تسونامي دبلوماسي
تسونامي دبلوماسي
شهدنا على مدار الأسبوع تسونامي دبلوماسياً مع توالي الاعترافات بالدولة الفلسطينية من قائمة من الدول شملت: المملكة المتحدة، وفرنسا، وأستراليا، وكندا، والبرتغال، وبلجيكا، ومالطا، ولوكسمبورغ، وأندورا، وموناكو، ليبلغ عدد الدول التي اعترفت بدولة فلسطين 159 دولة من أصل 193 عضواً في الأمم المتحدة. إنجاز سياسي عربي تحقق، ويمكن اعتباره بمنزلة قلب للموازين التي حاول نتنياهو أن يرجحها لمصلحة إسرائيل على مدار الشهور الماضية، مشجعاً دول العالم على رفض فكرة قيام الدولة الفلسطينية باعتبارها خطراً لا يمكن قبوله على إسرائيل.
تسونامي دبلوماسي بدا واضحاً في مؤتمر “تسوية قضية فلسطين وتحقيق حل الدولتين”. عُقد في مقر الأمم المتحدة بنيويورك برئاسة المملكة العربية السعودية وفرنسا، وبإسناد عربي قوي. وفي إسرائيل، أربك هذا التسونامي نتنياهو وورط حكومته، وهو الرجل الذي بنى أسطورته السياسية في إسرائيل على زعم منع قيام الدولة الفلسطينية، فوجد نفسه اليوم محاطاً بالاعترافات، حتى إن سياسيين في الداخل الإسرائيلي وصفوه بـ"نتنياهو مؤسس الدولة الفلسطينية".
ولا يمكن قراءة ما حدث دون استخلاص نتائجه وعوامله المؤثرة، فعوامل عدة يمكن قراءتها من موجة الاعترافات الأخيرة، على رأسها أهمية الاعتراف البريطاني الذي قص شريط الاعترافات في هذه الموجة. وهي خطوة شجاعة من حكومة العمال برئاسة كير ستارمر، فها هي ذي الدولة التي أعطت الوعد ولعبت الدور الأبرز في قيام إسرائيل ومنحتها الأرض، تعترف بالدولة الفلسطينية بعد عقود من تلك الخطيئة.
ومن الموقف البريطاني والتحول التاريخي جاء موقف كندا ليكون أيضاً مميزاً، إذ أصبحت الدولة الأولى من بين مجموعة السبع التي تعترف بدولة فلسطين. مواقف تلك الدول في الموجة الأخيرة كسرت قاعدة "الاعتراف يأتي في نهاية المفاوضات" التي تمسكت بها الولايات المتحدة وعدد من الدول الغربية الأخرى.
سيؤدي الاعتراف بفلسطين من جانب تلك الدول إلى تعزيز موقفها في المحافل الدولية، مع شرط أن يكون متزامناً مع خطوات تنفيذية فعالة من الدول التي قررت الاعتراف، وإلا تكون تلك القرارات مجرد حبر على ورق، تجنباً لحالة السخط الداخلي التي خلفتها الحرب على غزة وغضب الشارع في الغرب تجاه حكوماته التي وقفت مكتوفة الأيدي خلال الحرب.
أما عربياً، فيجب استغلال ذلك في استمرار الضغط السياسي الناجح حتى الآن لنيل المزيد من الاعترافات بفلسطين، وكذلك إنهاء الحرب على غزة، خاصة بعد الاجتماع الأخير الذي جمع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مع عدد من القادة العرب في نيويورك، لبحث خطة كشف أنها من 21 نقطة تقود إلى إنهاء الحرب، وإطلاق سراح الرهائن، وخلق واقع جديد في حل الدولتين.
وربما يكون المكسب الأهم، أخيراً، من اعترافات الدول واجتماع نيويورك، هو كتابة النهاية لفصل التهجير الذي حاول نتنياهو ووزراؤه المتطرفون ترويجه حلاً للاستقرار في المنطقة. وأيضاً نجحت الدول العربية ودبلوماسيتها وتحركاتها القوية في نسفه من أساسه، إلى جانب عرقلة محاولات الضم بضغط إماراتي قوي، أقر به أيضاً الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وعارضه في الاجتماع مع القادة، رافضاً السماح بالقضاء على أحد أهم إنجازاته المتمثل في "اتفاقيات إبراهيم".
والمجتمع العربي أيضاً يجب أن يدرك أن ما تحقق لم يكن ليحدث بسلاح حماس أو عمليات كالسابع من أكتوبر التي أدت إلى دمار كامل في القطاع وفتحت آلة الحرب الإسرائيلية، ولكن تحقق بقوة الدبلوماسية العربية ووحدتها في مواجهة تطرف نتنياهو الذي بات اليوم معزولاً ومحاصراً هو وإسرائيل.
ستنتهي الجمعية العامة للأمم المتحدة هذا العام وقد أدرك قادتها أن السلام في الشرق الأوسط لن يحدث إلا بحل الدولتين؛ دولة فلسطينية كاملة الحقوق، ووقف آمال التوسع الإسرائيلي ووهم "إسرائيل الكبرى" الذي لن يتحقق أبداً.