حصار خفي في باكستان.. ماذا يحدث عندما تصبح حماية الحقوق جريمة؟
حصار خفي في باكستان.. ماذا يحدث عندما تصبح حماية الحقوق جريمة؟
في قلب آسيا، حيث تتصارع آمال التنمية مع ظلال التحديات الأمنية، تتعرض مساحة العمل الحقوقي في باكستان لحصار خفي لكنه قاهر، إنها قصة وطن يواجه فيه المدافعون عن حقوق الإنسان ضغوطًا "غير مسبوقة"، تُهدد بتقويض جهودهم النبيلة في الدفاع عن الحريات المدنية والكرامة الإنسانية، وقد حذرت لجنة حقوق الإنسان في باكستان (HRCP)، التي تُعد منارة مستقلة للحقوق المدنية منذ عقود، بصوت عالٍ من أن عملياتها باتت تتأثر بشكل مباشر بضغوط السلطات الباكستانية.
يتحدث الأمين العام للجنة، هاريس خالق، عن هذا الواقع، قائلا: "خلال الأشهر القليلة الماضية، واجهت اللجنة سلسلة من الإجراءات التعسفية وغير القانونية وغير المبررة التي أعاقت قدرتها على تنفيذ مهامها"، إنها ليست مجرد قيود إدارية؛ فالمشهد يشمل: "إغلاق مكتب اللجنة في لاهور، وتجميد حساباتنا المصرفية بزعم تورطها في أنشطة تجارية، وإيقاف عدادات الكهرباء لدينا وإصدار فواتير مبالغ فيها"، حتى الفعاليات العامة التي تُنظم في مدن مختلفة يتم عرقلتها.
ويتلقى الموظفون "مكالمات هاتفية تهديدية تحذرهم من مناقشة مواضيع تُعتبر حساسة"، وهذه التكتيكات لا تستهدف فقط القدرة التشغيلية للمنظمة، بل تُرسل رسالة ترهيب واضحة لمن يجرؤ على رفع الصوت.
تدهور حرية التعبير والتجمع
إن تضييق الخناق على لجنة حقوق الإنسان في باكستان ليس حادثاً معزولاً، بل هو جزء من صورة أكبر تُظهر تقلصًا متزايدًا في مساحة الدفاع عن حقوق الإنسان في باكستان، ففي السنوات الأخيرة، تدهور الوضع الأمني، ما وفر للسلطات ذريعة لتشديد قبضتها، في حين تزايدت الهجمات المسلحة في الجنوب الغربي، حيث تخوض قوات الأمن صراعًا طويلاً مع المسلحين الانفصاليين البلوش.
ووفقًا لتقرير منظمة العفو الدولية لعام 2024، لجأت السلطات في باكستان إلى "استخدام القوانين" المتعلقة بالتشهير وخطاب الكراهية سلاحاً ضد المعارضين. لم يُسمح لحزب المعارضة الرئيسي في باكستان، حزب حركة إنصاف الباكستانية بزعامة عمران خان، بخوض انتخابات عام 2024 كحزب، ما أدى إلى احتجاجات عنيفة وقمع لأعضائه ومؤيديه، أكثر من 80 شخصًا سُجنوا على خلفية احتجاجات مايو 2023 بعد "محاكمات سرية"، في انتهاك صارخ لمبادئ العدالة.
واستمرت "حالات الاختفاء القسري بلا هوادة، مستهدفة الصحفيين والناشطين والطلاب والفنانين الكوميديين والمعارضين السياسيين وعائلاتهم"، هذه الممارسة البشعة لا تُخالف القانون الدولي فحسب، بل تُغرق المجتمعات في دوامة من الخوف وانعدام الأمن.
حصار الإعلام وتقهقر الديمقراطية
وفق التقارير الحقوقية لم تسلم وسائل الإعلام المستقلة من هذا الضغط، فهي تواجه رقابة متزايدة وصعوبات اقتصادية تُهدد بقاءها، وحتى منصات التواصل الاجتماعي تُقيد بانتظام خلال الاحتجاجات أو الفعاليات السياسية، هذه القيود تجعل من الصعب على المواطنين الحصول على معلومات مستقلة أو التعبير عن آرائهم بحرية.
النتيجة كانت وخيمة على المشهد الديمقراطي. في عام 2024، تراجع تصنيف باكستان في مجال الديمقراطية ستة مراكز، لتُصبح ضمن "أسوأ 10 دول أداءً" في مؤشر الديمقراطية الصادر عن وحدة الاستخبارات الاقتصادية، وكما تقول الناشطة الحقوقية والمحامية، إيمان مزاري: "أصبحت باكستان نظامًا استبداديًا تمامًا، لا محاكم ولا إعلام، لقد حطموا المجتمع المدني... وضع حقوق الإنسان في باكستان مُزرٍ، ونحن نعيش فعليًا في ظل الأحكام العرفية".
