بين العودة والمصير المجهول.. مأساة الأفغان المعادين قسراً تحت حكم طالبان
بين العودة والمصير المجهول.. مأساة الأفغان المعادين قسراً تحت حكم طالبان
منذ سيطرة حركة طالبان على أفغانستان في 15 أغسطس 2021، يعيش آلاف الأفغان في خوفٍ دائم من الاضطهاد وانتهاك حقوقهم الأساسية، ومع تراجع مسارات اللجوء وإعادة التوطين، وجد كثيرون أنفسهم عالقين بين مطرقة العودة القسرية وسندان مخاطر جسيمة تهدد حياتهم وحريتهم وكرامتهم الإنسانية.
وفق ما نشره موقع "ريليف ويب" الخميس سلط التقرير الأخير لدائرة حقوق الإنسان التابعة لبعثة الأمم المتحدة لتقديم المساعدة إلى أفغانستان (يوناما) الضوء على معاناة هؤلاء الأشخاص النازحين الذين عادوا قسراً إلى وطن لم يعد آمناً لهم، وكشف قصصاً مؤلمة لانتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان.
منذ سيطرة طالبان على السلطة يعيش ما يقرب من 5.7 مليون لاجئ أفغاني خارج وطنهم، معظمهم في باكستان وإيران. وبينما قُدّر عدد من تقدموا بطلبات لجوء جديدة حول العالم بأكثر من 1.6 مليون شخص، جاء الإعلان الباكستاني عن خطة إعادة الأفغان على مراحل ليشكّل صدمة جديدة لمئات الآلاف، في بلد يعيش فيه 97% من السكان تحت خط الفقر بحسب البنك الدولي، هذا النزيف البشري يعكس تاريخاً طويلاً من النزوح والتشرد، حيث عاش الأفغان موجات متكررة من الهروب والعودة القسرية منذ عقود.
تداعيات العودة القسرية
عودة هؤلاء الأشخاص قسراً لا تعني فقط حرمانهم من الأمان، بل تهدد تفكك الأسر وتمزيق الروابط المجتمعية؛ إذ كثيراً ما يُعاد أحد أفراد العائلة بينما يظل الآخرون في الخارج بانتظار مصير مجهول.
وتؤدي هذه العودة إلى زيادة البطالة وارتفاع الضغط على بنية تحتية وخدمات عامة تعاني أصلاً من الانهيار ونقص التمويل، وهو ما أكدته تقارير الأمم المتحدة وشركاؤها، حيث لم يُموَّل سوى 40% من خطة الاستجابة الإنسانية لعام 2024..
وعلى المستوى النفسي، فتشير تقارير طبية إلى انتشار اضطرابات مثل الاكتئاب واضطراب ما بعد الصدمة بين العائدين نتيجة الخوف المستمر من الملاحقة أو الانتقام.
الفئات الأكثر تعرضاً للخطر
رغم أنّ الأفغان العائدين يمثلون شريحة واسعة من المجتمع، فإن بعض الفئات تحديداً تظل مهدَّدة بشكل مضاعف، أبرزها: النساء والفتيات، والمسؤولون السابقون في حكومة الجمهورية الأفغانية السابقة، وأفراد قوات الدفاع والأمن الوطني الأفغانية، ونشطاء المجتمع المدني، والمدافعون عن حقوق الإنسان، والصحفيون والموسيقيون.
بحسب المقابلات التي أجرتها بعثة الأمم المتحدة بين مايو وديسمبر 2024 مع 49 شخصاً أُعيدوا قسراً، تبين أنّ هؤلاء الأفراد غالباً ما يواجهون تهديدات مباشرة، واعتقالاً واحتجازاً تعسفياً، وتعذيباً ومعاملة قاسية أو لا إنسانية بعد عودتهم، ما يتعارض تماماً مع الالتزامات الدولية تجاه مبدأ عدم الإعادة القسرية بحسب المنصوص عليه في اتفاقية اللاجئين لعام 1951.
انتهاك لمبدأ دولي أساسي
ينص القانون الدولي بوضوح على حظر الإعادة القسرية، أي إعادة شخص إلى بلد قد يتعرض فيه للتعذيب أو الاضطهاد أو غير ذلك من أشكال الأذى الجسيم. لكن التقارير الأممية والحقوقية تشير إلى استمرار ترحيل اللاجئين الأفغان قسراً من عدة دول مجاورة، في تجاهل صارخ لهذا المبدأ.
فقد شهد أواخر عام 2023 تدفقاً ملحوظاً للأفغان العائدين من باكستان، بعد إعلان وزارة الداخلية الباكستانية خطة لإعادة المواطنين الأفغان على ثلاث مراحل. وفي الفترة بين 15 سبتمبر 2023 و10 أغسطس 2024، سجّلت المنظمة الدولية للهجرة والمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين عودة 694,184 أفغانياً إلى بلادهم.
