رحيل زياد الرحباني.. نَبض الفقراء وصوت المهمّشين الذي لن يصمت
رحيل زياد الرحباني.. نَبض الفقراء وصوت المهمّشين الذي لن يصمت
في زاوية مسرحٍ متداعٍ في بيروت، وقف زياد الرحباني ذات ليلة وسط تصفيق مكتوم، لا بسبب رداءة الصوت، بل لأنّ الجمهور كان مأخوذًا بحقيقة لا يمكن الهروب منها: هذا الرجل لا يغني فقط.. بل يقول الحقيقة التي يخشاها الجميع.
غيّب الموت، اليوم السبت، الفنان زياد الرحباني عن 69 عاماً، بعد مسيرة فنية تركت بصمة عميقة في الموسيقى والمسرح في لبنان والعالم، بحسب ما ذكرت وكالة "فرانس برس".
زياد الرحباني، هو نجل فيروز وعاصي الرحباني، نعم، لكنّه منذ بداياته قرّر أن يكون ابن "الناس"، أن يحكي لغتهم، أن يسخر من وجعهم، وأن يُعرّي منظومات القهر التي تفتك بهم باسم الطائفة والدين والسياسة.
الانحياز للفقراء والمهمشين
لم يكن زياد الرحباني فنانًا محايدًا، كان منحازًا دومًا، وبلا مواربة، إلى المهمشين والفقراء والمقهورين، إلى عمال المياومة وسائقي التاكسي والباعة الجوالين الذين وجدوا في أغانيه ومسرحياته مرآةً عكست وجوههم البسيطة وتفاصيلهم المنسية.
في مسرحيته "بالنسبة لبكرا شو؟"، لم يكن البطل إلا شابًا فقيرًا يعيش على هامش الحرب الأهلية، يبحث عن أملٍ لا يأتي، وعن وطنٍ لا يعترف به.
وفي "فيلم أميركي طويل"، لم تكن الشخصيات سوى مرضى نفسيين محشورين في مصحّ عقلي؛ لأن العقل في بلادٍ مثل لبنان ترفٌ لا يمكن تحمّله.
زياد قال ما لا يقال، وغنّى ما لا يُغنّى، لم يخف من السخرية من الزعماء، ولم يتردد في كشف زيف الشعارات الطائفية، لم يجامل الأغنياء ولا السلطة، واختار أن يكون قريبًا من الشارع، حيث ينام الخوف وتُولد النكات السوداء من رحم الألم.
صوت الذين لا صوت لهم
حين غنّى "أنا مش كافر"، لم يكن يصدم فقط الساحة الفنية، بل كان يصرخ نيابةً عن جيلٍ بأكمله، جيل فقد إيمانه بالمؤسسات وبالعدالة، لكنه لم يفقد إيمانه بالحقيقة.
كان ضميرًا حيًا للشارع اللبناني، تمامًا كما وصفته الصحافية ضحى شمس، التي قالت: "كان زياد ضميرنا.. فقدنا قلبنا"، لم يكن يهتم بالاستعراضات، ولا بصناعة "نجومية" مصطنعة، كان ببساطة كاتبًا للألم اللبناني بصيغة موسيقية، وفيلسوفًا شعبيًا يقرأ المشهد من تحت، لا من فوق.
لقد حوّل المساحات الثقافية إلى مساحات مقاومة، لا بالحجارة أو الشعارات، بل بالموسيقى والمسرح والكلمة الساخرة، في زمن كانت فيه البلاد تحترق، كان زياد الرحباني يسخر من الخراب، لا لينجو بنفسه، بل ليوقظنا جميعًا.
لا حياد في معركة الكرامة
زياد لم يكن فنانًا "لطيفًا"، بل كان مشاغبًا، و"ثقيل الدم" أحيانًا، وقاسيًا في أحكامه. لكنه كان كذلك لأنه لم يعرف الحياد يومًا. اختار أن يكون في صف العدالة، حتى لو كلّفه ذلك العزلة أو سوء الفهم أو النقد.
نادى زياد الرحباني، بحقوق الفلسطينيين حين كان ذلك مكلفًا، وفضح الطائفية عندما كانت مقدّسة، وتبنّى خطابًا يساريًا اجتماعيًا حقيقيًا، لا صالونيًا، نابعًا من حاجات الناس، من الجوع والكهرباء والقمامة وغلاء المعيشة.
وقال ذات يوم: "الناس بدها خبز، مش خطابات"، وكان يعرف، مثل كل العباقرة، أن الفن إما أن يكون في خدمة الناس.. أو لا يكون.
ميراثه لا يُورّث
مع رحيل زياد الرحباني عن عمر 69 عامًا، لا يخسر لبنان فقط موسيقيًا ومسرحيًا عبقريًا، بل يفقد ضميره الحيّ، وصوته المتفرّد، ومرآته العادلة.
لكن إرثه سيبقى حيًا في الأغاني التي تعبق بالسخرية من الساسة، وفي المسرحيات التي وثّقت خيبات الحرب، وفي تسجيلات الإذاعة التي علّمنا فيها أن العقل زينة، وأن الفقر ليس عيبًا.. بل العيب أن تصمت حين ترى الظلم.
رحل زياد، لكن بقي الصوت.. بقي الفقراء الذين أحبّهم وأحبّوه، وبقي الشارع الذي لا يزال يردد حتى الآن: "أنا مش كافر.. بس الجوع كافر، والذل كافر، والاحتكار كافر".