حين تصبح الحياة رهينة الأرقام.. أزمة الغذاء والصحة بالصومال تحت مجهر التقصير الدولي
حين تصبح الحياة رهينة الأرقام.. أزمة الغذاء والصحة بالصومال تحت مجهر التقصير الدولي
يواجه الصومال اليوم واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية في تاريخه الحديث، حيث تحوّلت حياة ملايين الأشخاص إلى معادلة محكومة بالأرقام: 4.6 مليون إنسان يعانون من انعدام حاد في الأمن الغذائي، و1.8 مليون طفل مهددون بسوء التغذية، وعيادات تُغلق بالعشرات، وتمويل لا يغطي سوى هامش ضئيل من الاحتياجات الملحّة.
في ظل هذه المؤشرات الصادمة، يصبح السؤال الحتمي: هل باتت حياة الناس مرهونة بميزانيات المانحين وتقلّبات الأولويات الدولية؟
انهيار في القطاع الصحي
في تقرير حديث لمكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا)، أورده موقع أخبار الأمم المتحدة، الثلاثاء، حذر المكتب من أن التخفيضات الكبيرة في تمويل المساعدات الإنسانية للصومال تركت أثراً مباشراً في القطاع الصحي والخدمات الأساسية الأخرى.
ففي النصف الأول من عام 2025 وحده، تأثرت أكثر من 150 عيادة صحية، بما فيها المراكز التي تخدم النساء الحوامل والأطفال الذين يعانون من الهزال الشديد، وفي منطقة بنادر وحدها، يواجه أكثر من 12,700 طفل خطر فقدان العلاج المنقذ للحياة بسبب إغلاق محتمل لعشرين مركزاً للتغذية.
وفي ولاية جنوب غرب الصومال، انخفض عدد الفرق الصحية المتنقلة من 74 فريقًا العام الماضي إلى 25 فقط حاليًا، أما في بونتلاند، فقد توقفت جميع وحدات الصحة العامة البالغ عددها 29 عن العمل، إلى جانب 50 مرفقًا آخر.
الغذاء.. شريان الحياة للملايين
المساعدات الغذائية، التي تمثل شريان الحياة لملايين الصوماليين، سجلت تراجعًا بأكثر من 50% مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي، وهذا الانخفاض الحاد يعني أن مئات الآلاف من الأسر، خصوصًا في المناطق الريفية وشبه الحضرية، أصبحت دون أي دعم غذائي منتظم.
وفي منطقة شبيلي الوسطى، يُتوقع إغلاق 28 موقعًا للتغذية بحلول نهاية الشهر الجاري، ما يهدد بشكل مباشر الأمهات المرضعات وأطفالهن في واحدة من أكثر المناطق هشاشة من حيث معدلات سوء التغذية.
وأوضحت “أوتشا” أن خطة الاستجابة الإنسانية للصومال لعام 2025، والتي تتطلب 1.4 مليار دولار، لم يُموّل منها سوى 15% فقط، أي ما يعادل 222 مليون دولار، أما التمويل الخاص بقطاع الأمن الغذائي فلم يتجاوز 5%، وقطاع التغذية لم يتعدَّ 3%، تلك الأرقام تطرح تساؤلات خطِرة حول الالتزام الدولي بمعالجة الكوارث الإنسانية قبل تفاقمها.
وتجد الوكالات الإنسانية نفسها اليوم مضطرة إلى "إعادة ترتيب الأولويات"، ما يعني فعليًا تقليص نطاق عملياتها، وتعليق مشاريع، وإغلاق مواقع علاجية كانت تمثل الأمل الأخير لكثير من العائلات.
لكن هذه "الإعادة" لا تتم في فراغ، بل تعكس تراجعًا سياسيًا واقتصاديًا دوليًا عن الاستثمار في الاستقرار البشري بالصومال، في مقابل تصاعد الأزمات الجيوسياسية في مناطق أخرى من العالم.
أزمة يمكن تفاديها
أزمة الصومال الحالية ليست مجرد كارثة طبيعية أو حصيلة صراع طويل فقط، بل هي أيضًا أزمة تخطيط دولي وقصور في الاستجابة.
فالخبراء يؤكدون أن سوء التغذية ونقص الخدمات الصحية يمكن الحد منهما بشكل كبير إذا توفر الحد الأدنى من التمويل المستقر، خصوصًا في مجالات التغذية الأساسية، والصحة الأولية، والمياه والصرف الصحي.
لكن تجاهل التحذيرات المتكررة وتباطؤ الاستجابة يزيد من احتمال تحوّل الأزمة إلى مجاعة واسعة النطاق خلال أشهر قليلة، مع ما يحمله ذلك من خسائر في الأرواح ومعاناة كان يمكن تجنّبها.
بلد يتعافى من الأزمات
الصومال، الدولة الواقعة في القرن الإفريقي، تعاني من خليط معقّد من التحديات، بما فيها الصراع الداخلي، وأزمات الجفاف والفيضانات المتكررة، وانعدام الاستقرار السياسي.
ورغم بعض التقدّم في السنوات الأخيرة، فإن البنية التحتية للصحة والتعليم والأمن الغذائي لا تزال هشة، وتعتمد بشكل كبير على التمويل الخارجي.
تاريخيًا، كانت الاستجابة الدولية للأزمات الصومالية تتأرجح بين الاهتمام المؤقت والتجاهل الطويل، ما جعل من كل موجة جفاف أو نزاع مسلح مقدمة لانهيار جديد في حياة السكان، خاصة الفئات الضعيفة مثل النساء والأطفال.
إن استمرار هذا الوضع يعني أن حياة آلاف الأطفال والنساء وكبار السن ستبقى رهينة قرارات بعيدة عنهم تمامًا، تُتخذ في عواصم بعيدة، وتُبرر بأرقام على الورق، في حين أن الواقع في الميدان هو معاناة صامتة، لا تصل إلى شاشات الأخبار إلا حين يبلغ الموت ذروته.
لذلك، يبقى التحدي اليوم ليس فقط في حشد التمويل، بل في استعادة الالتزام الأخلاقي والسياسي الدولي بأن لكل إنسان -مهما كان مكانه- الحق في الغذاء والرعاية الصحية والحياة الكريمة.
نقص التمويل يفاقم الكوارث
يشهد العالم اليوم أزمة متصاعدة في التمويل الإغاثي الدولي، حيث أدى انخفاض مساهمات الدول المانحة إلى تقليص حاد في البرامج الإنسانية المنقذة للحياة في مناطق النزاع والكوارث، لا سيما في الدول الهشة مثل الصومال واليمن والسودان.
هذا التراجع، الذي يطال قطاعات أساسية مثل الغذاء والرعاية الصحية والمياه، يهدد حياة ملايين الأشخاص، ويضع الفئات الأكثر ضعفاً – كالأطفال والنساء – في مواجهة مباشرة مع المجاعة، والأوبئة، وسوء التغذية.
وفي غياب تمويل عاجل ومستدام، تحذر منظمات الأمم المتحدة من تداعيات وخيمة، تتجاوز فقدان الأرواح إلى تقويض جهود التنمية والاستقرار، ما يجعل من نقص التمويل ليس مجرد فجوة مالية، بل أزمة أخلاقية وإنسانية عالمية.