من الغموض إلى المساءلة.. ما مدى التزامات الشركات بحقوق الإنسان في عصر الذكاء الاصطناعي؟

من الغموض إلى المساءلة.. ما مدى التزامات الشركات بحقوق الإنسان في عصر الذكاء الاصطناعي؟
منتدى الأمم المتحدة للأعمال المسؤولة وحقوق الإنسان في منطقة آسيا والمحيط الهادئ

 

في منتصف سبتمبر 2025، احتضن منتدى الأمم المتحدة للأعمال المسؤولة وحقوق الإنسان في منطقة آسيا والمحيط الهادئ جلسة نقاش محورية بعنوان "من الغموض التنظيمي إلى المساواة في استخدام الخوارزميات"، وناقشت الجلسة، التي نظمها المجلس الدولي لحقوق الإنسان بالتعاون مع المعهد الدنماركي لحقوق الإنسان، كيف يمكن ضمان احترام الشركات التكنولوجية لحقوق الإنسان في بيئة رقمية متسارعة التطور، وسط تضخم نفوذ الخوارزميات وتزايد الاعتماد على الذكاء الاصطناعي في القرارات اليومية.

 التزامات الدول ومسؤوليات الشركات

بحسب ما أورده موقع المجلس الدولي لحقوق الإنسان تستند النقاشات إلى المبادئ التوجيهية للأمم المتحدة بشأن الأعمال التجارية وحقوق الإنسان، التي ترسم خطاً واضحاً بين التزامات الدول في الحماية ومسؤوليات الشركات في الاحترام، لكن، كما أوضح سانهاوان سريسود، المستشار القانوني الرئيسي في المجلس الدولي لحقوق الإنسان، فإن "التطور التكنولوجي السريع ضلل هذه الحدود، مما خلق غموضاً قانونياً متزايداً"، وأشار إلى أن الشركات التكنولوجية باتت تمارس أدواراً تشبه سلطات عامة، فتقرر ما يمكن نشره، وتدير فضاءات رقمية تُعد بمثابة بنى تحتية أساسية، غالباً دون مساءلة أو إشراف كافيين.

خطر تآكل الحقوق تحت ضغط الحكومات

المشاركون ناقشوا أيضاً إشكالية معقدة: كيف يمكن للشركات مقاومة الضغوط الحكومية التي تدفعها إلى انتهاك حقوق الإنسان، وفي الوقت نفسه الخضوع للالتزامات القانونية المحلية؟ التجارب الأخيرة، مثل مطالب الرقابة على المحتوى أو مشاركة البيانات مع السلطات الأمنية، أظهرت هشاشة التوازن بين حماية الحقوق الرقمية والاستجابة للقوانين الوطنية.

النساء والمجتمعات الهشة في قلب النقاش

أحد أبرز المحاور كان البعد الجنساني للحقوق الرقمية، داريكا بامرونجتشوك، محللة السياسات في منظمة "أكسس ناو"، أكدت أن "الناشطات والمجتمعات المهمشة يواجهن مخاطر كبيرة، بدءاً من التحرش والترهيب وصولاً إلى التمييز الخوارزمي"، وأضافت أن النقاش حول "سلامة الذكاء الاصطناعي" ركز طويلاً على الجوانب التقنية، فيما جرى تجاهل أصوات النساء والمجتمعات الأكثر تضرراً.

إنغريد كوين، كبيرة مستشاري السياسات في مجال الذكاء الاصطناعي، شددت على أن الوقت قد حان لتدخل قانوني دولي أوضح، ودعت لجنة القضاء على التمييز ضد المرأة (CEDAW) إلى تبني توصية عامة حول الذكاء الاصطناعي، كما طالبت بتفعيل آليتين وردتا في قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة A/RES/79/325: لجنة علمية دولية مستقلة وحوار عالمي حول الحوكمة الرقمية.

إطار قانوني دولي يتطور ببطء

رغم أن المبادئ التوجيهية للأمم المتحدة لعام 2011 أرست مرجعاً أساسياً، فإن الواقع الرقمي الجديد يفرض تحديات غير مسبوقة، فالقوانين الوطنية متفاوتة، سواء من تشريعات الاتحاد الأوروبي بشأن الذكاء الاصطناعي إلى القوانين الفضفاضة في دول أخرى، وهو ما يخلق ثغرات تسمح للشركات بالمناورة، والمنظمات الحقوقية الدولية مثل "هيومن رايتس ووتش" و"منظمة العفو الدولية" طالبت مراراً بوضع معايير عالمية ملزمة للشركات التكنولوجية، خصوصاً في ما يتعلق بالخصوصية، الشفافية الخوارزمية، وعدم التمييز.

من الإنترنت المفتوح إلى السلطة الرقمية للشركات

في العقد الأول من الألفية، اعتُبر الإنترنت فضاءً مفتوحاً يتيح حرية التعبير والتواصل، لكن مع صعود شركات التكنولوجيا العملاقة، تحول الفضاء الرقمي إلى بيئة تهيمن عليها خوارزميات لا تخضع إلا للقليل من الرقابة، ومنذ فضيحة "كامبريدج أناليتيكا" عام 2018، مروراً بالاتهامات بتضليل الناخبين عبر المنصات الرقمية، وصولاً إلى استغلال تقنيات الذكاء الاصطناعي في الحروب الإلكترونية، تعاظم الوعي بخطورة غياب الضوابط.

فجوة الرقابة والتأثير العالمي

تشير تقديرات الاتحاد الدولي للاتصالات (ITU) إلى أن 5.6 مليار شخص يستخدمون الإنترنت بحلول منتصف 2025، أي أكثر من ثلثي سكان العالم، وتشكل منصات التكنولوجيا الكبرى خمس شركات من بين أكبر عشر شركات في العالم من حيث القيمة السوقية، وفي المقابل، تقرير حديث لمقرر الأمم المتحدة الخاص المعني بالخصوصية الرقمية أشار إلى أن أقل من 20% من الدول لديها قوانين شاملة تنظم استخدام الذكاء الاصطناعي، وهذه الفجوة تتيح للشركات مساحة واسعة للتحكم دون مساءلة واضحة.

تداعيات إنسانية تتجاوز الفضاء الرقمي

السياسات الخوارزمية لا تقتصر على الفضاء الافتراضي، فالقرارات المتعلقة بالتوظيف، والائتمان، والرعاية الصحية وحتى العدالة الجنائية باتت تعتمد على أنظمة الذكاء الاصطناعي، وقد حذرت دراسات للبنك الدولي في 2024 من أن الخوارزميات غير الشفافة قد تعزز التمييز الهيكلي ضد النساء والأقليات، مما يفاقم التفاوتات القائمة.

المجتمع المدني كخط دفاع أول

المنتدى سلط الضوء على الدور الحاسم للمجتمع المدني في مساءلة الشركات، سواء من خلال التقارير الدورية، حملات التوعية، أو الضغط من أجل تشريعات أكثر صرامة، لكن المنظمات الحقوقية تواجه بدورها ضغوطاً متزايدة، بما في ذلك محاولات التضييق على عملها أو الحد من وصولها إلى المعلومات.

جلسة المنتدى الأممي أكدت أن الفضاء الرقمي لم يعد هامشياً بل أصبح جزءاً أصيلاً من حياة البشر، يحمل فرصاً هائلة لكنه يطرح تحديات قانونية وإنسانية وضمان احترام حقوق الإنسان في هذا الفضاء يتطلب تحالفاً متعدد الأطراف من خلال دول تفي بالتزاماتها، وشركات تتحمل مسؤولياتها، ومجتمع مدني نشط، وأطر قانونية دولية متطورة. 



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية