حين تصبح التعريفات عبئاً على المائدة.. الأسر الأمريكية بين وعود الحماية وواقع الغلاء

حين تصبح التعريفات عبئاً على المائدة.. الأسر الأمريكية بين وعود الحماية وواقع الغلاء
أرفف متاجر شبه فارغة

منذ أن أعادت إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب فرض رسوم جمركية شاملة على السلع المستوردة، تغيرت حياة ملايين الأمريكيين، وما بدأ كسياسة "لإحياء الصناعة الوطنية" أصبح واقعاً ضاغطاً على المائدة اليومية لعائلات الطبقة الوسطى والفقيرة، فقد أظهرت دراسة أعدتها مؤسسة ستاندرد آند بورز جلوبال أن الشركات الأمريكية ستدفع أكثر من 1.2 تريليون دولار إضافية في عام 2025 بسبب التعريفات الجديدة، لكن ما يقارب ثلثي هذا العبء ينتقل فعلياً إلى المستهلكين عبر ارتفاع الأسعار.

في أحد متاجر مدينة ستيلا بولاية كارولينا الشمالية، كانت بيج هاريس تضع في سلتها عدداً قليلاً من السلع التي اعتادت شراءها كل أسبوع، لكن هذه المرة بدت مترددة وهي تنظر إلى الأسعار المعلقة أمام الرفوف، تقول بيج، وهي أم لطفلين في الثامنة والثلاثين من عمرها وتعمل مساعدةً في مدرسة محلية: "كل شيء أصبح أغلى، من صبغة الشعر إلى حليب الأطفال، كانت ميزانيتنا تكفي لأسبوع كامل، أما الآن فنضطر لتقليص المشتريات رغم أننا لم نرفع دخلنا سنتاً واحداً" وفق ما أوردته صحيفة "الغارديان" البريطانية الاثنين.

وفي ولاية ألاباما، تتحدث جين ميدوز، وهي متقاعدة تبلغ من العمر 74 عاماً، عن التغير في نمط حياتها: "صرت أشتري فقط ما لا أستطيع الاستغناء عنه، لا أذهب إلا إلى كوستكو لأن الأسعار خارجه خيالية"، ويضيف مايرون بيلر، وهو متقاعد يعول زوجته المريضة بالتهاب المفاصل: “تضاعف سعر الخبز الذي أشتريه خلال عام، نحن نعيش على دخل ثابت لا يتغير بينما الأسعار تتصاعد بلا توقف”، وتعكس هذه الشهادات التي تناثرت عبر الولايات الوجه الإنساني لأزمة اقتصادية تتسلل إلى كل بيت وتثقل كل مائدة.

ضريبة خفية

تؤكد التقديرات الحديثة الصادرة عن مختبر الميزانية في جامعة ييل أن الرسوم الجمركية الجديدة ستكلف الأسرة الأمريكية المتوسطة نحو 2400 دولار إضافية سنوياً، في حين يحذر باحثو معهد بيترسون للاقتصاد الدولي من أن متوسط الرسوم الجمركية المفروضة على السلع الصينية وحدها تجاوز 58 في المئة، وهو أعلى مستوى منذ منتصف القرن الماضي.

ومع أن معدل التضخم العام انخفض إلى ما دون ثلاثة في المئة، فإن الأسعار في الأسواق لم تتراجع، فالمستهلكون يدفعون ما يشبه ضريبة خفية على كل منتج مستورد من الإطارات إلى الإلكترونيات مروراً بالأغذية والأدوية.

في بنسلفانيا، تقول ميشيل، وهي أم لثلاثة أطفال: "نحتاج إلى شراء إطارات جديدة للسيارة، لكنها أصبحت بعيدة المنال، حيث يكلف الإطار الواحد الآن 250 دولاراً، وهذا خارج حدود طاقتنا".

وتضيف ناتالي من نيوهامبشر أن رفوف المتاجر "باتت شبه خالية، والخيارات محدودة للغاية، بينما الأسعار تتضاعف أسبوعاً بعد آخر"، أما ميني، وهي كاتبة متخصصة في الطعام من ولاية أوريغون، فتقول إنها اضطرت إلى تغيير نمط حياتها بالكامل: "لم أعد أشتري سوى الضروريات، لا رحلات تسوق، ولا وجبات في الخارج، حتى الوجبات السريعة باتت رفاهية لا يمكن تحملها".

عبء اقتصادي وإنساني

في خضم هذه المعاناة، يجد الأمريكيون أنفسهم أمام سؤال أعمق من مجرد ارتفاع الأسعار: هل كانت الرسوم الجمركية وسيلة لإنعاش الصناعة الوطنية أم عبئاً اقتصادياً وإنسانياً غير محسوب؟ فالإدارة الأمريكية الحالية تدافع عن سياستها بوصفها "درعاً لحماية العمال الأمريكيين من الممارسات التجارية غير العادلة"، بينما يرى خبراء الاقتصاد أن أثرها الحقيقي انعكس على جيوب المستهلكين لا على أرباح المصانع، ويشير الاقتصاديون إلى أن أغلب الشركات نقلت تكاليف الرسوم إلى الأسعار النهائية، مما جعل الأسر تتحمل العبء الأكبر.

