بين الغربة والحنين.. لماذا يفكر لاجئون سوريون بمغادرة ألمانيا؟

بين الغربة والحنين.. لماذا يفكر لاجئون سوريون بمغادرة ألمانيا؟
لاجئون سوريون في ألمانيا- أرشيف

عندما يتحدث أنس، الطبيب الثلاثيني القادم من سوريا، تبدأ كلماته بشيء من الامتنان: "نحن ممتنون لألمانيا، لا سيما من عانوا ويلات الحرب"، لكن سرعان ما يتسلل صوته المتهدّج ليكشف وجهاً آخر للحكاية.. شعور بالخذلان والوحدة والعزلة، أنس واحد من قرابة مليون سوري يعيشون في ألمانيا، وفق بيانات المكتب الاتحادي للإحصاء، وهو يروي تجربته مع اندماج لم يكتمل ورغبة في المغادرة رغم كل شيء.

منذ عام 2015، شكّلت ألمانيا مقصدًا رئيسيًا للاجئين السوريين الذين فرّوا من الدمار، وبدت حينها وكأنها "أرض الأمل"، لكن اليوم، بعد نحو عقد من استقبال اللاجئين، بدأت تتصاعد أصوات تفكّر بالخروج مجددًا بحسب شبكة "دويتش فيله". 

دراسة حديثة صادرة عن معهد أبحاث التوظيف التابع لوكالة التوظيف الاتحادية كشفت أن 2.6 مليون شخص يفكرون في مغادرة ألمانيا، بينهم 300 ألف لديهم خطط ملموسة للرحيل، والسوريون جزء أساسي من هذه المعادلة.

ويربط أنس بين جراح الحرب في سوريا وبين قسوة العزلة الاجتماعية التي يعيشها في مدينته الألمانية، يقول: "معظم السوريين هنا لديهم شعور بعدم التواصل مع أي شخص آخر، نحن نعيش بمفردنا بلا حياة اجتماعية، وأعتقد أن هذا هو السبب الرئيسي لانتقاد البعض للحياة في ألمانيا".

رغم ذلك، فإن تفكير أنس بالرحيل ليس عاطفياً فقط، بل يرتبط أيضًا بالجانب المهني، بعد حصوله على الجنسية الألمانية، يبحث عن فرص عمل أفضل قد تقوده إلى مغادرة البلاد، مؤكداً أن "الجانب الاجتماعي يمكن تحمّله إذا وُجدت وظيفة تحقق طموحي".

حياة مثل "الروبوت"

على النقيض، أحمد، الذي يبلغ اليوم 37 عاماً، لا يخفي يأسه، رحلة وصوله إلى ألمانيا استغرقت سنوات، عبر الجزائر والمغرب وإسبانيا، فور وصوله بدأ بتعلم اللغة ثلاث سنوات، ثم وجد عملاً مستقراً في أحد المتاجر بمدينة بون، ومع ذلك، لم يتمكن من تأسيس حياة اجتماعية أو العثور على شريكة.

يقول بمرارة: "أعيش هنا منذ أكثر من ست سنوات، حياتي محصورة بين العمل والمنزل، مثل الروبوت". ورغم أنه حصل على الجنسية الألمانية، فإن فكرة العودة إلى سوريا تراوده بقوة، إذ يرى أن "الوضع تغيّر هناك، ويمكنني الزواج والمساهمة في إعادة بناء البلد".

أما بهاء، القادم إلى ألمانيا عام 2015، فيروي قصة مختلفة، حصل على الجنسية عام 2022 ويصفها بأنها "صمام أمان" أكثر من كونها نقطة تحول جذرية، يعترف بأن تجربة اللجوء لم تخلُ من مواقف سلبية أو صعوبات اندماج، لكنه يرى في ألمانيا بلدًا منظمًا يوفر فرص الاستقرار والعمل.

مع ذلك، لا ينكر الحنين: "خرجنا من سوريا مجبرين لا مخيرين، الأهل والأصدقاء هناك، وتراودني فكرة العودة دائمًا. لكن في النهاية، حياتي استقرت هنا".

البحث عن بدائل

تتوزع مشاعر اللاجئين السوريين بين الرغبة في العودة للوطن والرغبة في البحث عن حياة بديلة في بلد آخر، نصف من يفكرون في المغادرة، وفق إحصاءات رسمية، يريدون العودة إلى بلدانهم الأصلية، بينما يسعى النصف الآخر إلى الهجرة نحو أماكن جديدة.

الظروف الاجتماعية الصعبة، غياب الدفء العائلي، صعوبات تكوين أسرة، والحنين المتواصل إلى الأوطان؛ كلها أسباب تجعل فكرة المغادرة ماثلة في أذهان كثيرين، حتى بعد سنوات من الحصول على الجنسية الألمانية.

دراسة أجراها المعهد الألماني للبحوث الاقتصادية في برلين أظهرت تراجعًا مطردًا في شعور اللاجئين بالترحيب، ففي عام 2017، شعر 84 بالمئة من اللاجئين بأن الألمان يرحبون بهم، بينما انخفضت النسبة إلى 78 بالمئة عام 2020، ثم إلى 65 بالمئة فقط في 2023، هذه الأرقام لا تعني بالضرورة تراجع الدعم المؤسسي، لكنها تعكس إحساسًا متزايدًا بالاغتراب لدى كثير من السوريين.

وجوه مختلفة للاندماج

القصص الفردية للاجئين السوريين تكشف أن الاندماج ليس مسارًا واحدًا. بالنسبة للبعض، مثل أنس، يشكل العمل والتطور المهني مفتاح البقاء، بالنسبة لآخرين مثل أحمد، لا شيء يعوّض فقدان الدفء الاجتماعي والروابط الإنسانية، أما بهاء، فيرى أن الحياة في ألمانيا، رغم صعوباتها، تبقى الخيار الأكثر أمانًا في ظل واقع لا تزال فيه العودة محفوفة بالمخاطر.

منذ اندلاع الحرب في سوريا عام 2011، شهدت أوروبا واحدة من أكبر موجات اللجوء في تاريخها الحديث، ألمانيا كانت الوجهة الأولى، إذ استقبلت وحدها أكثر من مليون لاجئ سوري منذ عام 2015، في البداية، حظي السوريون بترحيب واسع ضمن سياسة "الباب المفتوح" التي أعلنتها المستشارة السابقة أنغيلا ميركل، لكن مع مرور الوقت برزت تحديات الاندماج، وارتفعت أصوات سياسية وشعبية تشكك في جدوى استمرار استقبال اللاجئين.

اليوم، يعيش نحو نصف مليون سوري في ألمانيا كمواطنين حاصلين على الجنسية، فيما لا يزال آخرون يقيمون بصفة لاجئين أو مقيمين دائمين، ورغم النجاحات التي حققها كثيرون في التعليم والعمل، فإن العزلة الاجتماعية والحنين للوطن تظل عقبات أساسية أمام اندماج كامل، وبينما تسعى السلطات الألمانية لتشجيع سوق العمل والانفتاح على الكفاءات، تبقى مسألة "الانتماء" أكبر التحديات التي تواجه السوريين الذين وجدوا أنفسهم بين خيارين: البقاء في حياة مستقرة لكن باردة، أو العودة إلى وطن جريح يحمل دفء العائلة لكنه لا يزال يفتقد الاستقرار.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية