كوريا الجنوبية بين إرث الأحكام العرفية وتداعيات أزمة الرئيس السابق يون سوك يول

كوريا الجنوبية بين إرث الأحكام العرفية وتداعيات أزمة الرئيس السابق يون سوك يول
الرئيس الكوري الجنوبي السابق يون سوك يول

عرفت كوريا الجنوبية في تاريخها الحديث فترات مضطربة طبعت ذاكرة المجتمع السياسي والحقوقي، إذ تم اللجوء مرارًا إلى فرض الأحكام العرفية في لحظات أزمات سياسية وأمنية.

بدأت هذه الحقبة في خمسينيات القرن الماضي، ثم تكررت بشكل خاص في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، حيث كانت تُستخدم ذريعةً لقمع المعارضة السياسية ووأد الحركات الطلابية والنقابية.

أبرز تلك المحطات كان فرض الأحكام العرفية عام 1972 في عهد الرئيس الأسبق بارك تشونغ هي، الذي ألغى الدستور وأقر دستورًا جديدًا موسع الصلاحيات عُرف باسم "دستور يوشين".

وفي عام 1980، فُرضت الأحكام العرفية مجددًا لقمع احتجاجات غوانغجو، ما أسفر عن سقوط مئات الضحايا بين قتيل وجريح، في واحدة من أدمى الصفحات بتاريخ البلاد.

أبرز الضحايا والتداعيات التاريخية

كانت الحركات الطلابية والنقابية، إضافة إلى شخصيات معارضة وصحفيين مستقلين، أبرز ضحايا الأحكام العرفية في كوريا الجنوبية.

أدت تلك الفترات إلى تقييد حرية الصحافة والإعلام، وحل جمعيات المجتمع المدني، وانتشار اعتقالات واسعة، فضلًا عن انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان طالت آلاف المواطنين.

على المدى الطويل، تركت هذه السياسات ندوبًا عميقة في الوعي الجماعي للمجتمع الكوري الجنوبي، وأسهمت في تغذية المطالب الشعبية بالإصلاح الديمقراطي، وصولًا إلى الانتقال الديمقراطي النسبي الذي عرفته البلاد منذ أواخر الثمانينيات.

أزمة الرئيس السابق 

في ديسمبر 2024، فجّر الرئيس الكوري الجنوبي السابق يون سوك يول أزمة سياسية غير مسبوقة، بمحاولته فرض الأحكام العرفية بحجة تعطيل الميزانية في البرلمان الذي كانت تهيمن عليه المعارضة، وحماية البلاد من "قوى شيوعية كورية شمالية".

أصدر يون مرسومًا رسميًا نشر بموجبه قوات الجيش في محيط البرلمان، ومنع النشاطات السياسية، القرار جاء مدعومًا من شخصيات دينية محافظة وناشطين يمينيين متطرفين على منصات التواصل، ما أدى إلى موجة غضب شعبية عارمة.

ورغم هذه الإجراءات، تمكن نحو 190 نائبًا من دخول مبنى البرلمان بعد ساعات قليلة، بعضهم تسلق الجدران، فيما تجمهر آلاف المحتجين في الخارج مطالبين بتنحي الرئيس.

قرار قضائي وتداعيات

أصدرت محكمة كورية جنوبية مؤخرًا مذكرة توقيف جديدة بحق يون سوك يول، خشية إتلاف أدلة، وفق ما نقلت وكالة يونهاب للأنباء.

القاضي نام سي-جين في محكمة منطقة سيول الوسطى أمر بإيداع يون السجن للمرة الثانية، بعد أن سبق توقيفه في يناير 2025 حين كان لا يزال في منصبه، قبل أن تُلغى المذكرة ويفرج عنه.

في أبريل، عُزل رسميًا من منصبه بسبب فرضه الأحكام العرفية ونشره الجيش في البرلمان، وفي الجلسة الأخيرة حضر الرئيس السابق رفقة محاميه، الذين قال إنهم بدؤوا ينسحبون "واحدًا تلو الآخر"، ما دفعه للقول إنه "يواجه بمفرده".

وتم وضع يون، البالغ من العمر 64 عامًا، في زنزانة انفرادية بمركز توقيف في منطقة أويان جنوب سيول، بحسب تصريحات رئيس جمعية المحامين من أجل مجتمع ديمقراطي.

استنفار داخل المجتمع

على الساحة السياسية الداخلية أثارت محاولة فرض الأحكام العرفية في 2024 حالة استنفار داخل المجتمع المدني والمؤسسات الكورية، كونها أعادت للأذهان الحقبة الاستبدادية التي ظن الكوريون أنها ولّت إلى غير رجعة، كما أعادت هذه الحادثة ترتيب الاصطفافات السياسية بين التيارات المحافظة والتقدمية، وأثارت جدلاً كبيرًا حول صلاحيات الرئيس الكوري الجنوبي في أوقات الأزمات، وضرورة وضع ضوابط دستورية أقوى تمنع تكرار السيناريو نفسه مستقبلاً.

دوليًا، أثار فرض الرئيس الكوري الجنوبي السابق يون سوك يول الأحكام العرفية في ديسمبر 2024 صدمة واسعة في الأوساط الدولية والحقوقية، لما اعتُبر انتكاسة خطيرة لقيم الديمقراطية التي طالما تباهت بها سيول كنموذج في آسيا. 

وتنامت مخاوف من عودة عسكرة السلطة في دولة تعد من أكبر الاقتصادات الديمقراطية في العالم، وهو ما دفع شركاء كوريا الجنوبيّة إلى إعادة تقييم التزاماتها تجاه المعايير الدولية للحكم المدني وسيادة القانون. 

أما حقوقيًا، فقد عبرت منظمات دولية مثل هيومن رايتس ووتش والعفو الدولية عن قلق بالغ من خطورة الخطوة على الحريات الأساسية واستقلال المؤسسات، محذّرةً من أن تبرير القمع بحجة الأمن القومي قد يفتح الباب أمام سوابق مشابهة في دول أخرى بالمنطقة، وأكد حقوقيون أن هذا الانقلاب الدستوري المؤقت، وإن فشل سريعًا، يكشف هشاشة الضمانات القانونية القائمة ويبرز الحاجة الملحة لإصلاحات أعمق لحماية الديمقراطية الكورية من الانزلاق نحو السلطوية في أوقات الأزمات السياسية.

اقتصاديًا، تركت محاولة فرض الأحكام العرفية أثرًا مباشرًا في الأسواق المالية وثقة المستثمرين في كوريا الجنوبية. فقد شهدت البورصة الكورية تراجعًا حادًا خلال أيام الأزمة، وسط عمليات بيع مكثفة من قبل المستثمرين الأجانب الذين خشوا من عدم الاستقرار السياسي وعودة الحكم العسكري.

وارتفع سعر صرف الدولار أمام الوون الكوري نتيجة حالة الذعر في السوق، في حين توقفت أو تأجلت بعض الاستثمارات الأجنبية المقررة؛ خشية تداعيات محتملة على البيئة القانونية والتجارية في البلاد.

وأثار المشهد تساؤلات واسعة لدى الشركات المحلية والدولية حول متانة المؤسسات الديمقراطية الكورية وقدرتها على حماية استقرار الاقتصاد في وجه النزاعات السياسية الحادة، وهو ما دفع خبراء إلى التحذير من أن استغلال السلطة التنفيذية للقوة العسكرية يهدد -بشكل خطِر- مناخ الأعمال، ويقوض مكانة كوريا الجنوبية كونها مركزاً اقتصادياً موثوقاً في آسيا.

ويحمل تاريخ الأحكام العرفية في كوريا الجنوبية ذاكرة مؤلمة من قمع الحريات واستهداف المعارضين، ورغم الانتقال الديمقراطي الذي عاشته البلاد منذ عقود، أعادت محاولة الرئيس السابق يون سوك يول الفاشلة في 2024 فرض الأحكام العرفية، شبح الماضي إلى الواجهة، وأكدت أن صون الديمقراطية يحتاج إلى يقظة مستمرة، ومؤسسات قوية قادرة على التصدي لأي نزعات استبدادية جديدة.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية