حين يصبح العداء علنياً.. مسلمون هولندا بين الخوف والمقاومة مع صعود اليمين المتطرف

حين يصبح العداء علنياً.. مسلمون هولندا بين الخوف والمقاومة مع صعود اليمين المتطرف
مسلمون يتظاهرون ضد التمييز في هولندا- أرشيف

قبل أسابيع من الانتخابات العامة في هولندا، بات الخوف يتسلل مجددًا إلى نفوس المسلمين الهولنديين، لم يكن ذلك بسبب حادثٍ أمني أو أزمةٍ اقتصادية، بل بسبب منشورٍ على مواقع التواصل الاجتماعي، حيث نشر السياسي اليميني المتطرف غيرت فيلدرز صورةً لامرأتين -شابة شقراء مبتسمة، وأخرى عجوز ترتدي الحجاب بملامح متجهمة- مرفقة بعبارةٍ تشير إلى الانتخابات مع جملة "الخيار لك"، الصورة، التي رأى فيها الآلاف تشبيهًا صريحًا بالدعاية النازية ضد الأقليات، فجّرت عاصفة من الغضب ودفعت الخط الساخن لمكافحة التمييز في البلاد إلى تلقي رقم قياسي بلغ 14 ألف شكوى في أيامٍ قليلة.

هذا المنشور لم يكن مجرد حادثة معزولة بحسب ما أوردته صحيفة "الغارديان" البريطانية، اليوم الاثنين، بل عَرَضٌ من أعراض تحوّلٍ أعمق في الخطاب السياسي والاجتماعي الهولندي، حيث أصبح استهداف المسلمين وطالبي اللجوء أداة انتخابية رائجة، وفيما تتجه البلاد إلى انتخابات 29 أكتوبر، يصف محللون هذه الجولة بأنها اختبارٌ لمستقبل الديمقراطية الهولندية نفسها، ولما إذا كانت البلاد ستظل متمسكة بقيم المساواة وحرية الدين أم ستنحرف نحو الخوف والإقصاء.

تقول أسماء كندير، الناشطة في تجمع الشباب المسلمين: "الأمر لا يتعلق بالمسلمين وحدهم، بل بمفهوم الهوية الهولندية بحد ذاته، هل نحن بلد ينحاز للمساواة وكرامة الإنسان؟ أم أننا نغلق أبوابنا ونخاف من الاختلاف؟".

منذ أن حصل حزب الحرية اليميني المتطرف على المركز الأول في انتخابات عام 2023، تغير المشهد السياسي في هولندا جذريًا، فبعد سنوات من التهميش بسبب مواقفه المتطرفة، أصبح الحزب جزءًا من الائتلاف الحاكم، قبل أن ينهار بعد 11 شهرًا إثر انسحاب فيلدرز، لكن ذلك الانضمام -كما يقول مراقبون- أضفى شرعية سياسية غير مسبوقة على خطابٍ كان في السابق يُعتبر متطرفًا.

العداء العلني تجاه المسلمين

يقول فلوريان درينث، من منظمة مراقبة حقوق المسلمين: "ما كان يُقال في الهامش بات يُقال من المنصات الرسمية، أصبح العداء العلني تجاه المسلمين أمرًا طبيعيًا، وهذا أخطر من الكراهية نفسها، لأنه يجعلها مقبولة".

أظهرت سياسات الائتلاف السابق ملامح هذا التحول بوضوح: اقتراح إرسال طالبي اللجوء المرفوضين إلى أوغندا، البحث في سحب الجنسية عن مرتكبي جرائم تُعتبر "معادية للسامية"، وتخفيض التمويل المخصص للمنظمات الداعمة لدمج اللاجئين، وهي سياسات أثارت قلق المنظمات الحقوقية والأممية.

وفي تقرير صدر عن المفوضية الأوروبية لمناهضة العنصرية في مايو 2025، حذّرت المفوضية من أن "التمييز ضد المسلمين بات يتصاعد في هولندا بشكل يهدد التماسك الاجتماعي ومبادئ سيادة القانون".

الالتزام بالخطاب الديمقراطي

أما مجلس أوروبا لحقوق الإنسان فحذّر في بيانٍ لاحق من أن "الخطاب السياسي الذي يصوّر الأقليات كتهديد للأمن أو الهوية الوطنية يفتح الباب أمام انتهاكات خطيرة للحقوق الأساسية"، داعيًا الأحزاب السياسية إلى الالتزام بمعايير الخطاب الديمقراطي وعدم التحريض ضد المكونات الدينية أو العرقية.

لكن في الشارع الهولندي، تتجسد هذه المخاوف على نحوٍ ملموس، فخلال الأشهر الأخيرة، تصاعدت الاحتجاجات ضد مراكز استقبال اللاجئين في مدن مثل تير أبل وزوول، وأصبحت المظاهرات المناهضة للمهاجرين أكثر حدة، ويقول بارت لوريت، من المجلس الهولندي للاجئين، إن الخطاب اليميني المتطرف "أطلق العنان لمشاعر الخوف والعداء المكبوتة، حتى بات كثير من الناس يرون في المهاجرين كبش فداء لكل الأزمات، من السكن إلى البطالة".

ويضيف: "طالبو اللجوء يمثلون نسبة صغيرة جدًا من المهاجرين، ومع ذلك يُحمّلون مسؤولية كل شيء تقريبًا، هؤلاء يفرون من الحرب والعنف ويبحثون عن الأمان، لا عن امتيازات، إنهم بشر قبل أن يكونوا أرقامًا في الجدل السياسي".

تنعكس هذه الأجواء أيضًا على المسلمين المولودين في هولندا، والذين يشكلون اليوم نحو 5% من السكان، أي أكثر من 900 ألف شخص، معظمهم من أصول مغربية وتركية، وتشير دراسات المركز الهولندي للإحصاء إلى أن جرائم الكراهية ضد المسلمين ارتفعت بنسبة 27% خلال عام 2024، بينما أبلغت الجمعيات الإسلامية عن زيادة في الاعتداءات اللفظية على المحجبات والمساجد.

اليمين المتطرف والخطاب العام

يقول درينث إن "الخطورة الحقيقية لا تكمن فقط في اليمين المتطرف، بل في تسرب أفكاره إلى الخطاب العام، حتى داخل الأحزاب التقليدية التي تسعى لمنافسته على الأصوات"، ويضيف: "عندما يصبح الحديث عن المسلمين كخطرٍ أمني أمرًا مقبولًا في نشرات الأخبار، فهذا يعني أن الديمقراطية الهولندية نفسها في خطر".

في المقابل، تحاول منظمات المجتمع المدني والقيادات المسلمة تحويل هذا الخوف إلى طاقة فعل، فمع تزايد العداء العلني، ارتفع أيضًا عدد الشباب المسلمين المنخرطين في النشاط السياسي والاجتماعي، تقول أسماء كندير: "الصمت لم يعد خيارًا، كثير من الشبان اليوم يدرسون القانون والعلوم السياسية، يشاركون في المجالس المحلية، ينظمون حملات توعية. نحن لا نريد العزلة، بل نريد أن نكون جزءًا من مستقبل هذا البلد".

هذا الانخراط المتزايد يعكس تحولًا أعمق في وعي الجيل الجديد من المسلمين الهولنديين الذين يرون المواطنة والهوية الدينية مكملتين لا متعارضتين، وهو تحول تعترف به حتى بعض المؤسسات الحكومية؛ فقد أشار تقرير صادر عن مركز السياسات الاجتماعية الهولندي إلى أن "جيل المسلمين الشباب أكثر انفتاحًا وارتباطًا بالقيم المدنية من أي وقت مضى، لكنه في الوقت ذاته أكثر وعيًا بالتمييز الذي يواجهه يوميًا".

منظمات دولية بدورها دعت هولندا -التي تُعد من أقدم الديمقراطيات الأوروبية- إلى إعادة النظر في خطابها العام، فالأمم المتحدة أدرجت في تقريرها السنوي حول حرية الدين لعام 2025، هولندا ضمن الدول التي "تشهد تصاعدًا مقلقًا في الخطاب المناهض للمسلمين"، محذرة من أن "تحويل الخوف إلى أداة سياسية يهدد التماسك الاجتماعي ويقوّض القيم الأوروبية نفسها".

مفارقة مؤلمة

بين حملات الكراهية وصعود التطرف السياسي، يجد المسلمون في هولندا أنفسهم أمام مفارقة مؤلمة أنهم في وطنٌ وُلدوا فيه، لكن يُطلب منهم مرارًا إثبات أنهم ينتمون إليه، ومع اقتراب الانتخابات، لا يدور الصراع فقط حول البرامج والسياسات، بل حول هوية هولندا نفسها، بلدٌ كان يومًا رمزًا للتسامح والانفتاح، ويكافح اليوم كي لا يتحول إلى مرآة لقلقه وخوفه من الآخر.

في نهاية المطاف، تبدو المعركة على مستقبل هولندا أكبر من نتائج صناديق الاقتراع. إنها معركة من أجل الروح الديمقراطية للبلاد، ومن أجل أن تظل فكرة المساواة أكثر من شعارٍ في خطاب انتخابي، وكما قالت كندير: “نحن لا نطلب امتيازًا، بل نطالب فقط أن نُعامل كهولنديين حقيقيين، لأننا كذلك بالفعل".



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية