيئة مستقرة تدعم التنوع البيولوجي من أسماك وطيور، وتمنع تدهور السواحل. واعتبر أن شجرة المانجروف ليست مجرد شجرة، بل نظام بيئي متكامل يحمي التوازن بين الإنسان والطبيعة.

وأوضح الدكتور سليمان، أن أبرز العقبات تكمن في ضعف إنفاذ القوانين، وغياب تشريعات واضحة تُجرّم التعدي على غابات المانجروف أو تجريفها. وأشار إلى أن التضارب بين أولويات التنمية الاقتصادية والحفاظ على البيئة يؤدي أحيانًا إلى اتخاذ قرارات غير مستدامة، لاسيما في ظل غياب التنسيق بين القطاعات الحكومية المختلفة مثل البيئة والإسكان والصناعة. كما أكد أن بعض الدول، رغم امتلاكها قوانين بيئية، إلا أن ضعف الرقابة والضغوط الاقتصادية يدفعان أحيانًا إلى التغاضي عن الانتهاكات.

وعن فاعلية الحلول القائمة على الطبيعة، قال الدكتور سليمان، إن هذه الحلول لم تعد مجرد مفاهيم نظرية، بل أصبحت أدوات معترف بها من قبل كبرى المؤسسات العلمية مثل الاتحاد الدولي لصون الطبيعة (IUCN) والهيئة الحكومية المعنية بتغير المناخ (IPCC). وبيّن أن هذه الحلول، كاستعادة غابات المانجروف والمناطق الرطبة والشعاب المرجانية، توفر مزايا بيئية واقتصادية جمّة، بدءًا من تعزيز التكيف مع آثار التغير المناخي، مرورًا بتكاليفها المنخفضة نسبيًا مقارنة بالحلول التكنولوجية، وانتهاءً بتأثيرها المباشر على الأمن الغذائي ورفاهية المجتمعات المحلية.

درع الطبيعة المهدد بالاندثار

قال الأمين العام للاتحاد العربي للشباب والبيئة، ممدوح رشوان، إن شجرة المنغروف، المعروفة في بعض مناطق الخليج باسم "القرم" أو "الشورى"، ليست مجرد نبات بحري بل تمثل نظاماً بيئياً متكاملاً وهبه الله للطبيعة الساحلية، ويؤدي دوراً حيوياً في حفظ توازنها، مؤكداً أن هذا النظام البيئي الساحلي يمتاز بخصائص فريدة تضعه في صميم الحلول الطبيعية لمواجهة التغيرات المناخية.

وأضاف رشوان، في تصريحات لـ"جسور بوست، أن شجرة المانجروف تنمو عادة عند مصبات السيول في البحار، وجذورها الهوائية تنتشر على سطح التربة، أما أوراقها فتحمل من الأسفل طبقة بيضاء لامعة هي في الواقع بلورات ملح، ما يجعلها بمثابة "فلتر طبيعي" يقوم بتنقية المياه شديدة الملوحة، ويحولها إلى بيئة أقل ملوحة تصلح لكائنات حية أخرى، سواء للري أو لتكون موطناً مؤقتاً.

وأشار إلى أن هذه الأشجار تتيح بيئة غنية تمثل محطة استراحة للطيور المهاجرة بين أوروبا وأفريقيا، كما تُعد ملاذاً آمناً للأسماك لوضع بيوضها، بعيداً عن اضطرابات المد والجزر، إضافة إلى أنها توفر مراعي طبيعية للجمال وغيرها من الكائنات البرية، وبهذا تكون المنغروف نظاماً بيئياً حياً يتكامل مع الطبيعة ويخدمها في صمت.

وأوضح رشوان، أن المجتمعات الساحلية المحيطة بهذه الأشجار يمكنها الاستفادة منها في مشاريع صغيرة مستدامة، وقد نفذ الاتحاد العربي للشباب والبيئة بالفعل مشروعاً لتربية النحل وإنتاج العسل على أشجار المنغروف في مدينة سفاجا، بمحافظة البحر الأحمر في مصر، وحقق المشروع نجاحاً باهراً حتى عُرضت منتجاته في مؤتمر المناخ بشرم الشيخ، ولاقت رواجاً كبيراً، لأنها نابعة من الطبيعة وبمجهود بيئي خالص.

وتابع: أن الاتحاد العربي للشباب والبيئة، التابع لجامعة الدول العربية، أنشئ عام 1983 في وقت لم تكن فيه وزارات بيئة إلا في دول محدودة مثل سلطنة عمان وسوريا، فكان الاتحاد استجابة لحاجة ملحة لإنشاء كيان يعبر عن صوت الشباب العربي المهتم بالبيئة، ويواكب التحولات البيئية الكبرى التي يشهدها العالم. وقد أصبح الاتحاد حاضراً دائماً في المجالس الوزارية العربية المعنية بالبيئة والمياه والشباب.

