قضية تتجاوز حدود التأشيرة.. ترحيل معلق بريطاني يثير جدلاً في واشنطن حول حرية التعبير
قضية تتجاوز حدود التأشيرة.. ترحيل معلق بريطاني يثير جدلاً في واشنطن حول حرية التعبير
تحوّل احتجاز المعلق والإعلامي البريطاني سامي حمدي في الولايات المتحدة إلى قضية مثيرة للجدل تخطت بعدها القانوني لتصبح رمزاً جديداً للصراع الدائر حول حرية التعبير وموقعها في السياسة الأمريكية، فبينما تصر إدارة الرئيس دونالد ترامب على أن قرار ترحيله إلى بريطانيا يستند إلى اعتبارات أمنية بحتة، يرى مدافعون عن حرية الصحافة وحقوق الإنسان أن القضية تمثل انحرافاً خطيراً عن القيم التي قامت عليها الديمقراطية الأمريكية، خصوصاً فيما يتعلق بحق النقد السياسي والإعلامي.
سامي حمدي، المعروف بتحليلاته السياسية الحادة وانتقاداته العلنية للحكومات الغربية فيما يتعلق بسياساتها في الشرق الأوسط، كان يقوم بجولة محاضرات في عدة ولايات أمريكية بدعوة من مجلس العلاقات الأمريكية الإسلامية، إلا أن رحلته توقفت بشكل مفاجئ عندما ألقت سلطات الهجرة القبض عليه في مطار سان فرانسيسكو الدولي، وألغت تأشيرته السياحية بدعوى تهديد محتمل للأمن القومي وفق وكالة الأنباء الألمانية.
ذريعة الأمن القومي
قالت تريشيا ماكلوين، المتحدثة باسم وزارة الأمن الداخلي، في تصريح رسمي، إن "من يدعمون الإرهاب أو يبررونه لن يُسمح لهم بالعمل أو الزيارة داخل الولايات المتحدة"، مؤكدة أن حمدي سيُرحّل في أقرب وقت ممكن.
لكن منظمات حقوقية وإعلامية سارعت إلى التشكيك في المبررات الرسمية، معتبرة أن استخدام تعبيرات فضفاضة مثل "دعم الإرهاب" يفتح الباب أمام استهداف الأصوات المعارضة.
وفي تصريحات أدلى بها نائب مدير مجلس العلاقات الأمريكية الإسلامية، إدوارد أحمد ميتشل، قال إن احتجاز حمدي "ليس سوى رسالة سياسية موجهة لكل من ينتقد سياسات إدارة ترامب تجاه إسرائيل أو يتحدث عن الحرب في غزة بلسان مختلف عن الرواية الرسمية الأمريكية"، وأضاف أن حمدي "لم يرتكب أي مخالفة قانونية ولم يتجاوز صلاحيات تأشيرته، بل كان يمارس حقه المشروع في التعبير داخل الفضاء العام الأمريكي".
انقسام في الرأي العام
أثار اعتقال المعلق البريطاني موجة واسعة من الجدل في الأوساط الإعلامية والسياسية الأمريكية، ففي حين اعتبر مؤيدو إدارة ترامب أن الإجراء "ضروري لحماية الأمن القومي"، وصفه معارضون بأنه استخدام مفرط للسلطة لتكميم الأفواه وقمع حرية التعبير.
وكتب عدد من الصحفيين في كبريات الصحف الأمريكية أن ما حدث يكشف عن تحوّل خطير في مفهوم حرية التعبير في عهد ترامب، إذ لم يعد معيار التعبير هو الالتزام بالقانون، بل مدى توافق الآراء مع الخط الرسمي للإدارة.
وفي المقابل، احتفى بعض الناشطين المحافظين بالخطوة، معتبرين أنها إشارة قوية ضد ما وصفوه بخطاب الكراهية ضد إسرائيل والغرب، وكانت الناشطة اليمينية لورا لومر من أوائل من أعلنوا دعمهم لقرار الترحيل، وقالت عبر وسائل الإعلام إنها "طالبت منذ أشهر بمنع دخول أشخاص مثل حمدي إلى الولايات المتحدة".
العلاقات الإسلامية الأمريكية
أصدر مجلس العلاقات الأمريكية الإسلامية بياناً مطولاً أدان فيه اعتقال حمدي ووصفه بأنه اختطاف سياسي، مؤكداً أن القرار يمثل إهانة صارخة لمبدأ حرية التعبير الذي تفتخر به الولايات المتحدة.
وأضاف البيان أن المعلق البريطاني لم يدعُ إلى العنف أو التحريض، بل كان ينتقد السياسات الإسرائيلية من منطلق حقوقي وإنساني، مشيراً إلى أن القبض عليه يأتي في سياق متزايد من التضييق على الأصوات الداعمة للفلسطينيين.
كما دعا المجلس إدارة الرئيس دونالد ترامب إلى التوقف عن شيطنة المسلمين والإعلاميين المنتقدين وطالب بالإفراج الفوري عن حمدي والسماح له بمغادرة البلاد بشكل طوعي بدلاً من الترحيل القسري.
جدل قانوني معقد
من الناحية القانونية، يتيح القانون الأمريكي لسلطات الهجرة إلغاء تأشيرة أي شخص تعتبره تهديداً محتملاً للأمن القومي، حتى دون تقديم أدلة مفصلة، غير أن خبراء قانونيين يرون أن تطبيق هذا النص في حالة سامي حمدي يثير تساؤلات حول مدى التناسب بين السبب والإجراء.
وقال البروفيسور جوناثان ميرفي، أستاذ القانون الدولي بجامعة جورجتاون، إن مثل هذه الحالات تضعف الثقة في حياد المؤسسات الأمنية عندما يتم استهداف صحفيين أو باحثين بناءً على آرائهم السياسية، وأضاف أن “المشكلة ليست في النص القانوني نفسه، بل في كيفية استخدامه لتبرير قرارات ذات طابع سياسي بحت.
منظمات حرية الصحافة تحذر
انضمت منظمة "مراسلون بلا حدود" إلى قائمة الجهات المنتقدة، معتبرة أن احتجاز حمدي يمثل سابقة خطيرة في تعامل الولايات المتحدة مع الصحفيين الأجانب.
وقالت في بيانها إن إلغاء التأشيرة وترحيل معلق إعلامي بسبب آرائه يشكل انتهاكاً مباشراً للمادة 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ويقوض المكانة الأخلاقية للولايات المتحدة كمدافع عن حرية الصحافة عالمياً.
كما عبّرت لجنة حماية الصحفيين عن قلقها من تزايد ما وصفته بـ"الاستهداف الانتقائي" للإعلاميين الذين يتبنون وجهات نظر مخالفة للسياسات الأمريكية في الشرق الأوسط.
يأتي هذا الحدث في سياق أوسع من التوتر بين إدارة ترامب والمجتمع المسلم الأمريكي، فمنذ يناير الماضي، تشن الإدارة حملة واسعة ضد ما تسميه التهديدات الفكرية المرتبطة بالتطرف، شملت إلغاء تأشيرات طلاب وباحثين انتقدوا إسرائيل على وسائل التواصل الاجتماعي، وترحيل آخرين بسبب مشاركات اعتُبرت “معادية للسامية”.
ويرى ناشطون أن هذه الإجراءات تُستخدم غطاءً سياسياً لتكميم المعارضة الداخلية والخارجية، وأنها تنسجم مع خطاب متشدد يسعى إلى كسب الأصوات المحافظة عبر إظهار الحزم في قضايا الأمن والهجرة.
انعكاسات على العلاقات الدولية
لم يقتصر الجدل على الداخل الأمريكي، إذ عبّرت منظمات بريطانية عن قلقها من طريقة تعامل واشنطن مع أحد مواطنيها. وقالت جمعية الصحفيين البريطانيين في بيان رسمي إن “إساءة معاملة سامي حمدي تمثل تعدياً على حقوق الصحفيين البريطانيين وتتناقض مع قيم الشراكة بين لندن وواشنطن”.
وأشارت تقارير إعلامية في لندن إلى أن الخارجية البريطانية تتابع القضية، في حين لم يصدر تعليق رسمي حول ما إذا كانت ستتدخل دبلوماسياً لدى السلطات الأمريكية.
يقول محللون سياسيون إن ترحيل حمدي يعكس تحوّلاً أوسع في السياسة الأمريكية تجاه الإعلام الدولي، حيث لم تعد واشنطن تتسامح مع الأصوات الأجنبية التي تشكك في سياساتها الشرق أوسطية، خصوصاً فيما يتعلق بإسرائيل.
ويرى الخبير الأمريكي في العلاقات الدولية كاميرون هادسون أن إدارة ترامب "تسعى لفرض تعريف جديد لمفهوم حرية التعبير يقوم على الولاء السياسي، لا على الحق في النقد"، مضيفاً أن “القلق الحقيقي هو أن هذه السياسة ستؤدي إلى عزلة فكرية متزايدة للولايات المتحدة عن العالم”.
موجة تضامن واسعة
على مواقع التواصل الاجتماعي، أطلق ناشطون وصحفيون حملة تضامن مع سامي حمدي تحت وسم "الحرية لسامي حمدي"، وطالبوا الإدارة الأمريكية بالتراجع عن قرار الترحيل.
وكتب أحد الأكاديميين الأمريكيين أن “الولايات المتحدة التي كانت ملاذاً لحرية الفكر أصبحت اليوم مكاناً يعاقب فيه الناس على آرائهم السياسية”.
وفي المقابل، دافع أنصار الرئيس ترامب عن القرار، معتبرين أن “حرية التعبير لا تعني السماح للأجانب بنشر خطاب معادٍ للولايات المتحدة على أراضيها”.
أزمة حرية التعبير تتعمق
تكشف قضية سامي حمدي عن أزمة أعمق تتجاوز شخصه، إذ تطرح تساؤلات جوهرية حول حدود حرية التعبير في زمن الاستقطاب السياسي والإعلامي الحاد، فبينما تؤكد واشنطن أنها تدافع عن مبادئ الديمقراطية، يرى كثيرون أن ممارساتها الأخيرة تُظهر ميلاً لتقييد الخطاب النقدي عندما يتعلق الأمر بحلفائها أو بمصالحها في الخارج.
ويحذر خبراء في الإعلام والسياسة من أن استمرار مثل هذه السياسات قد يُفقد الولايات المتحدة مكانتها الرمزية بوصفها حامية لحرية الرأي، ويؤثر في صورتها لدى الرأي العام الدولي، خصوصاً في العالم العربي والإسلامي حيث تُتابع القضية باهتمام كبير.
سواء تم ترحيل سامي حمدي أو أُفرج عنه لاحقاً، فقد أصبحت قضيته علامة فارقة في النقاش الأمريكي حول حرية التعبير وازدواجية المعايير، فهي تكشف كيف يمكن أن يتحول القانون إلى أداة سياسية، وكيف يمكن أن يُستخدم الأمن القومي ذريعة لتكميم المعارضة الفكرية والإعلامية.











