حرب تبتر الأنوثة.. نساء غزة يعانين الإعاقة والإهمال في ظل ظروف قاسية
حرب تبتر الأنوثة.. نساء غزة يعانين الإعاقة والإهمال في ظل ظروف قاسية
بين الحروب لا تكون الإصابات كلها مرئية، فثمة جراح خفية تنهش كرامة الإنسان قبل جسده، وتتركه معزولاً في دائرة الإهمال والنسيان، وفي قطاع غزة، حيث تتوالى الضربات الجوية منذ السابع من أكتوبر 2023، لا تنتهي المأساة عند سقوط القذائف، بل تبدأ بعدها فصول أشدّ قسوة، تعيشها النساء المصابات بإعاقات دائمة نتيجة القصف أو فقدان سبل العلاج.
وسط أنقاض المنازل وغبار المخيمات، تتبدّى ملامح معاناة مضاعفة، تتقاطع فيها آثار الحرب مع هشاشة البنى الصحية، وغياب الرعاية، ونظرة المجتمع القاسية تجاه الإعاقة الأنثوية.
ورغم فداحة الأرقام وتكرار التقارير الحقوقية، لا تزال أصوات النساء المصابات بالبتر أو فقدان الأطراف محجوبة خلف خيام النزوح والأسرة المتكدسة في المشافي، إذ تغيب عنهن برامج إعادة التأهيل والرعاية المستدامة، ويُترك أغلبهن لمصير قاتم بين ألمٍ جسدي لا يهدأ وعزلة اجتماعية تطعن في كرامتهن وإنسانيتهن.
في هذه المساحة نقترب من قصة ألفت جمعة، إحدى الناجيات من القصف، التي فقدت أسرتها وساقها ومنزلها، لتجد نفسها في مواجهة صامتة مع واقع لا يرحم.. واقع يُجسّد وجهاً آخر من وجوه الحرب.. هي الحرب على الجسد الأنثوي، وعلى ما تبقّى من كرامته.
فقدت عائلتها بالكامل
جلست ألفت جمعة، الشابة الغزّية ذات الثلاثين عامًا، على كرسيها المتحرّك قرب خيمة من قماش مهترئ في أحد مخيمات النزوح وسط مدينة غزة، ترفع عينيها بصمت نحو سماء رمادية لا تنذر إلا بالمزيد من الألم، بعدما فقدت عائلتها بالكامل تحت أنقاض منزلها، وبُترت ساقها اليمنى جراء قصف إسرائيلي دمّر بيتها دون إنذار.
استيقظت جمعة، ذات مساء من نوفمبر الماضي، على أصوات المسعفين وهم ينتشلونها من بين الركام، ولم تدرك حينها أنها الناجية الوحيدة من عائلتها.
تعرّض منزلهم في حي الصفطاوي شمال غرب غزة لقصف مباشر بثلاثة صواريخ، دمّرت الطوابق الثلاثة وسحقت تحته أحلام عائلة كانت تجتمع حول مائدة عشائها، بحسب ما ذكرت وكالة أنباء المرأة، اليوم الاثنين.
وقالت جمعة، بصوت مرتجف وهي تصف لحظات ما بعد الهجوم: "لم أصدق أنهم أخبروني أن والدتي استُشهدت، وأنني صرت بلا قدم، وأن لا أحد بقي من أسرتي.. حتى الألم لم يكن أقسى من شعوري بالوحدة".
وأضافت: "في مستشفى الشفاء حاولوا إنقاذ ساقي، لكن لم تكن هناك أدوات، لم يكن هناك شيء، فقط بتر".
إعاقة نسائية في زمن الحرب
وثّقت تقارير حقوقية أن أكثر من 370 امرأة في قطاع غزة تعرّضن لإعاقات دائمة منذ بداية الحرب في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، أغلبها بسبب القصف العشوائي أو نقص العلاج المتخصص.
وأكّد تقرير صادر عن المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان في يونيو الماضي أن معظم الحالات المسجلة لم تتلقّ أي تدخل طبي لإعادة التأهيل أو تركيب أطراف صناعية.
عاشت ألفت، مثل كثير من النساء، عزلة مركّبة لا يسببها الألم الجسدي فقط بل النظرة المجتمعية التي تعد البتر نهاية للأنوثة.
تقول: "أخجل أن أطلب المساعدة لدخول المرحاض، أو أن أطلب من أحدهم أن يدفعني على الكرسي.. كل شيء صار مستحيلاً".
وروت أن بعض الأقارب يتجنبون النظر إليها، وكأن فقدان الساق جعلها عبئًا أو "نصف امرأة"، فيما لا تجد أي جهة تُعنى باحتياجاتها اليومية، لا سيما في ظل غياب برامج التأهيل أو الدعم النفسي أو حتى الاعتراف بأن هذه الإعاقات ليست حوادث عابرة، بل جرائم حرب ضد النساء.
نزوح فوق الإعاقة
اضطرت جمعة إلى اللجوء لخيمة تشترك فيها مع أسرة شقيقتها المتزوجة، في أحد مخيمات النزوح العشوائية التي أقيمت قرب المدارس أو على أطراف الطرقات، حيث يعيش أكثر من 1.9 مليون نازح وفقًا لوكالة "أونروا".
قالت بألم: "الخيمة لا تعرف الخصوصية، خمسة عشر شخصًا تحت سقف قماش، الظلام، البرد، الحشرات.. أما أن أصل إلى دورة المياه فهذا يتطلب رحلة على الكرسي بين الركام، وغالبًا أعود وأنا أنزف".
وأضافت: "حتى تغيير الضمادات يتم وسط ظروف بدائية".
وأشار تقرير للمركز الفلسطيني لحقوق الإنسان إلى أن مئات النساء بعد الحرب يعانين إعاقات جسدية شديدة، ولا توجد خطة حكومية أو دولية لإعادة التأهيل الجسدي أو النفسي، في وقت تتزايد فيه الحالات الإنسانية مع استمرار العدوان وصعوبة إدخال المستلزمات الطبية.
أطراف صناعية.. حلم خارج الأولويات
لم تحصل ألفت على طرف صناعي حتى اليوم، رغم مرور أشهر على إصابتها. تقول بأسى: "لم يسأل أحد إن كنت أستطيع النوم أو الوقوف، ولم يُعرض عليَّ تركيب طرف صناعي، وكل من اتصل بي كان يريد فقط تصوير معاناتي، لا مساعدتي".
تعذّر إدخال الأجهزة الطبية ومكونات الأطراف الصناعية إلى غزة بسبب القيود الإسرائيلية الصارمة على المعابر، وبحسب منظمات طبية محلية، فإن أكثر من 80% من المصابات بالبتر لم يُعرض عليهن حتى البدء في مرحلة التأهيل، ناهيك عن السفر الذي يتطلب تنسيقات معقدة لا تُمنح غالبًا للنساء المصابات دون "مرافق ذكر"، ما يزيد من معاناتهن النفسية والجسدية.
تقول جمعة: "أشعر أنني أُركنت إلى الزاوية.. لا أحد يهتم بنا، لسنا رقماً في نشرة الأخبار، نحن نساء فقدنا أجسادنا وكأن الحرب سلبت منا الحياة رغم أننا ما زلنا نُجبر على البقاء".
الحرب تستهدف أجساد النساء
تُبرز قصة ألفت جمعة الوجه المظلم لما تعانيه النساء في غزة خلال الحروب: القتل، البتر، النزوح، ثم الإهمال، وسط صمت دولي فاضح وتقصير مؤسسي واضح.
وتقول منظمات حقوقية إن الحرب الأخيرة تركت بصماتها الأشد قسوة على النساء، ليس فقط لأنهن فقدن أطرافاً، بل لأن النظام الاجتماعي والصحي لا يتسع لرعايتهن أو إعادة دمجهن.
ولم تُطلق أي خطة إعادة تأهيل واسعة للنساء المصابات، لا من الحكومة، ولا من الأمم المتحدة، ولا من المنظمات الدولية، وسط تساؤلات كثيرة حول مصير هؤلاء النساء في ظل نظام صحي مدمَّر ونظرة مجتمعية تعمّق العزلة.