وأشار إلى أن الاتحاد ينظم برامج توعوية وملتقيات علمية منذ سنوات، ومنها "ملتقى البيئة الساحلية" الذي يُعقد سنوياً منذ 14 عاماً، ويتناول قضايا متغيرة مثل الاقتصاد الأزرق، وقضية التلوث البلاستيكي هذا العام، إذ سينعقد تحت عنوان "شواطئ بلا بلاستيك" في مدينة الغردقة خلال أغسطس المقبل. كما ينظم الاتحاد "ملتقى التراث والبيئة" بين الأقصر وأسوان في ديسمبر من كل عام، إضافة إلى سلسلة مؤتمرات تناولت الذكاء الاصطناعي وتأثيره على التنمية المستدامة.

وأكد رشوان أن الاتحاد يولي اهتماماً خاصاً بأشجار المانجروف كأصل بيئي مهدد، فنفذ مشروعات للإكثار منها عبر إنشاء مشاتل في سفاجا ومرسى علم، ما أدى إلى إعادة زراعتها في مناطق متعددة، بل وبدأت بعض القرى السياحية تطلب هذه الأشجار لتجميل بيئاتها بشكل طبيعي ومستدام.

وختم تصريحه بالقول إن الحفاظ على المانجروف لا يعني فقط حماية شجرة، بل هو استثمار في خط دفاع طبيعي ضد تغير المناخ، وضمان لاستمرار التنوع البيولوجي، وركيزة أساسية لحلول قائمة على الطبيعة باتت اليوم الخيار الأكثر واقعية وأماناً للأجيال القادمة.

الوعي البيئي حجر الأساس

أكد الدكتور محمود بكر، رئيس جمعية كُتّاب البيئة والتنمية، أنّ الجمعية تتبنى رؤية تنموية شاملة تُعلي من شأن المجتمع المدني، وتُعزز من دور الإعلام البيئي التنموي كأداة محورية في بناء وعي مجتمعي ومؤسسي قادر على مواجهة التحديات المعاصرة. وتركز هذه الرؤية على نشر مبادئ الاستدامة البيئية، وتعزيز ثقافة الترشيد والتربية السليمة، بما يضمن الحفاظ على جودة الحياة، ويُرسّخ مفاهيم التكيف الذكي مع التغيرات المناخية المتسارعة، وصون الموارد الطبيعية من الهدر والانقراض، ضمن إطار يوازن بين متطلبات التنمية والعدالة البيئية.

وأوضح بكر، في تصريحات لـ"جسور بوست"، أن دور الجمعية لا يقتصر على التوعية النظرية، بل يمتد إلى العمل الميداني المؤثر، عبر تنظيم سلسلة متواصلة من الندوات وورش العمل البيئية التي تستهدف مختلف الفئات، لا سيما الطلاب والعاملين والمتخصصين. وتسعى الجمعية من خلال هذه الفعاليات إلى غرس مفاهيم الوعي البيئي بمنهجية علمية، وتدريب الكوادر المحلية على الممارسات المستدامة، بالإضافة إلى تنظيم زيارات ميدانية للمحميات الطبيعية، باعتبارها معاقل للتنوع الحيوي.

وأشار رئيس الجمعية إلى أن الأنشطة التي تقوم بها الجمعية تشمل أيضًا حملات التوعية المجتمعية، والتشجير، والنظافة العامة، والتخلص الآمن من النفايات بمختلف أنواعها، ما يسهم في ترسيخ ثقافة حماية البيئة كأساس لمجتمع صحي ومنتج. كما تعمل الجمعية على إنتاج وتوزيع مواد توعوية وإصدارات متخصصة، وتنظيم حملات بيئية موجهة داخل المدارس، والجامعات، ومواقع الإنتاج، سعياً للوصول إلى شرائح أوسع من المواطنين، وتحفيزهم على تبني سلوكيات أكثر انسجامًا مع البيئة.

وأكد الدكتور بكر، على أنّ الجمعية تُولي أهمية كبرى لصون الحياة النباتية والحيوانية، وتعمل على دعم المبادرات الشبابية في هذا السياق، من خلال المشاركة في القوافل التنموية والمعسكرات الصيفية التي تنظمها الجامعات، والتشبيك مع الجهات الفاعلة في العمل البيئي، لإعلاء قيم الشراكة المجتمعية والوعي الجماعي.

وأضاف أنّ من أبرز أهداف الجمعية هو رفع مستوى الوعي البيئي داخل وخارج مصر، وتطوير مهارات الصحفيين والإعلاميين علميًا ومهنيًا في مجال الكتابة البيئية، وتعزيز الربط العضوي بين العلم البيئي وأهداف التنمية المستدامة، مع التأكيد المستمر على خطورة الاستهلاك الجائر للموارد، وتأثيراته المباشرة على المناخ والتنوع الحيوي.

وشدد على أهمية استخدام وسائل الإعلام –التقليدية منها والحديثة– كمنصات حيوية لنقل المعرفة البيئية، وتسليط الضوء على دور الجمعيات الأهلية في دعم مسارات التنمية المستدامة، مشيرًا إلى أن التحديات البيئية لم تعد ترفًا فكريًا، بل ضرورة وجودية، تتطلب تضافرًا حقيقيًا بين الفرد والمجتمع والدولة، لإنقاذ ما تبقى من التوازن الطبيعي في عالم يشهد تغيرات مناخية غير مسبوقة.

 



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية