ديمقراطية تحت الحصار.. مخاوف حقوقية من تصاعد الاعتقالات قبيل انتخابات تنزانيا
ديمقراطية تحت الحصار.. مخاوف حقوقية من تصاعد الاعتقالات قبيل انتخابات تنزانيا
مع اقتراب الانتخابات العامة في 29 أكتوبر 2025، تتزايد المخاوف من أن تنزانيا تسير نحو استحقاق انتخابي محفوف بانتهاكات تهدد مصداقيته، فقد وثقت منظمات حقوقية محلية ودولية، أبرزها هيومن رايتس ووتش، سلسلة من الاعتقالات والاختفاءات القسرية والتضييق على الأحزاب المعارضة والإعلام المستقل، وسط اتهامات للحكومة بتقويض استقلالية الهيئة الوطنية للانتخابات.
هذه التطورات -وفق هيومن رايتس ووتش- تضع مستقبل المسار الديمقراطي في البلاد تحت مجهر المجتمع الدولي، وتطرح تساؤلات حول مدى احترام تنزانيا لالتزاماتها الدولية في مجال حقوق الإنسان.
جذور الأزمة السياسية
تتمتع تنزانيا بتاريخ سياسي اتسم بالاستقرار النسبي مقارنة بدول الجوار، حيث حافظ حزب الثورة (CCM) الحاكم على السلطة منذ الاستقلال عام 1961، لكن هذا الاستقرار غالباً ما ارتبط بالهيمنة السياسية وتهميش المعارضة، ومع صعود الرئيسة سامية سولو حسن إلى الحكم في 2021، برزت آمال بإصلاحات وانفتاح سياسي، إلا أن السنوات الأخيرة شهدت عودة أساليب القمع.
منذ عام 2015، وثّق مركز الحقوق القانونية وحقوق الإنسان ما يقارب 100 حالة اختطاف وإخفاء قسري حتى مطلع 2025، في حين سجل تحالف مدافعي حقوق الإنسان 48 اعتداء على ناشطين ومدافعين خلال عام 2024 وحده، وهذه الأرقام تكشف عن نمط مقلق يعكس تراجعاً في الحريات المدنية والسياسية في تنزانيا.
قمع المعارضة واعتقال قادتها
لم يقتصر التضييق على استهداف ناشطين، بل امتد إلى قيادات المعارضة، ففي أبريل 2025، اعتقلت السلطات توندو ليسو، زعيم حزب المعارضة الرئيسي (تشادما)، خلال تجمع انتخابي، ووجهت له تهمًا خطيرة تصل عقوبتها إلى الإعدام، وفي خطوة أخرى، أصدرت المحكمة العليا في يونيو قراراً يحظر الأنشطة السياسية لحزب تشادما، لتقضي فعلياً على أكبر منافس سياسي لحزب الحكم.
كما منعت لجنة الانتخابات مرشحين بارزين من الترشح، بينهم لوهاغا مبينا من حزب ACT-Wazalendo، ما أثار انتقادات واسعة بأن المنافسة الانتخابية "مُفرغة من مضمونها"، وهذه الإجراءات أثارت قلقاً من أن الانتخابات المقبلة قد تتحول إلى عملية شكلية تفتقر إلى التعددية والمشاركة الحقيقية.
تقارير هيومن رايتس ووتش وثقت حالات صادمة من العنف، ففي مايو 2025، اختُطف الناشط مبالوكا نيغاغي المعروف باسم "مديود" في مبيا ولا يزال مصيره مجهولاً، وفي يونيو، تعرض الناشط جافت ماتارا لهجوم وحشي نُفذ من مجهولين، تبعه اعتداء داخل المستشفى الذي كان يتلقى العلاج فيه.
حوادث القتل لم تغب عن المشهد. ففي سبتمبر 2024، عُثر على جثة علي كيباو، عضو أمانة حزب تشادما، وقد تعرض للضرب ورُشّ بالحمض، ورغم إعلان السلطات فتح تحقيق، لم تُسفر القضية عن أي اعتقالات، مما أثار اتهامات بالتواطؤ أو التقاعس الرسمي.
تقييد حرية التعبير
بالتوازي مع القمع السياسي، واصلت الحكومة التضييق على وسائل الإعلام، فقد تم تعليق تراخيص صحف وإذاعات ناقدة، بينما فُرضت قيود على استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، وتعرضت صحفيات بارزات مثل ماريا سارونجي للاختطاف في ظروف غامضة، وسط مخاوف من أن يكون الهدف الوصول إلى حساباتها الإعلامية ونشاطها النقدي.
هذا المناخ الخانق جعل من الصعب على الإعلام المستقل تغطية القضايا السياسية بحرية، وأدى إلى تقييد حق المواطنين في الحصول على المعلومات الضرورية لتكوين قراراتهم الانتخابية.
لم ينجُ المجتمع المدني أو الزعماء الدينيون من دائرة الاستهداف في تنزانيا، ففي يونيو 2024، تعرض الناشط إدغار موكابيلا للتعذيب والاعتداء الجسدي قبل أن يُلقى فاقد الوعي على بُعد مئات الكيلومترات من مكان احتجازه. وفي أبريل 2025، هوجم القس تشارلز كيتما بعد نشره مقطع فيديو يطالب بإصلاحات سياسية.
بل وصل الأمر إلى سحب ترخيص إحدى أكبر الكنائس الخمسينية بعد تصريحات لأسقفها المؤسس انتقد فيها ظاهرة الاختفاء القسري، هذه الإجراءات تعكس استخدام أدوات الدولة لتكميم الأصوات الناقدة، حتى من داخل المؤسسات الدينية.
تداعيات إنسانية خطيرة
يتجاوز أثر هذه الانتهاكات المشهد السياسي ليطول النسيج الاجتماعي والإنساني في تنزانيا، ودفع الخوف المستشري من الاعتقال أو الاختفاء كثيراً من الناشطين إلى المنفى، بينما يعيش آخرون في عزلة خوفاً من التعبير عن آرائهم.
القيود المفروضة على التجمعات السلمية تعني أن المواطنين محرومون من ممارسة حق أساسي في التعبير السياسي، أما في زنجبار، حيث التوترات الطائفية والعرقية حساسة، فإن القمع المتزايد يهدد بإشعال اضطرابات أوسع قد تنعكس على استقرار البلاد بأكملها.
أثارت هذه التطورات ردود فعل واسعة. فقد أعربت اللجنة الإفريقية لحقوق الإنسان والشعوب، وخبراء الأمم المتحدة، والبرلمان الأوروبي عن قلقهم العميق إزاء تدهور الأوضاع في تنزانيا، وأكدت هذه الجهات أن تقييد الحريات وغياب المنافسة العادلة يقوّضان مبادئ الديمقراطية المنصوص عليها في المواثيق الدولية مثل العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والميثاق الإفريقي لحقوق الإنسان والشعوب.
كما شددت هيومن رايتس ووتش على أن استمرار هذه الممارسات يهدد بإفراغ الانتخابات المقبلة من معناها، داعية إلى إصلاح عاجل يضمن استقلالية لجنة الانتخابات وحماية حرية التعبير والتنظيم السياسي.
القانون الدولي.. التزامات لم تُحترم
تنزانيا طرف في العديد من الاتفاقيات الدولية والإقليمية التي تكفل الحقوق الأساسية، ومنها العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، الذي يضمن الحق في حرية التعبير، وحرية التجمع السلمي، والمشاركة السياسية، كما تنص مبادئ الاتحاد الإفريقي على ضرورة إجراء انتخابات شفافة وحرة.
لكن الممارسات الأخيرة تكشف عن فجوة واضحة بين الالتزامات المعلنة والسلوك على الأرض، فاختطاف المعارضين وتعذيب الناشطين يتعارض بشكل مباشر مع اتفاقية مناهضة التعذيب التي صادقت عليها تنزانيا، فيما يقوّض تقييد الإعلام الحق في حرية الرأي والمعلومات.
ما يجري اليوم يذكّر بأحداث انتخابات 2015 و2020 التي شابها العنف واتهامات التزوير، في تلك الانتخابات، قُمعت المعارضة في زنجبار بشكل خاص، وأُعلن فوز الحزب الحاكم وسط اتهامات بعدم الشفافية، وتكرار السيناريو نفسه عام 2025 قد يعمّق من أزمة الثقة بين المواطنين والدولة، ويفتح الباب أمام احتجاجات أو اضطرابات قد تهدد الاستقرار الداخلي.
تواجه تنزانيا اليوم مفترق طرق حاسماً، فإما أن تستجيب الحكومة لمطالب المنظمات الحقوقية والدولية بإجراء إصلاحات عاجلة، بما يضمن بيئة انتخابية نزيهة وشفافة، أو أن تُجازف بدخول الانتخابات المقبلة في أجواء من القمع والإقصاء، ما قد يطيح بمصداقيتها داخلياً وخارجياً
إن ما يجري لا يُختزل في منافسة سياسية بين أحزاب، بل يتعلق بحقوق ملايين المواطنين في اختيار مستقبلهم بحرية وأمان، وإذا استمر القمع فإن الانتخابات المقبلة قد تتحول إلى نقطة سوداء في تاريخ البلاد الديمقراطي، مع تداعيات إنسانية وسياسية لا تقتصر على حدود تنزانيا، بل تمتد إلى استقرار المنطقة بأكملها.