أما على الصعيد القانوني فقد تحولت الرسوم إلى محور معركة دستورية غير مسبوقة، إذ تواجه إدارة الرئيس دونالد ترامب دعاوى قضائية عدة تتهمها بتجاوز صلاحياتها عبر استخدام قانون الطوارئ الاقتصادية الدولية لفرض رسوم دائمة على التجارة، ففي قضية "في أو إس سيليكشنز ضد ترامب" الصادرة عن محكمة الاستئناف الفيدرالية هذا العام، اعتبرت المحكمة أن الرئيس تجاوز سلطاته وأن فرض الرسوم يحتاج إلى تفويض صريح من الكونغرس، القضية نفسها، إلى جانب دعوى أخرى مرفوعة من شركات تصنيع أمريكية، أحيلت إلى المحكمة العليا التي ستنظرها في نوفمبر المقبل في جلسة ينتظرها الاقتصاديون بترقب كبير لأنها قد تحدد مستقبل صلاحيات السلطة التنفيذية في المجال التجاري.

ويحذر قانونيون من أن استمرار استخدام أوامر الطوارئ الاقتصادية لتحديد سياسات جمركية دائمة يمثل سابقة خطيرة تهدد مبدأ الفصل بين السلطات، بينما يرى مراقبون في الكونغرس أن الصراع الحالي لا يتعلق فقط بالتجارة، بل بحدود السلطة الرئاسية ذاتها. ومع أن الإدارة تؤكد أنها تستهدف حماية الصناعة الأمريكية، فإن المحاكم تنظر في ما إذا كان هذا المسوغ القانوني كافياً لتجاوز دور التشريع.

الحق في مستوى معيشي لائق

في الجانب الإنساني، أطلقت منظمات المجتمع المدني والمنظمات الحقوقية حملة واسعة ضد ما تسميه "الضرائب المقنّعة"، مؤكدة أن الرسوم الجمركية الحالية تنتهك الحق في مستوى معيشي لائق لأنها ترفع أسعار السلع الأساسية دون أي آلية حماية للفقراء، واعتبرت الجمعية الوطنية للنهوض بالملونين ومنظمات العدالة الاقتصادية أن السياسات الجمركية تضرب الفئات الضعيفة أولاً، وتزيد الهوة بين الطبقات في المجتمع الأمريكي، كما أشار تقرير صادر عن مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة إلى أن الإجراءات التجارية التي ترفع تكاليف المعيشة دون حماية اجتماعية كافية تتعارض مع الالتزامات الدولية للولايات المتحدة في مجال الحقوق الاقتصادية والاجتماعية.

اقتصاديًا، يشير خبراء الاحتياطي الفيدرالي في سانت لويس إلى أن التعريفات الجديدة ساهمت في رفع مؤشر الأسعار الاستهلاكية الشخصي بنحو نصف نقطة مئوية خلال الربع الأخير من العام، وهو ما يعني أن تأثيرها لا يزال ملموساً رغم تباطؤ التضخم الكلي، كما كشف تقرير لمؤسسة "تاكس فاونديشن" أن التعريفات الحالية تعادل زيادة ضريبية غير مباشرة قدرها 1300 دولار على الأسرة المتوسطة، وأن أكثر من 800 ألف شخص مهددون بالانزلاق تحت خط الفقر بسبب ارتفاع الأسعار في الغذاء والطاقة.

من الناحية التاريخية، لم تكن التعريفات الجمركية غريبة عن الاقتصاد الأمريكي. فمنذ القرن التاسع عشر، كانت تستخدم أداةً لحماية الصناعات المحلية وتمويل الخزينة، إلا أن الفارق اليوم يكمن في اتساع نطاقها وارتباطها بقرارات أحادية الجانب من السلطة التنفيذية. فالقانون الذي استند إليه الرئيس يعود إلى حقبة الحرب الباردة، وقد صُمم لمواجهة التهديدات الأمنية، لا لإدارة التوازن التجاري الدائم، وهو ما يجعل الجدل الدستوري والاقتصادي حوله أكثر حدة في ظل عالم مترابط يعتمد على سلاسل توريد عابرة للحدود.

ومع اقتراب الموعد المحدد لجلسة المحكمة العليا، تبدو الولايات المتحدة أمام مفترق طرق اقتصادي وقانوني في آن واحد، فإما أن تستمر الرسوم بوصفها سياسة حمائية تُعزز التصنيع المحلي لكنها تفرض كلفة إنسانية على المستهلكين، أو أن تتراجع الإدارة عنها تحت ضغط القضاء والرأي العام، وفي الحالتين، يظل السؤال الأهم هو ما إذا كانت هذه السياسة قد نجحت فعلاً في تقوية الاقتصاد أم أنها فقط نقلت عبء المنافسة إلى المواطن العادي.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية