بين الإشادة الرسمية والغضب الشعبي.. إرث سياسة الطفل الواحد يعود للواجهة في الصين
بين الإشادة الرسمية والغضب الشعبي.. إرث سياسة الطفل الواحد يعود للواجهة في الصين
أعادت وفاة بنغ بي يو الرئيسة السابقة للجنة تنظيم الأسرة المسؤولة عن تنفيذ سياسة الطفل الواحد في الصين فتح واحد من أكثر الملفات حساسية في التاريخ الاجتماعي الصيني الحديث، فبينما اكتفت وسائل الإعلام الرسمية بنعيها والإشادة بدورها، انفجرت على منصات التواصل الاجتماعي موجة انتقادات لاذعة أعادت التذكير بآثار سياسة أوقفت رسميا منذ سنوات لكنها لا تزال حاضرة في ذاكرة ملايين العائلات، وفق ما ذكرته وكالة رويترز الخميس.
توفيت بنغ بي يو في العاصمة بكين يوم الأحد قبل أيام قليلة من بلوغها 96 عاما، وكانت قد تولت رئاسة لجنة تنظيم الأسرة بين عامي 1988 و1998 في ذروة تطبيق سياسة الطفل الواحد التي شكلت واحدة من أكثر السياسات الحكومية صرامة وتأثيرا على الحياة الخاصة للمواطنين في الصين.
إشادة رسمية
وسائل الإعلام الحكومية الصينية وصفت بنغ بأنها قائدة متميزة كرست حياتها لقضايا المرأة والطفل وأسهمت في تنفيذ سياسة سكانية اعتبرتها القيادة آنذاك ضرورية لضمان استقرار البلاد، وركزت التغطيات الرسمية على مسيرتها المهنية الطويلة ودورها في ضبط النمو السكاني خلال مرحلة وصفت بالحساسة من مسار التنمية الصينية.
هذا الخطاب الرسمي جاء متوقعا في بلد ما تزال فيه الرواية الحكومية هي المرجع الأساسي في تقييم السياسات الكبرى، غير أن هذه الرواية اصطدمت سريعا بموجة غضب شعبي واسعة عبر الفضاء الرقمي.
على منصة ويبو الصينية انتشرت تعليقات تعكس مشاعر مكبوتة منذ عقود، وكتب أحد المستخدمين تعليقا لقي تفاعلا واسعا يقول فيه إن الأطفال الذين فقدوا بسبب هذه السياسة ينتظرونك هناك في الآخرة، وهو تعليق اختصر بكلمات قليلة حجم الألم الذي خلفته السياسة في نفوس عائلات كثيرة.
بالنسبة لعدد كبير من الصينيين لا تمثل بنغ مجرد مسؤولة سابقة بل رمزا لمرحلة شهدت اقتحاما غير مسبوق لحياة الناس الخاصة، وتقول ناشطات حقوقيات إن وفاة شخصيات مرتبطة مباشرة بتطبيق سياسة الطفل الواحد تفتح تلقائيا باب الذاكرة الجماعية بما تحمله من قصص قسر وإكراه.
سياسة باسم الاستقرار
فُرضت سياسة الطفل الواحد بشكل شبه شامل في الصين منذ عام 1980 واستمرت حتى عام 2015، وخلال هذه العقود كانت السلطات المحلية ملزمة بتحقيق أهداف سكانية صارمة ما دفع كثيرا من المسؤولين إلى استخدام وسائل قسرية بحق النساء، وتشمل هذه الوسائل عمليات إجهاض قسري وتعقيم إجباري وغرامات باهظة على الأسر المخالفة.
ورغم أن الحكومة بررت هذه الإجراءات آنذاك بالحاجة إلى كبح النمو السكاني الذي اعتبرته تهديدا للتنمية الاقتصادية، فإن الكلفة الإنسانية كانت باهظة، فقد حرم ملايين الأزواج من إنجاب أكثر من طفل واحد وتعرضت نساء لضغوط جسدية ونفسية لا تزال آثارها حاضرة حتى اليوم.
مع مرور السنوات بدأت نتائج السياسة تنعكس بشكل مغاير لما خطط له صناع القرار، فبدلا من السيطرة المستدامة على عدد السكان دخلت الصين في مسار تباطؤ ديموغرافي حاد، وفي عام 2023 فقدت الصين موقعها كأكبر دولة من حيث عدد السكان لصالح الهند.