بعيداً عن لغة الإحصاءات، تكشف شهادات العائدين قسراً عمق المعاناة الإنسانية. بعض النساء والفتيات عدن ليواجهن قيوداً صارمة على التعليم والعمل والتنقل؛ الصحفيون وجدوا أنفسهم أمام تهديدات مباشرة بالاعتقال بسبب عملهم السابق أو آرائهم؛ أما مسؤولو الحكومة السابقة وأفراد قوات الأمن، فواجه كثيرون منهم مضايقات مستمرة أو حتى انتقاماً مباشراً.
النتيجة ليست فقط حرمان هؤلاء الأفراد من الأمان، بل أيضاً دفعهم للعيش في عزلة وخوف دائمين، ما يقيد قدرتهم على العمل أو الحركة أو حتى ممارسة حياة اجتماعية طبيعية.
لماذا تُغلق المسارات الآمنة؟
يأتي هذا الوضع المأساوي في وقت تتقلص فيه الفرص أمام الأفغان للحصول على حماية دولية.. فقد بات الحصول على اللجوء أو إعادة التوطين أو حتى تأشيرات إنسانية أكثر تعقيداً، بسبب تشديد السياسات الحدودية وزيادة الضغوط الداخلية في دول الجوار.
هذا الفراغ ترك الآلاف بلا خيارات سوى العودة إلى بلد تحكمه حركة لا تضمن الحقوق الأساسية للفئات الأكثر ضعفاً، مع تفشي الإفلات من العقاب وانهيار منظومة العدالة.
وتضاعفت معاناة المجتمع الأفغاني نتيجة عودة هذا العدد الكبير قسراً، ما زاد الضغط على بنية تحتية هشة أصلاً واقتصاد يعاني من العقوبات وتراجع الدعم الدولي. ورغم جهود سلطات الأمر الواقع لتسجيل العائدين وتقديم مساعدات محدودة، فإن هذه الخطوات لا تلبي الاحتياجات الحقيقية ولا توفر الحماية الكافية.
إضافة إلى ذلك، يُعرّض هذا الوضع العائدين للبطالة والفقر، ما قد يدفع بعضهم للبحث عن طرق خطيرة لمغادرة البلاد مجدداً، أو الانخراط في أعمال غير رسمية محفوفة بالمخاطر.
تقارير حقوقية تدق ناقوس الخطر
تقارير منظمات حقوق الإنسان مثل هيومن رايتس ووتش والعفو الدولية توافقت مع ما ذكره تقرير يوناما، مشيرة إلى استمرار الاعتقالات التعسفية، والاختفاء القسري، والتعذيب، وفرض قيود صارمة على حرية التعبير وحقوق النساء.
كما حذرت هذه المنظمات من أن الإعادة القسرية لا تهدد فقط حياة الأفراد المعنيين، بل تعرّض الدول المرحِّلة نفسها لمسؤولية قانونية محتملة لانتهاك القانون الدولي.
ويعود أصل الأزمة الحالية إلى عقود من الصراع، ازدادت تعقيداً بعد انسحاب القوات الدولية في عام 2021 وسيطرة طالبان الكاملة على البلاد، ومنذ ذلك الحين، سجلت الأمم المتحدة آلاف الانتهاكات الجسيمة، خاصة ضد النساء والنشطاء والصحفيين.
ورغم وعود طالبان بتغيير سياساتها مقارنة بفترتها الأولى (1996–2001)، فإن الواقع الميداني أثبت استمرار القمع واسع النطاق، وانعدام بيئة آمنة تحمي حقوق الإنسان.
في ظل هذا الواقع، يدعو تقرير يوناما الدول المستضيفة إلى احترام التزاماتها بعدم الإعادة القسرية، وتوفير بدائل حماية حقيقية للفئات الأكثر ضعفاً، مع تعزيز دعم البرامج الإنسانية في الداخل الأفغاني.
ويشدد على ضرورة فتح مسارات قانونية أمام الأفغان الراغبين في مغادرة البلاد، ودعم المجتمع المدني المحلي والمراقبة المستقلة لانتهاكات حقوق الإنسان.
وتبقى مأساة العائدين قسراً إلى أفغانستان جرحاً مفتوحاً في الضمير العالمي؛ جرحاً يتسع مع كل قرار يُتخذ بعيداً عن المبادئ الحقوقية والإنسانية، وبينما يواجه هؤلاء الأشخاص تهديداً دائماً لحريتهم وحياتهم وكرامتهم، يظل السؤال الأهم: إلى متى ستبقى حياة الأبرياء ورقةً في حسابات السياسة والأمن؟ وهل يشهد العالم مستقبلاً حلاً يُعيد لهم الحق في العيش بأمان وكرامة؟