الرسوم الجمركية الأمريكية الجديدة وسيفها المزدوج على المستهلكين والشركات.. من يدفع الثمن؟
الرسوم الجمركية الأمريكية الجديدة وسيفها المزدوج على المستهلكين والشركات.. من يدفع الثمن؟
في مشهد يعيد للذاكرة توتر الحروب التجارية التي خيمت على الاقتصاد العالمي خلال العقد الماضي، دخلت اليوم حيز التنفيذ رسوم جمركية جديدة فرضتها الولايات المتحدة على عشرات الدول، وسط تساؤلات متزايدة.. من سيدفع الثمن الحقيقي؟ وهل تعني هذه الخطوة حماية الاقتصاد الأمريكي، أم إلقاء عبء الحماية على المستهلك والشركات على حد سواء؟
الرسوم، التي تصل في بعض القطاعات إلى 100%، طالت قطاعات مركزية مثل السيارات، أشباه الموصلات، المنسوجات، والمعادن، ما ينذر بموجة تضخم جديدة تضرب الاقتصاد الأمريكي والعالمي في آنٍ واحد.
المستهلكون أولاً: عندما يُترجم الحصن الاقتصادي إلى فاتورة شخصية
تُعدّ الطبقة الوسطى الأمريكية أول المتضررين، فمع فرض رسوم بنسبة 15% على السيارات اليابانية، و100% على أشباه الموصلات، يجد المستهلكون أنفسهم أمام قفزة مفاجئة في الأسعار، سواء في المنتجات النهائية أو الإلكترونيات أو حتى لعب الأطفال.
رئيس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي جيروم باول أشار في تصريحات أواخر يوليو إلى أن تأثير هذه الرسوم "سيبدأ بالظهور تدريجياً"، وخصّ بالذكر فئات السلع التي لا يوجد بديل محلي لها، وكمثال مباشر، بدأت أسعار ألعاب شركة هاسبرو الأميركية، التي تُنتج نصف ألعابها في الصين، في الارتفاع في شهري مايو ويونيو.
وفي قطاع المعادن، كانت النتيجة أسرع وأوضح. فبعد فرض رسوم بنسبة 50% على النحاس المستورد من تشيلي، ارتفع سعر النحاس داخل السوق الأمريكية بنسبة 25% مقارنة بالسوق العالمية، ويؤكد الاقتصادي الفرنسي فيليب شالمان أن "أية فجوة في الإنتاج المحلي تُترجم مباشرة إلى عبء مالي على المواطن العادي".
في الجهة الأخرى، تقف الشركات الأمريكية والأجنبية العاملة في السوق الأمريكية على صفيح ساخن. فبين ضغط الأسعار، وتآكل القدرة التنافسية، وانخفاض أرباح الشركات، تبدأ رحلة التكيف المؤلمة.
هوامش ربح تتآكل
أعلنت عدة شركات أوروبية، خاصة في قطاع السيارات، عن انخفاض متوقع في مبيعاتها داخل الولايات المتحدة. شركة مرسيدس توقعت تراجعًا حادًا في مبيعات عام 2025، بينما خفضت بورشه توقعاتها لهوامش الربح إلى ما بين 5 و7% فقط، مقارنةً بـ10-12% في بداية العام.
ويقول الخبير الاقتصادي برونو دي مورا فرنانديز من شركة كوفاس: "الشركات الكبرى تتريث اليوم لمراقبة السوق.. التحدي الأكبر ليس فقط في امتصاص الصدمة، بل في التوقع الدقيق لسلوك المنافسين، ومستوى استعداد المستهلك للدفع".
الضرر عابر للقارات
في أوروبا، يزداد القلق، لا سيما في قطاعات كالنبيذ والمشروبات الروحية التي لم تحظَ بأي استثناءات. وقدّر غابريال بيكار، رئيس اتحاد مصدّري النبيذ الفرنسيين، أن التأثيرات قد تصل إلى خسائر تُقدّر بمليار يورو سنويًا، نتيجة لتأثير مزدوج للرسوم الجمركية وانخفاض قيمة الدولار الأمريكي.
صناعات مثل الكيمياء والصلب في آسيا وأوروبا تجد نفسها أمام تحدٍ وجودي، خصوصًا في مواجهة صناعات أمريكية مدعومة بالحوافز الضريبية والرسوم الحمائية، ما يعزز خطر الاحتكار المحلي وتقليص فرص المنافسة الدولية.
بين الحماية والانغلاق
هذه الرسوم الجديدة ليست وليدة اللحظة، بل تتكئ على إرث سياسي واقتصادي متجذر في السياسة الحمائية التي صعدت في عهد الرئيس دونالد ترامب، واستمرت بصور مختلفة. لكنها الآن تدخل طورًا أكثر شمولًا مع إدارة تعيد رسم خريطة التجارة العالمية تحت شعار "الاقتصاد أولًا، مهما كان الثمن".
فيما يعتبر مراقبون أن هذه السياسة تأتي استجابة لضغوط شعبوية، ورغبة في احتواء الصناعات المحلية المتعثرة، خصوصًا في ولايات "الحزام الصناعي" التي تؤثر في الخريطة الانتخابية. إلا أن تداعياتها الاقتصادية قد تمتد بعيدًا خارج صندوق الاقتراع.
المنظمات الدولية تحذر: حقوق المستهلك في خطر
حذرت منظمة التجارة العالمية (WTO) من أن "مثل هذه السياسات قد تؤدي إلى مزيد من الانقسامات في سلاسل التوريد العالمية، وتؤثر سلبًا على الدول النامية التي تعتمد على تصدير المواد الخام"، فيما أشارت هيومن رايتس ووتش إلى أن ارتفاع الأسعار في قطاعات حيوية مثل الغذاء والأدوية والإلكترونيات يمثل تهديدًا مباشرًا لـ"الحق في المعيشة الكريمة"، معتبرة أن "الرسوم الجمركية لا يمكن فصلها عن العدالة الاجتماعية".
كما دعت اللجنة الاقتصادية والاجتماعية التابعة للأمم المتحدة (UNESCAP) إلى إجراء تقييمات تأثير بيئية واجتماعية قبل فرض أية رسوم أو حواجز تجارية.
القانون الدولي.. بين الشرعية والشرعنة
رغم أن الدول تملك الحق في فرض رسوم جمركية لحماية صناعاتها المحلية وفق قواعد منظمة التجارة العالمية، فإن التوسع في استخدام هذه الأدوات بشكل غير تناسبي قد يُعد انتهاكًا لمبدأ "المعاملة الوطنية" و"عدم التمييز"، وهما ركنان أساسيان في القانون التجاري الدولي.
الرسوم الجمركية الأمريكية، خصوصًا تلك التي تستهدف دولًا بعينها، قد تُعرض واشنطن لنزاعات قانونية في الهيئات الدولية، وهو ما ألمحت إليه عدة دول، منها اليابان وتشيلي، اللتان عبرتا عن "الاحتفاظ بحق الرد في إطار قانوني ومن خلال آليات التحكيم الدولي".
في نهاية المطاف، تُظهر هذه الإجراءات أن الحماية الاقتصادية قد تكون قصيرة النظر إذا لم تضع الإنسان في مركز المعادلة. المستهلك الأمريكي الذي يُفترض أن تحميه السياسات التجارية، هو نفسه الذي يدفع الثمن في صورة تضخم وغلاء معيشة، بينما تخسر الشركات القدرة على التوسع والنمو.