وفي عام 2024 انخفض عدد سكان الصين للعام الثالث على التوالي ليصل إلى نحو 1.39 مليار نسمة، ويحذر خبراء ديموغرافيا من أن هذا الاتجاه التنازلي مرشح للتسارع خلال السنوات المقبلة مع استمرار انخفاض معدلات الخصوبة وارتفاع متوسط العمر.
قلق اقتصادي متزايد
أثار هذا التحول السكاني مخاوف واسعة داخل الأوساط الاقتصادية، فشيخوخة المجتمع وتقلص قاعدة الشباب ينذران بانخفاض حاد في أعداد القوى العاملة ما قد ينعكس سلبا على النمو الاقتصادي للصين التي تعد ثاني أكبر اقتصاد في العالم.
كما يتوقع أن يؤدي ارتفاع أعداد كبار السن إلى زيادة كبيرة في تكاليف الرعاية الصحية ومعاشات التقاعد وهو ما يشكل عبئا إضافيا على ميزانيات الحكومات المحلية التي تعاني أصلا من مستويات مرتفعة من الديون، ويؤكد اقتصاديون أن الصين تواجه اليوم تحديا مزدوجا يتمثل في تحفيز الإنجاب من جهة وإدارة آثار عقود من سياسات تقييد الولادات من جهة أخرى.
وفي محاولة لمعالجة الأزمة السكانية خففت الصين قيود الإنجاب تدريجيا، ففي عام 2015 أنهت رسميا سياسة الطفل الواحد وسمحت بإنجاب طفلين ثم رفعت الحد إلى ثلاثة أطفال لاحقا، غير أن هذه التغييرات لم تحقق النتائج المرجوة.
يقول باحثون إن سنوات من الضغوط الاقتصادية وتكاليف المعيشة المرتفعة وتغير أنماط الحياة جعلت كثيرا من الأزواج يعزفون عن إنجاب الأطفال حتى في ظل غياب القيود القانونية، وهكذا وجدت الصين نفسها أمام واقع سكاني معقد لا يمكن حله بقرارات إدارية سريعة.
إرث ثقيل
أحد أبرز أسباب الغضب الشعبي الذي رافق وفاة بنغ بي يو يتمثل في شعور كثير من المتضررين بأن الدولة لم تعترف بشكل كافٍ بالمعاناة التي سببتها سياسة الطفل الواحد، فلا توجد اعتذارات رسمية واضحة ولا آليات تعويض شاملة للنساء والعائلات التي تعرضت لانتهاكات جسيمة.
وترى أصوات حقوقية أن تجاهل هذه الذاكرة الجماعية يزيد من فجوة الثقة بين المجتمع والسلطة، وتؤكد أن أي نقاش جاد حول المستقبل السكاني للصين يجب أن يبدأ بالاعتراف بالأخطاء السابقة وتبعاتها الإنسانية.
بالنسبة لجيل كامل من الصينيين لم تكن سياسة الطفل الواحد مجرد قانون بل تجربة شخصية تركت آثارا عميقة على بنية الأسرة والعلاقات الاجتماعية، فقد نشأ ملايين الأطفال كأبناء وحيدين في أسر صغيرة وهو ما غيّر مفاهيم التضامن العائلي والرعاية بين الأجيال.
أطلقت الصين سياسة الطفل الواحد في نهاية سبعينيات القرن الماضي ودخلت حيز التنفيذ الكامل عام 1980 في سياق مخاوف القيادة من انفجار سكاني يهدد مسار التنمية، وأسند تنفيذ السياسة إلى لجان تنظيم الأسرة التي امتلكت صلاحيات واسعة على المستوى المحلي، وعلى الرغم من مساهمتها في خفض معدلات الولادة بشكل حاد فإن السياسة خلّفت آثارا اجتماعية ونفسية عميقة من بينها اختلال التوازن بين الجنسين وتسارع شيخوخة المجتمع.
ومع إلغائها رسميا عام 2015 بدأت الصين مرحلة جديدة من السياسات السكانية تسعى إلى تشجيع الإنجاب وسط تحديات اقتصادية وثقافية معقدة، ويعكس الجدل الذي أعقب وفاة بنغ بي يو استمرار الصراع بين الرواية الرسمية التي تركز على الاستقرار والتنمية وروايات فردية لا تزال تطالب بالاعتراف بالألم الإنساني الذي دفع ثمن تلك المرحلة.