التزام بالعدالة رغم التحديات
رغم هذه الظروف القاسية، يظل الأمل في صوت الحقوق متقدًا. تؤكد لجنة حقوق الإنسان الباكستانية أنها ستواصل عملها، كما أكد رئيسها، هاريس خالق: "سنستمر في جهودنا للدفاع عن حقوق الشعب الباكستاني"، ويُضيف متفائلاً: "نحن أصدقاء ناقدون، ولسنا أعداء، ونطمح إلى مجتمع سليم وبلد قوي، نحن منظمة مستقلة نسعى جاهدين للبقاء على الحياد والاعتماد على الأدلة. لا يمكننا المساس بنزاهتنا".
هذا التصميم على الصمود في وجه القمع هو شهادة على الإيمان الراسخ بقيم العدالة والكرامة الإنسانية، إن التحديات التي تواجهها لجنة حقوق الإنسان الباكستانية، وغيرها من المنظمات المستقلة، تُبرز الحاجة الملحة لدعم دولي أكبر وضغط مستمر على السلطات لضمان احترام حقوق الإنسان الأساسية وحماية المدافعين عنها، فمستقبل باكستان، بصفته أمة، يعتمد بشكل كبير على قدرتها على حماية حقوق وحريات مواطنيها، والسماح لأصوات الحق بالصدح دون خوف أو ترهيب.
وضع حقوق الإنسان
باكستان، وهي جمهورية إسلامية ذات نظام برلماني، تتميز بتاريخ معقد من التحديات السياسية والأمنية التي أثرت بشكل كبير على وضع حقوق الإنسان فيها. منذ تأسيسها في عام 1947، شهدت البلاد فترات متقطعة من الحكم العسكري، وصراعات داخلية، وتوترات جيوسياسية، وكلها عوامل ساهمت في تشكيل المشهد الحقوقي.
بعد الاستقلال عن الحكم البريطاني، واجهت باكستان تحديات بناء الدولة، بما في ذلك الصراعات الحدودية وتحديد الهوية الوطنية، ما أدى إلى فترات من عدم الاستقرار السياسي.
شهدت باكستان عدة انقلابات عسكرية (أبرزها في 1958، 1969، 1977، 1999)، حيث تولى الجيش السلطة وأوقف الدساتير وحل المؤسسات المدنية. خلال هذه الفترات، غالبًا ما قُمعت الحريات المدنية، وازدادت الاعتقالات التعسفية، وقُيدت حرية التعبير.
وبين فترات الحكم العسكري، شهدت باكستان محاولات لترسيخ الديمقراطية، ولكنها غالبًا ما كانت تواجه تحديات من التدخل العسكري، والفساد، والاضطرابات السياسية.
في السنوات الأخيرة، تصاعدت التحديات الأمنية بسبب الجماعات المتطرفة والإرهابية، ما دفع الحكومة إلى اتخاذ إجراءات لمكافحة الإرهاب، ولكن بعض هذه الإجراءات أثر سلبًا على حقوق الإنسان والحريات المدنية، بذريعة "المخاوف الأمنية".
انتهاكات حقوقية بارزة
تُشير تقارير المنظمات الحقوقية الدولية (مثل منظمة العفو الدولية، هيومن رايتس ووتش، واللجنة الدولية للحقوقيين) وتقارير الأمم المتحدة إلى نمط متكرر من انتهاكات حقوق الإنسان في باكستان، تشمل:
الاختفاء القسري: تُعد هذه الممارسة واحدة من أخطر الانتهاكات، حيث يتم اعتقال أفراد من قبل قوات الأمن أو وكالات الاستخبارات دون اعتراف رسمي، ويتم حرمان عائلاتهم من معرفة مصيرهم أو مكان وجودهم. تستهدف هذه الممارسة غالبًا النشطاء السياسيين، والصحفيين، والأقليات العرقية (خاصة البلوش)، وأي شخص يُنظر إليه على أنه معارض للدولة.
قيوداً على حرية التعبير والتجمع: تُفرض قيود صارمة على حرية الصحافة، ويواجه الصحفيون مضايقات، وتهديدات، واعتقالات. كما تُقيد حرية التجمع السلمي، ويتم قمع الاحتجاجات بالقوة، وتُعطل خدمات الإنترنت ومنصات التواصل الاجتماعي.
قوانين التجديف (Blasphemy Laws): تُستخدم قوانين التجديف بشكل واسع النطاق في باكستان، وتُعرض المتهمين (وخاصة الأقليات الدينية) لخطر الإعدام أو السجن مدى الحياة. غالبًا ما تُستخدم هذه القوانين لتصفية الحسابات الشخصية أو الاضطهاد الديني، ما يؤدي إلى ترويع الأقليات.
حقوق المرأة والأقليات: لا تزال المرأة والأقليات الدينية والعرقية تواجه تمييزًا وعنفًا واسعي النطاق. تُعد جرائم الشرف، والزواج القسري، وزواج القاصرات، والتمييز ضد الأقليات الدينية، قضايا حقوق إنسان رئيسية.
الإفلات من العقاب: غالبًا ما يفلت مرتكبو انتهاكات حقوق الإنسان، وخاصة من ينتمون إلى الأجهزة الأمنية أو النخبة السياسية، من العقاب، ما يُعزز دورة الانتهاكات ويُقوض سيادة القانون.