حين تصبح العودة خطراً.. مأساة اللاجئين الأفغان بين الإبعاد القسري والمجهول
حين تصبح العودة خطراً.. مأساة اللاجئين الأفغان بين الإبعاد القسري والمجهول
على مدار أكثر من أربعة عقود، شكّل اللاجئون الأفغان واحدة من أكبر وأطول موجات النزوح في العالم، فرّ الملايين من الحروب والصراعات والاضطرابات المستمرة، ليجدوا ملاذًا مؤقتًا في دول الجوار، خصوصًا إيران وباكستان.
لكن الملاذ المؤقت تحوّل تدريجيًا إلى عبء سياسي واقتصادي، ومع تصاعد السياسات الشعبوية والأزمات الداخلية، أصبح هؤلاء اللاجئون اليوم في مرمى قرارات الترحيل القسري، دون اعتبار لتداعيات إنسانية قد تكون كارثية.
عقود من اللجوء والتهميش
لم تكن أزمة اللاجئين الأفغان وليدة اللحظة، بل هي امتداد لعقود من الصواريخ والرصاص والاضطرابات السياسية التي عصفت بأفغانستان منذ الغزو السوفيتي في أواخر السبعينيات، هذه الصراعات المتتالية دفعت ملايين الأفغان للفرار نحو دول الجوار، وخاصة إيران وباكستان، التي استضافت على مر السنين أعداداً هائلة من اللاجئين.
لقد بنى هؤلاء اللاجئون حياتهم، وعملوا، وأنجبوا أجيالاً لم تعرف سوى هذه الأراضي كوطن، ومع كل موجة نزوح تزايدت أعدادهم، ليصبحوا جزءاً لا يتجزأ من النسيج الاجتماعي والاقتصادي لهذه الدول، وإن كانوا في الغالب يعيشون على الهامش، محرومين من حقوق أساسية ومواجهين تحديات مستمرة.
ورغم الدعم الدولي، ظلت استضافة اللاجئين عبئًا ثقيلًا اقتصاديًا وسياسيًا على الدول المضيفة، خصوصًا مع غياب حلول دائمة أو استقرار حقيقي في أفغانستان. واليوم، مع الأزمة الاقتصادية العالمية وتزايد النزعات القومية، وجدت هذه الدول نفسها تميل أكثر نحو سياسات الهجرة المتشددة كخيار سريع لتخفيف الضغط الداخلي.
سياسات متشددة.. وأرقام مقلقة
في الأشهر الأخيرة، أعلنت السلطات الباكستانية عن خطة لإعادة أكثر من 1.7 مليون لاجئ أفغاني ممن تعتبرهم "مقيمين بشكل غير قانوني"، فيما تحدثت منظمات حقوقية عن عمليات اعتقال جماعية وهدم منازل ونقل آلاف الأسر إلى مراكز الاحتجاز قبل الترحيل. وبالفعل، منذ أكتوبر 2023 وحتى منتصف 2024، تم ترحيل ما يزيد على 600 ألف لاجئ أفغاني قسرًا من باكستان.
أما إيران، التي تستضيف ما يقدّر بنحو 3.4 مليون لاجئ ومهاجر أفغاني، فقد شهدت أيضًا تشديدًا في الإجراءات الأمنية على الحدود وعمليات ترحيل جماعية متسارعة، وفقًا لتقارير منظمة الهجرة الدولية (IOM) التي رصدت ترحيل أكثر من 1.2 مليون أفغاني من إيران عام 2023 وحده، نصفهم تقريبًا أعيدوا في ظروف تفتقر للإجراءات القانونية الأساسية.
تحذيرات من كارثة إنسانية
المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين (UNHCR) أعربت عن قلقها العميق، مؤكدة أن الظروف في أفغانستان لا تزال خطيرة وغير مناسبة للعودة الآمنة والكريمة، خصوصًا بعد عودة طالبان للحكم، وحذّرت تقارير حقوقية من أن عمليات الترحيل غالبًا ما تتم دون تقييم احتياجات الحماية الفردية ودون ضمان عدم إعادة الأشخاص إلى أماكن قد يتعرضون فيها للاضطهاد أو الخطر.
تشير تقارير مفوضية الأمم المتحدة السامية لشؤون اللاجئين (UNHCR) والمنظمات الحقوقية مثل هيومن رايتس ووتش والعفو الدولية، إلى أن هذه العمليات تتم في كثير من الأحيان دون مراعاة الإجراءات القانونية الواجبة، ودون تقييم فردي لاحتياجات الحماية لكل لاجئ، كما تم توثيق حالات انتهاكات لحقوق الإنسان، بما في ذلك الفصل القسري للأسر، وحرمان الأطفال من التعليم، وتقييد الحركة، والاستيلاء على الممتلكات.
كما أشارت هيومن رايتس ووتش إلى أن بعض المرحّلين يواجهون اعتقالًا تعسفيًا أو سوء معاملة فور وصولهم، وأن الترحيل القسري يشكل انتهاكًا صارخًا لمبدأ "عدم الإعادة القسرية"، وهو حجر الزاوية في القانون الدولي للاجئين.
تداعيات إنسانية
لا تقتصر آثار الترحيل القسري على فقدان المأوى أو مصدر الرزق؛ بل تمتد إلى تمزيق الروابط الأسرية والاجتماعية. كثيرون ممن يُعادون إلى أفغانستان وُلِدوا ونشؤوا في إيران أو باكستان، ولا يعرفون بلدهم الأصلي إلا بالاسم.
تقارير منظمة الهجرة الدولية وثّقت أن عددًا كبيرًا من اللاجئين المرحّلين يصلون بلا وثائق هوية، ولا موارد مالية، ويجدون أنفسهم في مواجهة الفقر المدقع أو التشرد، وتفاقم هذه الظروف من معدلات سوء التغذية، وتزيد من تعرض النساء والأطفال لخطر العنف والاستغلال.
وتؤكد الحكومات التي تمضي في الترحيل القسري أن الهدف هو حماية الأمن القومي ومكافحة الهجرة غير النظامية. لكن المنظمات الحقوقية ترى أن هذه السياسات لا تعالج الأسباب الجذرية للنزوح، بل تضاعف المعاناة وتخلق أزمات جديدة.
وبينما تحاول هذه الدول الحفاظ على توازن هشّ بين التزاماتها الإنسانية وضغوطها الداخلية، يظل اللاجئون أنفسهم هم الحلقة الأضعف في معادلة السياسة والأمن.
دعوات للمجتمع الدولي
تدعو مفوضية الأمم المتحدة السامية لشؤون اللاجئين باستمرار الدول المضيفة إلى الالتزام بالتزاماتها الدولية، وتوفير الحماية للاجئين، ومعالجة قضايا الهجرة بطريقة إنسانية تراعي حقوق الإنسان. وتؤكد المفوضية على ضرورة العودة الطوعية والآمنة والكريمة، وليس الترحيل القسري الذي يضع حياة اللاجئين على المحك.
أزمة الترحيل القسري للاجئين الأفغان هي دعوة ملحة للمجتمع الدولي لتحمل مسؤوليته، يجب على الدول المانحة زيادة الدعم لدول الجوار التي تستضيف أعدادًا هائلة من اللاجئين، لتخفيف العبء عنها وتمكينها من توفير بيئة كريمة لهم، كما يجب ممارسة الضغط الدبلوماسي على الدول التي تنتهج سياسات الترحيل القسري، لتذكيرها بالتزاماتها القانونية والأخلاقية.
ويبقى اللاجئون الأفغان مثالًا حيًا على أن الترحيل القسري ليس مجرد قرار سياسي، بل مأساة إنسانية تقلب حياة ملايين الأشخاص، وفي غياب خطة دولية حقيقية لمعالجة جذور الأزمات ودعم المجتمعات المضيفة وتحقيق استقرار داخل أفغانستان، سيبقى هؤلاء في دائرة نزوح لا تنتهي، رهائن لقرارات لا يملكون حق المشاركة فيها.