قرار ترامب حول (401k).. التراجع عن الحذر الاستثماري يهدد حق الأمريكيين في التقاعد الآمن

قراءة حقوقية في تهديد "الأمان المالي"

قرار ترامب حول (401k).. التراجع عن الحذر الاستثماري يهدد حق الأمريكيين في التقاعد الآمن
الاقتصاد الأمريكي - صورة تعبيرية

في خطوة وُصفت بأنها "إعادة تشكيل جذرية" لمشهد التقاعد في الولايات المتحدة، وقّع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أمرًا تنفيذيًا يسمح لخطط الادخار التقاعدية (401k) الاستثمار في الأصول البديلة، من بينها العملات المشفرة، والأسهم الخاصة، والعقارات، وصناديق التحوط.

ووفقاً لتقرير نشرته "فايننشيال تايمز"، يفتح القرار الذي جاء بعد ضغوط مكثفة من شركات رأس المال الخاص وأقطاب قطاع العملات الرقمية الباب أمام نحو تسعة تريليونات دولار من مدخرات التقاعد لولوج أسواق أكثر تعقيدًا وأعلى مخاطرة، ما يثير مخاوف حقوقية بشأن حماية حق المتقاعدين في الأمان المالي.

برر البيت الأبيض هذه الخطوة باعتبارها "إضفاءً للديمقراطية" على فرص الوصول إلى الأصول الاستثمارية المربحة، مدعيًا أنها تمنح الأمريكيين العاديين مزيدًا من الخيارات وتنوع المحافظ الاستثمارية، لكن الخبراء يحذرون أن التنويع هنا لا يعني بالضرورة تقليل المخاطر، بل قد يضاعفها، فالأصول البديلة -بخلاف الأسهم والسندات التقليدية- غالبًا ما تتسم بانخفاض الشفافية، وارتفاع الرسوم، وصعوبة التقييم والتسييل، وفي حالة العملات المشفرة، يضاف إلى ذلك طبيعتها المضاربة وتقلباتها الحادة، فضلًا على تعرض السوق لعمليات احتيال واسعة النطاق في السنوات الأخيرة.

صرح الرئيس العالمي لإدارة الأصول في وحدة التدقيق في شركةKPMG، شون ماكي:  "إنّ أبواب البدائل تُفتح على مصاريعها أكثر من أي وقت مضى، سيعتبر العديد من القادة هذا الأمر فرصةً لنموذج أعمالٍ جديد".

وعلى الجانب الأخر، حذّر مدير سياسة الأوراق المالية في شركة Better Markets، بنيامين شيفرين، أنّ هذه الخطوة "أمرٌ سيئ" لحاملي خطط 401k وقال: "سيُعرّض المستثمرون الأفراد أنفسهم لنوعٍ مختلفٍ تمامًا من الأصول دون أن يُدركوا ذلك بالضرورة".

الحقوق الاقتصادية للمتقاعدين

من منظور حقوق الإنسان، يثير القرار تساؤلات جوهرية حول مدى التزام الحكومة بضمان الحق في تقاعد كريم وآمن، وهو أحد أبعاد الحق في مستوى معيشي لائق المنصوص عليه في المواثيق الدولية، إذ يضع القرار المدخرات التي جُمعت على مدى عقود تحت رحمة أسواق لا تخضع للقدر نفسه من الضبط والرقابة، مع تقليل متطلبات الإفصاح والشفافية.

ويحذر محللون أن ذلك قد يفتح الباب أمام استنزاف أموال المتقاعدين عبر رسوم إدارية أعلى وصفقات معقدة يصعب على المدخرين تقييم مخاطرها.

كما أن فترات الاحتفاظ الطويلة بالأصول الخاصة قد تحول دون قدرة المتقاعدين على الوصول الفوري لمدخراتهم في أوقات الحاجة، ما يشكل مساسًا مباشرًا بحقهم في الأمان المالي والسيولة.

لوبيات المال

كشفت "فايننشيال تايمز" أن القرار لم يأتِ، عبثاً، بل كان ثمرة حملة ضغط منسقة قادتها كبرى شركات الاستثمار مثل "بلاك روك" و"أبولو" و"كارلايل" و"بلاكستون"، بهدف فتح قناة تمويل جديدة لمشروعاتها، هذه الشركات، التي واجهت صعوبات في تصريف أصولها وجذب سيولة جديدة، وجدت في خطط التقاعد سوقًا ضخمة غير مستغلة، بل إن بعض جماعات الضغط في واشنطن ذهبت إلى حد التهديد بالمقاضاة ضد خطط التقاعد التي لا تدرج استثمارات في الأصول الخاصة، بدعوى أنها تحرم المدخرين من "عوائد عليا".

وجادلوا بأن مدخري خطط التقاعد (401k) يفتقدون إمكانية التنويع وتحقيق عوائد مرتفعة دون الوصول إلى الأسواق الخاصة.

قال الرئيس التنفيذي لشركة كارلايل، هارفي شوارتز، إن الأمر "تأخر كثيرًا" لأن "العملاء الأثرياء كانوا يتمتعون بإمكانية الوصول إلى هذا المجال منذ فترة طويلة".

