تهجير قسري واعتداءات وتلوث.. الوجه الخفي لصناعة الجرافيت العالمية في مدغشقر
تهجير قسري واعتداءات وتلوث.. الوجه الخفي لصناعة الجرافيت العالمية في مدغشقر
شهدت مدغشقر في السنوات الأخيرة طفرة في الاستثمارات الأجنبية بمجال استخراج الجرافيت، وهو عنصر أساسي في صناعة البطاريات وتقنيات الطاقة المتجددة، ما وضع البلاد في بؤرة اهتمام اقتصادي عالمي، لكن هذه الطفرة أخفت خلفها سلسلة من الانتهاكات الحقوقية والبيئية التي تهدد المجتمعات المحلية، وتقوض أسس التنمية المستدامة.
وفق ما أورده موقع "business-humanrights"، الاثنين، يكشف تقرير جديد صادر عن مبادرة الشفافية الدولية في مدغشقر أن مشاريع تعدين الجرافيت في مقاطعة بيكيلي ومنطقة أندروي التي تنفذها شركات محلية ودولية، منها رويما ماينينغ إنفستمنت وياوباي إنترناشونال، ارتبطت بانتهاكات لحقوق العمال، واعتداءات جنسية، وتهجير قسري، فضلاً على أضرار بيئية عميقة.
خلفيات تاريخية واقتصادية
تعود مشاريع التعدين في مدغشقر إلى فترة الاستعمار الفرنسي، حيث اعتُبرت الجزيرة مصدراً للمعادن الثمينة، فمنذ التسعينيات شهدت البلاد موجات استثمارية متقطعة، غالباً بدعم من مؤسسات مالية دولية أو بشراكات مع شركات آسيوية وأوروبية، ومع تزايد الطلب العالمي على الجرافيت، ارتفعت حدة المنافسة الدولية للاستثمار في الجنوب الغربي من الجزيرة، في هذا السياق، أطلقت عدة شركات مشروعات كبرى، لكنها واجهت اتهامات متكررة بالفشل في احترام الحقوق الاجتماعية والبيئية.
أحد المحاور الأكثر خطورة في التقرير يتمثل في ظروف العمل داخل مواقع التعدين، يوثق التقرير شكاوى تتعلق بالتحرش الجنسي والإساءة اللفظية، إلى جانب غياب آليات للتظلم وحماية العمال، فالنساء العاملات في هذه المواقع تعرضن لضغوط كبيرة، في ظل بيئة تغيب عنها الرقابة المستقلة.
وأشار التقرير إلى أن غياب النقابات المستقلة وانعدام الثقة في القضاء الوطني جعل الضحايا يحجمون عن تقديم شكاوى خوفاً من الانتقام أو فقدان مصدر رزقهم، وهذه الانتهاكات لا تخرق فقط مبادئ منظمة العمل الدولية، بل تمثل خرقاً مباشراً للاتفاقيات الدولية التي صادقت عليها مدغشقر بشأن القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة وحماية حقوق العمال.
التهجير والآثار المجتمعية
رصد التقرير عمليات تهجير قسري نفذت دون تعويضات عادلة للمجتمعات المحلية، شملت اقتلاع أسر من أراضيها الزراعية ومساكنها، ولم تقتصر الأضرار على الجانب المادي، إذ أبلغت بعض المجتمعات عن انتهاك معتقداتها التقليدية عبر تدمير قبور الأجداد، ما أدى إلى فقدان الرابط الروحي والثقافي مع الأرض، وتعد هذه الممارسات انتهاكاً صريحاً لمبادئ القانون الدولي العرفي، الذي يحمي حقوق المجتمعات الأصلية والسكان المحليين في الحفاظ على تراثهم الثقافي والروحي.
التقرير يشير أيضاً إلى أن عمليات الحفر والنقل أدت إلى تلوث غباري كثيف، أضر بالزراعة والإنتاج الغذائي في المناطق المجاورة، كما تسبب تصريف النفايات في تلوث مصادر المياه التي يعتمد عليها السكان للشرب والري، ما فاقم المخاطر الصحية. وعمليات إزالة الغابات المصاحبة للتعدين أسهمت في تدهور النظم البيئي والتنوع البيولوجي، في منطقة تُعد من أغنى مناطق العالم بالتنوع البيولوجي.
ووفقاً لبيانات صادرة عن منظمات بيئية دولية، فإن مدغشقر فقدت أكثر من 40% من غطائها الحرجي الأصلي منذ الستينيات، ويُتوقع أن تؤدي أنشطة التعدين المتزايدة إلى تسارع هذا التدهور.
رغم وعود الشركات ببناء مدارس ومراكز طبية وإصلاح طرق ضمن التزاماتها البيئية والاجتماعية، يشير التقرير إلى أن نسبة الإنجاز الفعلي لم تتجاوز 17% خلال سبع سنوات، ووجدت المجتمعات المحلية التي كانت تنتظر تحسناً في الخدمات الأساسية نفسها أمام واقع من الإقصاء وتدهور ظروف المعيشة، كما أن محاولات مؤسسات المجتمع المدني المحلية لمساءلة الشركات قوبلت بالصمت أو غياب الردود من قبل الشركات الأم، مثل رويما وياوباي.
مواقف المنظمات الحقوقية
أثار التقرير ردود فعل قوية من منظمات حقوقية دولية مثل منظمة العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش، التي طالبت بتحقيقات مستقلة وشفافية في إدارة الموارد الطبيعية بمدغشقر، كما دعت الأمم المتحدة إلى التزام الشركات بمبادئ المسؤولية عن الأعمال التجارية وحقوق الإنسان التي أقرتها عام 2011، والتي تلزم الشركات بتجنب التسبب في أضرار حقوقية أو الإسهام فيها، وبدوره شدد الاتحاد الإفريقي على أن هذه الانتهاكات تُعرقل تحقيق أهداف التنمية المستدامة المتعلقة بالقضاء على الفقر والمساواة بين الجنسين والعمل اللائق.
تشير بيانات البنك الدولي إلى أن نحو 75% من سكان مدغشقر يعيشون تحت خط الفقر، في حين يمثل القطاع الزراعي مصدر رزق رئيسي لأكثر من 60% من الأسر، وأي تلوث للتربة أو المياه نتيجة التعدين ينعكس مباشرة على الأمن الغذائي، كما أظهرت إحصاءات محلية أن حوادث التحرش أو الاعتداءات في مواقع العمل غالباً ما تبقى غير موثقة، بسبب ضعف آليات الشكوى، وتعكس هذه المعطيات أن أزمة تعدين الجرافيت ليست مجرد قضية قطاعية، بل أزمة إنسانية تمس مقومات العيش الكريم.
الأبعاد القانونية والدولية
القانون الدولي واضح في حماية العمال والمجتمعات المحلية، فالاتفاقية رقم 169 لمنظمة العمل الدولية بشأن الشعوب الأصلية والقبلية، والإعلان الأممي بشأن حقوق الشعوب الأصلية، ينصان على حق المجتمعات في التشاور والموافقة الحرة والمسبقة قبل أي مشروع يؤثر على أراضيها، كما تحظر العهود الدولية، مثل العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، التهجير القسري دون تعويض عادل، لكن غياب آليات التنفيذ المحلية الفعالة في مدغشقر يجعل هذه القوانين أقرب إلى نصوص غير مطبقة.
تكشف تجربة مدغشقر مع تعدين الجرافيت عن فجوة عميقة بين وعود التنمية وواقع الانتهاكات، إذ يظل العمال والمجتمعات المحلية الحلقة الأضعف في معادلة تسيطر عليها شركات عابرة للحدود في ظل مؤسسات وطنية ضعيفة، والتحدي الحقيقي أمام الحكومة والشركاء الدوليين يكمن في تعزيز الشفافية، وضمان مساءلة الشركات، وتطبيق القوانين الدولية على أرض الواقع، واستمرار الوضع على ما هو عليه لا يهدد فقط حقوق الأفراد، بل أيضاً البيئة والموروث الثقافي والمجتمعي في واحدة من أكثر المناطق هشاشة في العالم.