من حارس الديمقراطية إلى دولة تحت المراقبة.. لماذا تتعمق أزمة الحريات في الولايات المتحدة؟
من حارس الديمقراطية إلى دولة تحت المراقبة.. لماذا تتعمق أزمة الحريات في الولايات المتحدة؟
منذ تأسيسها، بُنيت صورة الولايات المتحدة كحامية الحريات الفردية والديمقراطية الليبرالية وحرية التعبير. لكن هذه الصورة اهتزت بشكل غير مسبوق أخيراً، بعد أن وضعت منظمة "سيفيكوس" الدولية غير الربحية الولايات المتحدة على «قائمة المراقبة» ضمن تقريرها السنوي حول حالة المجتمع المدني في العالم، إلى جانب دول مثل تركيا وصربيا وكينيا.
تقرير "سيفيكوس" لم يكن مجرد تقييم تقني، بل تحذير صارخ من انحدار مقلق في مساحة الحريات المدنية داخل بلد طالما قدّم نفسه رمزاً عالميّاً للحرية وحقوق الإنسان.
ثلاثة أسباب تقود للهاوية
استند تقرير المنظمة الحقوقية إلى ثلاث قضايا جوهرية دفعت لتصنيف الولايات المتحدة دولة “ضيقة المساحة المدنية”، أولاهن: نشر الجيش لقمع الاحتجاجات السلمية في مشاهد صادمة للداخل والخارج، حينما استُخدمت قوات اتحادية وأحيانًا معدات عسكرية لتفريق متظاهرين، مثلما حدث في يونيو الماضي حين نشر الرئيس دونالد ترامب قوات مشاة البحرية والحرس الوطني في كاليفورنيا ضد متظاهرين يحتجون على مداهمات الهجرة.
وذكرت أن ثاني الأسباب يتمثل في القيود المتزايدة على الصحفيين والمجتمع المدني حيث وثّقت المنظمات الحقوقية استدعاءات قضائية وتهديدات ومحاكمات تستهدف صحفيين مستقلين ومنظمات حقوقية.
وجاء السبب الثالث ممثلاً في الاستهداف العدواني لمناهضي الحرب في فلسطين إذ تعرض نشطاء لرقابة وملاحقة، وتم منع بعض الفعاليات أو تهديد منظميها.
وتقول "سيفيكوس" إن هذه السياسات لا تلغي حرية التعبير تمامًا لكنها تخنقها عبر قيود إدارية وتضييق مساحات الاحتجاج وتهديد وسائل الإعلام.
ويُظهر التقرير أن الولايات المتحدة انتقلت خلال السنوات الأخيرة إلى خانة "الضيّق" ضمن تصنيف المنظمة الذي يشمل أيضًا "مفتوح، معوق، مكبوت، مغلق".
التصنيف "الضيّق" لا يعني غيابًا كاملًا للحرية، لكنه يعكس بيئة تُمارس فيها الحقوق الأساسية لكن مع عراقيل ومخاطر، حيث يواجه المنتقدون أحيانًا الاعتقال أو المضايقة، وتُرفض طلبات التظاهر بذريعة الأمن، وتستخدم الشرطة القوة المفرطة بما يشمل الغاز المسيل للدموع والرصاص المطاطي.
أرقام تكشف التراجع
تُظهر بيانات لجنة حماية الصحفيين (CPJ) لعام 2024 أن الولايات المتحدة شهدت توقيف 32 صحفيًا أثناء تغطيتهم للاحتجاجات في العام الماضي فقط، بينهم 14 تعرضوا لعنف مباشر من الشرطة.
وفي تقرير الاتحاد الأمريكي للحريات المدنية (ACLU) الصادر في إبريل 2025، سُجل أكثر من 260 مشروعاً قانونيّاً على مستوى الولايات لتقييد حرية التظاهر منذ 2017، أُقر منها فعليًا 52 قانونًا في ولايات مختلفة.
أما حرية التعبير، فتراجعت أيضًا بحسب "مراسلون بلا حدود" التي وضعت الولايات المتحدة في المرتبة 55 عالميًا في مؤشر حرية الصحافة لعام 2025، وهو أدنى ترتيب لها منذ أكثر من عقد.
وللولايات المتحدة تاريخ طويل في صراعها بين حماية الأمن القومي وصيانة الحريات المدنية، ففي فترات الحرب الأهلية والحربين العالميتين، فرضت الحكومة قيودًا واسعة على الإعلام والمجتمع المدني، ومع ذلك، شهد النصف الثاني من القرن العشرين توسعًا تاريخيًا للحريات تحت ضغط الحركات الحقوقية، إلا أن أحداث 11 سبتمبر شكّلت منعطفًا حادًا، إذ أقر قانون الوطنية (Patriot Act) الذي منح السلطات الفيدرالية صلاحيات واسعة للمراقبة والاحتجاز دون أمر قضائي، وفتح الباب لممارسات غير مسبوقة في ملاحقة الجمعيات الإسلامية والناشطين المناهضين للحروب.
اليوم، يرى حقوقيون أن بعض ما يجري يعيد إنتاج هذا النمط، لكن في سياق داخلي متأزم سياسيًا واجتماعيًا.
عسكرة مواجهة الاحتجاجات
تحذير "سيفيكوس" الأبرز انصب على عسكرة الداخل الأمريكي، حيث استُخدمت أسلحة غير فتاكة لكنها مؤذية ضد متظاهرين سلميين، وقال مانديب تيوانا، الأمين العام للمنظمة، إن "هذا المستوى من العسكرة يرسي سابقة خطِرة.. إنه خط أحمر لا يفترض بالقادة الديمقراطيين تجاوزه".
وفي احتجاجات "حياة السود مهمة" 2020، وثقت هيومن رايتس ووتش استخدام الغاز المسيل للدموع في عشرات المدن، واعتقال أكثر من 14 ألف متظاهر خلال أسابيع.
تقرير "سيفيكوس" يذكر أن السلطات الأمريكية تسمح رسميًا بحرية الإعلام، لكنها في الممارسة تضغط عبر التنظيم أو الضغط السياسي.
تجلى ذلك في استدعاءات قضائية لصحفيين رفضوا الكشف عن مصادرهم، إضافة إلى قضايا تشهير ومحاكمات باهظة ضد وسائل إعلام مستقلة، وهو ما وصفته لجنة حماية الصحفيين بأنه أجواء ترهيب قانوني.
استهداف الناشطين
يُظهر التقرير قلقًا خاصًا من استهداف مناهضي الحرب في فلسطين، فبحسب مركز الحقوق الدستورية الأمريكي، جرى إلغاء أكثر من 12 فعالية طلابية مؤيدة لحقوق الفلسطينيين في الأشهر الأخيرة بضغط سياسي أو أمني.
ورصدت المنظمة ذاتها تهديد نشطاء بإجراءات تأديبية جامعية أو طرد من العمل على خلفية آرائهم السياسية.
ويعتقد خبراء أن الانقسام السياسي العميق، وصعود الشعبوية، وتزايد الخطاب الأمني بعد الهجمات الفردية وأحداث العنف الجماعي، كلها عوامل غذت هذا التراجع.
إضافةً إلى ذلك، تضخم الأجهزة الأمنية الفيدرالية وتعاونها مع السلطات المحلية، ما أدى إلى انتشار ثقافة الحل الأمني حتى في مواجهة مطالب اجتماعية مشروعة.
رغم هذا التراجع، لا يزال المجتمع المدني الأمريكي من الأقوى والأكثر حيوية عالميًا. فهناك آلاف المنظمات الحقوقية وكذلك الصحفيون الاستقصائيون والمحامون الذين يخوضون معارك قضائية يومية دفاعًا عن الحريات.
وفي عام 2024 مثلًا، أبطلت المحكمة العليا في نيويورك قانونًا يمنع تصوير الشرطة، معتبرةً أنه انتهاك للدستور.
ويواصل نشطاء الاتحاد الأمريكي للحريات المدنية ومراسلون بلا حدود وهيومن رايتس ووتش إصدار تقارير ورفع دعاوى لإجبار السلطات على احترام الدستور.