وأضافت بلاك روك أن إضافة الاستثمارات الخاصة إلى خطط التقاعد "سيضمن لملايين الأمريكيين بناء محافظ استثمارية أقوى وأكثر تنوعًا".

يقول جوش كوهين المدير الإداري ورئيس حلول العملاء في PGIM DC Solutions لمنصة "كيبلنجر" المتخصصة في الشأن المالي: "إن إضافة فئات أصول مُتنوعة إلى محفظة المساهمات المُحددة يُمكن أن تُولّد أربع سنوات أو أكثر من دخل التقاعد الإضافي".

ويُضيف: "قد يكون العديد من هذه الخيارات مُفيدًا بشكل خاص للمتقاعدين ومُقبلي التقاعد، نظرًا لخصائص هذه الفئات من الأصول المُصممة للحماية من مخاطر التراجع والتضخم".

وفي البيت الأبيض، مثّل المجلس الاقتصادي الوطني ومجلس المستشارين الاقتصاديين التابعين لترامب حلقة الوصل بين قطاع رأس المال الخاص والرئيس، وفقًا لأحد المسؤولين، وأسهم مكتب نائب رئيس الأركان، ستيفن ميلر، في صياغة الأمر.

وصرح نائب السكرتير الصحفي للبيت الأبيض، كوش ديساي، أن "المصلحة الخاصة الوحيدة التي توجه عملية صنع القرار لدى الرئيس ترامب هي المصلحة العليا للشعب الأمريكي".

وأضاف: "يُحقق الأمر التنفيذي التاريخي للرئيس وعده باستعادة ثراء أمريكا من خلال إضفاء الطابع الديمقراطي على الوصول إلى فئات الأصول البديلة، ما يُحدث ويُوسّع خيارات الاستثمار التقاعدي للأمريكيين العاديين".

الاستغناء عن “تعزيز الحماية”

ووفقاً لصحيفة "الغارديان"، يُعدّ الأمر التنفيذي لترامب جزءًا من احتضان إدارته الأوسع لجماعات الضغط الداعمة للعملات الرقمية، وتراجعها عن اللوائح التنظيمية المتعلقة بها بعد أن كان ترامب متشككًا سابقًا في العملات الرقمية، واصفًا البيتكوين بأنها "عملة احتيال"، أطلق هذا العام مشروعه الخاص المربح في مجال العملات الرقمية، وغازل مؤيديها، ووعد بتحويل الولايات المتحدة إلى "عاصمة العملات الرقمية في العالم".

وقال ترامب في الأمر: "إن مزيجًا من التجاوزات التنظيمية وتشجيع الدعاوى القضائية التي يرفعها محامو المحاكمات الانتهازيون قد خنق الابتكار الاستثماري".

ولا يكتفي الأمر التنفيذي بفتح الباب أمام هذه الاستثمارات، بل يتضمن أيضًا إجراءات للحد من الدعاوى القضائية ضد مديري خطط التقاعد، ما يعني تقليص أدوات المساءلة القانونية في حال تعرض المدخرون لخسائر بسبب قرارات استثمارية محفوفة بالمخاطر.

ويرى خبراء أن هذا التوجه يمثل تحولًا من حماية المستثمرين إلى حماية مديري الصناديق، وهو ما قد يقوّض مبدأ "الأمانة الائتمانية" الذي يفرض على مديري الأموال العمل لمصلحة المستفيدين أولًا.

صرح المدير التنفيذي لمركز باراتا للأعمال العالمية بجامعة جورج تاون، أنيل كورانا: "إن فتح قطاع خطط التقاعد 401k الذي تبلغ قيمته 9 تريليونات دولار أمام الأصول البديلة أمر معقول بشكل عام، ولكن إذا كانت هذه الأصول والقطاعات مضاربة للغاية وغير خاضعة للتنظيم الكافي، فقد يكون ذلك خطأً فادحًا".

ما بعد القرار

لم تنتظر شركات الاستثمار الكبرى  تفعيل اللوائح النهائية، بل بدأت بالفعل عقد شراكات لإطلاق صناديق "هجينة" تجمع بين الأسهم والسندات التقليدية وأصول خاصة أكثر غموضًا، ضمن منتجات مصممة خصوصاً لخطط 401k، هذه الصناديق قد تُسوّق للمستثمرين باعتبارها حلولًا مبتكرة، لكنها في الواقع تنقل إليهم مستوى جديدًا من المخاطر لم يكن مطروحًا بهذا الحجم من قبل.

يمثل فتح الأبواب أمام الأصول البديلة في خطط التقاعد نقطة تحول في العلاقة بين رأس المال الخاص وحقوق المتقاعدين، وبينما يُسوَّق القرار كونه خطوة نحو "حرية الاستثمار"، فإن غياب الضمانات الكافية، وتراجع أدوات الحماية، وارتفاع مستوى المخاطر، قد يجعل هذه الحرية باهظة الثمن، فالحق في التقاعد الآمن ليس مجرد مسألة مالية أو استثمارية، بل هو حق إنساني أساسي، وأي سياسة تضع هذا الحق على طاولة المضاربة المالية إنما تعرضه للخطر المباشر.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية