صعود صيني وتعثر أوروبي.. الجنوب العالمي يعيد رسم خريطة المناخ في (كوب 30)
صعود صيني وتعثر أوروبي.. الجنوب العالمي يعيد رسم خريطة المناخ في (كوب 30)
تواصل فعاليات مؤتمر الأطراف الثلاثين(كوب 30) في مدينة بيليم البرازيلية وسط انقسام عالمي واضح حول مستقبل المناخ وحقوق الإنسان في مواجهة أزمة بيئية غير مسبوقة.
ووفق ما أوردته صحيفة "نيويورك تايمز"، اليوم الثلاثاء، تغيبت الولايات المتحدة عن المشاركة الرسمية في القمة، في حين واجهت أوروبا صعوبات في تحقيق أهدافها الخضراء، في حين تبنت الدول الناشئة نهجًا جديدًا نحو الطاقة المتجددة، مدفوعة بفيض من التكنولوجيا الخضراء القادمة من الصين.
ودفعت الصين بسياسات صناعية مكثفة جعلتها المنتج الأول عالميًا للألواح الشمسية وتوربينات الرياح والبطاريات، وبدأت تصدّر هذه التقنيات إلى الدول النامية التي تسعى إلى تحقيق أمنها الطاقي وخفض انبعاثاتها في الوقت نفسه.
استثمرت الشركات الصينية، مليارات الدولارات في مصانع الطاقة النظيفة في فيتنام والبرازيل والمغرب، ما خلق شبكة إنتاج عابرة للحدود تُعيد تشكيل توازن القوى في ملف المناخ العالمي.
أكد الدبلوماسي البرازيلي أندريه كوريا دو لاغو، المشرف على محادثات المناخ، أن الدول النامية باتت تُقدّم حلولًا عملية في مواجهة الأزمة، مشيرًا إلى أن مؤتمر الأطراف هذا العام يشهد "ظهورًا جديدًا للدول الناشئة بوصفها صانعة للسياسات لا متلقية لها".
تحوّل في الجنوب العالمي
وسّعت دول الجنوب، مثل البرازيل والهند وفيتنام والمغرب ونيجيريا، استثماراتها في الطاقة الشمسية والرياح والمركبات الكهربائية، حيث أوضحت الصحيفة الأمريكية أن أديس أبابا حظرت استيراد السيارات العاملة بالبنزين العام الماضي، في حين خفّضت نيبال الرسوم الجمركية على السيارات الكهربائية حتى أصبحت أرخص من نظيراتها ذات محركات الاحتراق.
وأجبرت البرازيل الشركات الصينية على بناء مصانع داخل أراضيها لتصنيع السيارات الكهربائية محليًا، في حين شرعت نيجيريا في إنشاء أول مصنع لإنتاج الألواح الشمسية.
وأقامت المغرب مركزًا لتصنيع البطاريات لتزويد شركات السيارات الأوروبية، أما سانتياغو، فقد حوّلت أكثر من نصف أسطول حافلاتها إلى الطاقة الكهربائية.
قدّر "مختبر سياسات صافي الانبعاثات الصفري" بجامعة جونز هوبكنز حجم الاستثمارات الصينية الخارجية منذ عام 2011 بأكثر من 225 مليار دولار، ذهب ثلاثة أرباعها إلى "دول الجنوب العالمي".
ورغم أن هذه التحولات لا تلغي اعتماد كثير من الدول على الوقود الأحفوري، فإنها تشير إلى تحوّل ملموس في اتجاه التنمية المستدامة، حيث ذكر رئيس معهد "الموارد العالمية"، آني داسجوبتا، أن "الاقتصادات الناشئة تحمل مفتاح مستقبل المناخ، لأنها تضم أكبر عدد من الفقراء، وأي فشل في انتقالها للطاقة النظيفة سيحكم على الكوكب بمزيد من الاختلال".
غياب الولايات المتحدة
في المقابل، كشفت "واشنطن بوست" أن الولايات المتحدة اختارت عدم إرسال وفد رفيع المستوى إلى قمة بيليم، في خطوة تمثل انسحابًا فعليًا من القيادة المناخية العالمية، وأشارت الصحيفة إلى أن إدارة الرئيس ترامب تستخدم "الضغط والتهديد الاقتصادي" لإفشال الاتفاقيات البيئية الدولية، ومنها اتفاقية خفض التلوث البحري ومعاهدة البلاستيك.
وأكدت المتحدثة باسم البيت الأبيض، تايلور روجرز، أن الرئيس ترامب "لن يعرّض الاقتصاد الأمريكي للخطر لتحقيق أهداف مناخية غامضة"، لكن الخبراء، ومنهم نيكلاس هون، المؤسس المشارك لمعهد المناخ الجديد في ألمانيا، حذّروا من أن هذا الموقف "يُقوّض النظام الدولي القائم على التعاون".
ومن جانبه، عبّر الرئيس الكولومبي غوستافو بيترو عن رفضه لسياسات واشنطن، وقال إن "السيد ترامب يقود مجتمعه والبشرية إلى الهاوية بعيون مغلقة"، وأكد أن بلاده ستسعى إلى عقد اتفاقات مباشرة مع الولايات الأمريكية الكبرى لتجاوز العرقلة الفيدرالية.
ورأى مانيش بابنا، رئيس مجلس الدفاع عن الموارد الطبيعية، أن الولايات المتحدة قد "تبطئ التحول إلى الطاقة النظيفة، لكنها لن توقفه بأي شكل من الأشكال"، في حين أشار رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر إلى أن "الإجماع العالمي الذي وُلد في باريس عام 2015 بدأ يتفكك اليوم تحت ضغط المصالح السياسية".
وواصلت "واشنطن بوست" توثيق تصعيد إدارة ترامب ضد الاتفاقيات المناخية، ففي اجتماع المنظمة البحرية الدولية بلندن الشهر الماضي، نجحت واشنطن في تعطيل اتفاق تاريخي كان سيُلزم السفن بتقليص انبعاثاتها أو دفع رسوم تعويضية، وذكرت الصحيفة أن الولايات المتحدة هدّدت الدول المؤيدة للاتفاق بعقوبات وتأشيرات وموانع تجارية، ما أدى إلى تأجيل المفاوضات عامًا كاملًا.
نقطة تحول مناخية
وأكد وزير الطاقة الأمريكي، كريس رايت، أن ما حدث يمثل "نقطة تحول في الهراء المناخي"، معلنًا أن واشنطن مصممة على هيمنة أمريكا في قطاع الطاقة، ووصف السيناتور الديمقراطي شيلدون وايتهاوس النهج الأمريكي بأنه "عدواني وصادم، وأسير لأكثر التيارات تطرفًا داخل البيت الأبيض".
وامتنعت الولايات المتحدة عن المشاركة في قمم بيئية أخرى، منها مؤتمر حماية المحيطات ومؤتمر تمويل التنمية المستدامة، وفي الوقت ذاته، وقّعت اتفاقات لزيادة تجارة الوقود الأحفوري مع الهند والاتحاد الأوروبي، حيث وافق الأخير على شراء ما قيمته 750 مليار دولار من الوقود والمنتجات النووية الأمريكية حتى عام 2028.
واعتبرت مستشارة المناخ السابقة للأمم المتحدة، ليندا كالشر، أن "أوروبا تواجه خطر الظهور بمظهر التابع للولايات المتحدة"، في حين وصفت نيكي رايش من مركز "القانون البيئي الدولي" الموقف الأمريكي بأنه "تنازل عن القيادة العالمية".
البعد الأخلاقي للأزمة
ومن جانبها، ركّزت صحيفة "الغارديان" على البعد الأخلاقي للأزمة، ونقلت عن الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، وصفه لفشل العالم في خفض الاحترار إلى 1.5 درجة مئوية بأنه "فشل أخلاقي وإهمال مميت"، وأوضحت الصحيفة أن المؤتمر يأتي في لحظة حرجة، مع استمرار تصاعد درجات الحرارة العالمية وتزايد الكوارث المناخية وارتفاع كلفتها إلى مستويات غير مسبوقة في الولايات المتحدة وحدها خلال النصف الأول من 2025.
وأشارت رئيسة قسم البيئة في "الغارديان"، ناتالي هانمان، إلى أن "العالم يمتلك كل ما يحتاجه من تكنولوجيا وأموال، لكن المشكلة تكمن في السياسة والسلطة"، وأضافت أن قمة بيليم تمثل "الوقت الوحيد الذي يجتمع فيه العالم بأسره لمساءلة بعضه البعض حول التزاماته البيئية".
وأكدت هانمان أن الأعوام 2023 و2024 و2025 كانت "الأكثر حرارة في 176 عامًا من التسجيلات"، وأن هدف باريس بات "شبه مستحيل"، في حين يواجه نشطاء المناخ أحكامًا بالسجن، وتتراجع خطط الدول عن الحد الأدنى المطلوب لتفادي الكارثة.
وسلّطت "الغارديان" الضوء على المفارقة بين توافر الحلول التقنية وغياب الإرادة السياسية، مؤكدة أن "أزمة المناخ ليست مشكلة علمية بقدر ما هي اختبار إنساني لعدالة النظام الدولي"، وأشارت إلى أن سياسات العمل المناخي تواجه تهديدًا مباشرًا من عودة النزعات القومية والضغوط الاقتصادية، في حين تسعى الصين إلى تثبيت حضورها بوصفها قوة استقرار من خلال تصدير التكنولوجيا الخضراء ودعم التصنيع النظيف في الجنوب العالمي.
أما الولايات المتحدة، بحسب ما وثقته "واشنطن بوست"، فتواصل الضغط لتقويض التشريعات الأوروبية المتعلقة بالبيئة وحقوق الإنسان في سلاسل التوريد، بدعوى أنها تُعطل التجارة والاستثمارات، ومع ذلك، فإن غيابها عن كوب 30 لا يعني غياب التأثير، إذ تُمارس نفوذها عبر أدوات الاقتصاد والطاقة.
بناء نموذج جديد
في المقابل، تُعيد الدول النامية -كما لاحظت نيويورك تايمز- تعريف معادلة العدالة المناخية عبر بناء نموذج جديد يربط الحق في التنمية بالحق في بيئة نظيفة، وتبرهن تجاربها أن الانتقال إلى الطاقة النظيفة لم يعد رفاهية تقنية بل مسألة كرامة وسيادة.
في النهاية، يفتح مؤتمر بيليم نافذة جديدة أمام العالم لإعادة النظر في مفهوم العدالة البيئية، إذ تُظهر خريطة كوب 30 أن موازين القوة تغيرت: الصين تقود التحول الصناعي، وأوروبا تتعثر، والولايات المتحدة تنسحب، في حين تصعد دول الجنوب بوصفها صوتاً يطالب بحقه في الحياة على كوكبٍ عادل ومستدام.
وتُذكّر كلمات غوتيريش بأن الفشل في حماية المناخ هو "فشل أخلاقي"، وأن اختبار الإنسانية الحقيقي لا يكمن في وفرة التقنيات، بل في إرادة استخدامها لإنقاذ الأكثر ضعفًا.











