بعد مقتل تشارلي كيرك تقف أمريكا على شفير حرب أهلية
بعد مقتل تشارلي كيرك تقف أمريكا على شفير حرب أهلية
استغرق تحديد المشتبه به في إطلاق النار على تشارلي كيرك أياماً، ولكن هوية القتال والدواعي التي حملته على القتل لا يعتد بها في سياق أحوال أمريكا الأوسع. وتبعات الحادثة متوقعة: انقسام أمريكا على نفسها أكثر فأكثر. فالعنف السياسي، ومستوياته تتعاظم، سيتفاقم أكثر. وأمريكا ستنزلق أكثر على درب ضياع [دمار] الجمهورية.
عندما نشرت كتابي، "الحرب الأهلية المقبلة" The Next Civil War، في عام 2022، لم يخف علي خبراء في الحرب الأهلية والاغتيالات، كنت قد حدثتهم، أن أخطر ما تواجهه أمريكا في اللحظة الراهنة ليس العنف السياسي بحد ذاته، بقدر ما هو رد الفعل الجماعي على هذا العنف. فإن الولايات المتحدة كانت ولا تزال على حدة وناتئة على صعيد العنف السياسي، والتاريخ الأمريكي خير شاهد على أن عدد شخصياته السياسية التي تعرضت لعمليات اغتيال تفوق بأشواط الأعداد المسجلة في تاريخ أية أنظمة ديمقراطية أخرى. فقد تعرض أكثر من ربع الرؤساء الأمريكيين إما لمحاولات اغتيال نجوا منها، أو لعمليات اغتيال أودت بحياتهم على يد قتلى، بيد أن أي اغتيال لرئيس أو قاض كان يقارب، في ما مضى، كفاجعة وطنية جامعة. وكان الإيمان راسخاً بأن العنف، بغض النظر عن مرتكبه، هو كارثة تطاول المنظومة السياسية ككل. فالسياسة، في النهاية، هي السبيل لإنقاذنا من العنف، وخير وسيلة لحل النزاعات.
أما اليوم، فلم يعد حس الحداد الجماعي سارياً [مشتركاً في أوساط الأمريكيين]. وردود الفعل على مقتل كيرك أدت إلى شقاق فوري في الخطاب الأمريكي، فرجل في عمر الـ31 سنة اغتيل في وضح النهار، على مرأى من زوجته وأولاده، وأمام حشد من آلاف الأشخاص في حرم جامعة "يوتا فالي"، ولكن الأمريكيين عجزوا عن الإجماع على أن الأمر غير مقبول. وهنا، لا أود الترويج لأي كان، أو تسمية أي من الأشخاص الذين ابتهجوا لهذا الاغتيال على منصات التواصل الاجتماعي، كما كانوا ليفعلوا لو أن فريق كرة قدم أثير على قلوبهم فاز في إحدى المباريات. لكنني لاحظت، أقله عبر مواقع التواصل الاجتماعي التي تصفحتها، أن هذا الفرح لم يقتصر على قلة قليلة من المعتوهين أو المتطرفين. وشاعت عبارات من قبيل: "وماذا عن الأطفال الذين قتلوا في كولورادو؟"، بيد أن أي شخص يساري يتصور أن اغتيال خصومه السياسيين سيؤدي إلى قدر أكبر من الاستقرر في الولايات المتحدة أو تحسن أحوال أمريكا فهو واهم تماماً إلى حد كبير.
من جهته، رد اليمين الأمريكي بتهديدات بالانتقام وبسفك الدماء. ووجه دونالد ترمب أصابع الاتهام إلى "اليسار المتطرف" في حادثة إطلاق النار، متعهداً بقمعه، وقال إن "خطابه هو المسؤول المباشر عن الإرهاب الذي نراه اليوم في بلادنا". وفي كلمة ألقاها من مكتبه البيضاوي، عمد ترمب إلى تجاهل حوادث العنف الموجهة ضد الديمقراطيين من قائمة الاعتداءات ذات الدوافع السياسية، معتبراً أنها حوادث على صلة بـ"العنف السياسي اليساري المتطرف".
لقد انتُهك خط أحمر جديد في مسار الانهيار الأمريكي: فالصحفيون صاروا اليوم في عداد المستهدفين. وصارت الطبقة السياسية والقضاة عرضة لأخطار كبيرة منذ أن تسلم ترمب مقاليد الرئاسة، إلى حد جعل مواكبة المستجدات، في هذا الصدد، بالغة الصعوبة. وفي التفاصيل، قتلت رئيسة مجلس النواب السابقة لولاية بنسلفانيا مع زوجها في يونيو (حزيران) الماضي، في حين أصيب منزل حاكم بنسلفانيا بقنبلة مولوتوف خلال عيد الفصح اليهودي. أما القضاة الأمريكيون الذين ينظرون في قضايا تخص ترمب، فيتلقون بانتظام على شاكلة بيتزا تهديدات لترهيبهم، بيد أن استهداف الصحفيين هو أمر جديد. وفي هذا السياق، يشار إلى أن شقة جوزيف كاهن، رئيس تحرير صحيفة "نيويورك تايمز"، تعرضت الشهر الماضي للتخريب ورش غرافيتي على جدرانها في نيويورك. ومن ثم، فإن اغتيال كيرك يمثل امتداداً طبيعياً لهذه التوجهات.
إن وقع العنف على الصحافة، في الولايات المتحدة، سيكون كوقعه على أية مؤسسة أخرى، فيقوض قدرتها على العمل بخطى صغيرة وإنما ثابتة. وقرار ترمب بتنكيس الأعلام الأمريكية كلها، تكريماً لذكرى كيرك، قد يبدو بلا شك رمزياً، لكنه سام [ضار]: فالمغدور كان من رجالاته [الحزبية]، وهو بالتالي بطل قومي. ومن الآن فصاعداً، سيغدو الصحفيون الأمريكيون مجرد موظفين تابعين لمنظومة سياسية، ويصبحون في مرمى المغالاة في الاستقطابات الحزبية التي ستؤثر سلباً في شتى جوانب الحياة الأمريكية.
في طور تأليفي لكتاب "الحرب الأهلية المقبلة"، وقع تمرد السادس من يناير (كانون الثاني)، وقد اتصل بي أحد أصدقائي لمواساتي، بعد أن ظن أن كتابي لن يرى النور، لاعتباره أن اقتحام مبنى الكابيتول سيكون بمنزلة صحوة ضمير، وأن أشخاصاً عقلاء سيجتمعون ويضعون حداً للعنف السياسي الذي ينهك كيان الولايات المتحدة ويقوضه، لكنه كان مخطئاً، وها هو ذا الشعب الأمريكي يميل إلى تجريد الآخر من إنسانيته. ومع أن اللوم، حتى الآن، يقع على اليمين في معظم أعمال العنف السياسي في الولايات المتحدة، بيد أن اليسار يحاول اللحاق بالركب. وفي هذا الصدد، يشار إلى أن ثمة مزارات [أو صروحاً] في نيويورك، تكريماً للويجي مانجيوني الذي أطلق النار على مدير إحدى شركات التأمين الصحي.
تطغى على فيديو اغتيال كيرك سمة بارزة: القدرة على العنف وعلى تبجيل المشهدية [شغفها بالمشاهد الاستعراضية]، فالمشهدية أداة لنشر العنف. ولم يصور كتاب "الحرب الأهلية المقبلة" معسكرات جكما في الحرب الأهلية الأولى، ولم يتوقع انقساماً بين الولايات كما في فيلم "الحرب الأهلية" Civil War للمخرج أليكس غارلاند. وما توقعته، في المقابل، هو انهيار للمؤسسات يقود إلى العنف كوسيلة مشروعة للتعبير عن الإرادة السياسية. وخبراء الحروب الأهلية وصفوا على مسمعي جمعاً متواصلاً بين القتل والترهيب على الأصعدة كافة، بدءاً بالخطاب المتداول، ومروراً بالمؤسسات السياسية والقانونية، وانتهاء بالحياة اليومية.
من الواضح أن هذا المسار انطلق، والأزمة الرئيسة في الولايات المتحدة -ضمن جملة من الأزمات الأخرى- مفادها جواب هل النظام السياسي أم الجريمة [التصفية والاغتيال] المباشرة ما سيحدد مستقبل البلاد. فحين يشتعل فتيل العنف، يصبح إخماده شبه مستحيل. ومن ثم، يعلمنا التاريخ أن نيراناً كتلك التي تلتهم الولايات المتحدة ستبقى مشتعلة إلى أن تحرق كل من يقف في طريقها.
لكن من قد يحاول إطفاء النيران؟ يميناً ويساراً، تناشد أصوات إلى التعقل والتعاطف، لكنها ما عادت تلقى أية آذان مصغية. وفي المقابل، تصدح أكثر فأكثر المطالبات بالانتقام، وتطغى على أي حس بالإنسانية المشتركة. وهذا تحديداً أكثر ما يثير الرعب في ما يجري بالولايات المتحدة. فالفوضى هي ما يريدونه فعلياً ويغرقون فيها، ولا مجال لتجنب الفوضى متى كانت تمثل إرادة الناس.
خلال "سنوات الرصاص" [عهد الألوية الحمراء يرمون بالرصاص الشرطة في الستينيات]. ووسط هذه الفوضى، تتجلى حقيقة واحدة أكثر فأكثر: الدماء ستدر مزيداً من الدماء.
نقلاً عن صحيفة إندبندنت عربية