مناخ يزداد تطرفاً.. كيف تواجه إندونيسيا تهديد الفيضانات والانهيارات الأرضية؟

مناخ يزداد تطرفاً.. كيف تواجه إندونيسيا تهديد الفيضانات والانهيارات الأرضية؟
فيضانات إندونيسيا

استيقظت جزيرة بالي الإندونيسية هذا الأسبوع على مشهد كارثي، إذ ضربتها أسوأ فيضانات منذ أكثر من عشرة أعوام، حاصدةً أرواح 17 شخصاً على الأقل ومخلّفةً دماراً واسع النطاق في البنية التحتية والمناطق السكنية، وبحسب ما أوردته صحيفة "الغارديان" اليوم الاثنين جعل هطول أكثر من 385 ملم من الأمطار خلال 24 ساعة الطرق غير صالحة للاستخدام، والجسور تنهار، ومئات السكان يتركون منازلهم بحثاً عن الأمان.

 الكارثة التي شهدتها بالي ليست حدثاً معزولاً، بل تمثل حلقة في سلسلة من الظواهر المناخية القاسية التي تضرب مناطق عدة من العالم، من جنوب آسيا إلى أستراليا، في ظل تسارع التغير المناخي.

الأسباب المناخية والبيئية

الفيضانات في إندونيسيا ظاهرة مألوفة خلال موسم الأمطار الممتد بين سبتمبر ومارس، لكن ما حدث في بالي يتجاوز المعدلات الطبيعية، ويشير علماء المناخ إلى أن ارتفاع درجات الحرارة العالمية يعزز قدرة الغلاف الجوي على حمل بخار الماء، ما يؤدي إلى هطول أمطار كثيفة، وفيضانات مفاجئة، إضافة إلى ذلك، تلعب أنشطة بشرية دوراً محورياً في تفاقم الأزمة، وعلى رأسها إزالة الغابات التي كانت تشكّل خط الدفاع الطبيعي ضد الفيضانات والانهيارات الأرضية، إلى جانب التوسع العمراني غير المخطط الذي يعوق مسارات المياه الطبيعية.

إندونيسيا، بحكم موقعها الجغرافي في منطقة استوائية وجغرافيا جزرية تضم أكثر من 17 ألف جزيرة، طالما واجهت كوارث طبيعية متكررة مثل الفيضانات والزلازل والتسونامي، ففي عام 2007، شهدت جاكرتا فيضانات مدمّرة أودت بحياة نحو 80 شخصاً وتسببت في نزوح نصف مليون آخرين، أما في 2020، فقد سجلت العاصمة أيضاً فيضانات هي الأسوأ منذ عقدين، راح ضحيتها أكثر من 60 شخصاً، وهذه الحوادث تؤكد أن ما تشهده بالي اليوم ليس طارئاً، بل استمرار لمسار تاريخي من الكوارث المناخية التي تتفاقم بفعل التغيرات البيئية والمناخية العالمية.

التداعيات الإنسانية

الآثار المباشرة للفيضانات الأخيرة في بالي لا تقف عند حدود الخسائر البشرية، فمئات العائلات وجدت نفسها بلا مأوى، في حين اضطرت السلطات إلى إقامة مراكز إيواء مؤقتة تفتقر في كثير من الأحيان إلى مقومات أساسية من الغذاء والمياه النظيفة والرعاية الصحية، ويشكل الأطفال والنساء والمسنون الفئة الأكثر هشاشة في هذه الظروف، حيث تتزايد مخاطر الأمراض المعدية، مثل الكوليرا والتيفوئيد، نتيجة تلوث مصادر المياه. كما أن تدمير البنية التحتية يعزل مجتمعات كاملة عن الخدمات الأساسية، ما يفاقم الشعور بالعزلة والخوف.

ردود الفعل المحلية والدولية

المنظمات الحقوقية المحلية في إندونيسيا حذرت من أن الكارثة تكشف مجدداً هشاشة خطط الطوارئ وضعف البنية التحتية لمواجهة الكوارث المناخية، وأشارت منظمة العفو الدولية في بيان لها إلى أن الحق في بيئة صحية وآمنة هو جزء لا يتجزأ من حقوق الإنسان، داعية الحكومة الإندونيسية إلى تعزيز برامج الوقاية والتأهب، أما الأمم المتحدة، فقد ربطت ما حدث في بالي بارتفاع وتيرة الكوارث المناخية عالمياً، مؤكدة أن جنوب شرق آسيا أصبح من أكثر المناطق عرضة لتأثيرات الاحترار العالمي.

القانون الدولي والحق في بيئة سليمة

الإطار القانوني الدولي يؤكد أن الحق في بيئة صحية منصوص عليه ضمن العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وكذلك في اتفاقية باريس للمناخ لعام 2015 التي صادقت عليها إندونيسيا، وبموجب هذه الالتزامات، تقع على عاتق الدولة مسؤولية تطوير سياسات وقائية لحماية مواطنيها من الكوارث المناخية، وضمان تعويض المتضررين بشكل عادل، وترى المنظمات الحقوقية الدولية أن الفيضانات الأخيرة تبرز الحاجة إلى تطبيق فعّال لهذه الالتزامات، خصوصاً في ظل تزايد الخسائر البشرية والمادية.

الأبعاد الإقليمية والعالمية

الفيضانات التي اجتاحت بالي تتزامن مع كوارث مشابهة في بلدان أخرى فالهند تواجه فيضانات هي الأسوأ منذ 1988 في ولاية البنجاب، في حين أجبرت السيول في باكستان أكثر من مليوني شخص على النزوح منذ يونيو، وفي أستراليا تعاني نيو ساوث ويلز من أمطار قياسية جعلت سبتمبر الأكثر رطوبة منذ بدء السجلات في 1879، وهذه الترابطات توضح أن ما يحدث في إندونيسيا ليس حالة منفردة، بل جزء من أزمة عالمية تتطلب استجابات مشتركة.

الإحصاءات والأرقام

بحسب بيانات البنك الدولي، تكبدت إندونيسيا خسائر اقتصادية تجاوزت 2.7 مليار دولار جراء الكوارث الطبيعية خلال العقد الأخير، وقد أفادت منظمة الصليب الأحمر الدولية أن أكثر من 1.5 مليون شخص في البلاد نزحوا بسبب الفيضانات بين عامي 2010 و2020، وتشير تقارير الأمم المتحدة إلى أن جنوب شرق آسيا يشهد زيادة بنسبة 30% في الكوارث المرتبطة بالفيضانات خلال العقد الأخير مقارنة بالعقد الذي سبقه، وهذه الأرقام تسلط الضوء على التكلفة البشرية والاقتصادية المتنامية للأزمات المناخية.

الفيضانات التي ضربت بالي تمثل إنذاراً جديداً بأن أزمة المناخ لم تعد تهديداً مستقبلياً، بل واقع حاضر يفرض نفسه بقوة على حياة الناس وحقوقهم الأساسية، والأسباب تتداخل بين الطبيعة والبشر، والتداعيات تمتد من الخسائر الفادحة في الأرواح إلى إضعاف البنى الاجتماعية والاقتصادية. وأمام هذه التحديات يصبح التزام إندونيسيا والمنظومة الدولية بتعزيز سياسات المناخ ومواجهة الإفراط في التنمية وإزالة الغابات مسؤولية لا تقبل التأجيل، فالحق في بيئة سليمة لم يعد رفاهية، بل ضرورة إنسانية وجودية.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية