المرصد السوري يدق ناقوس الخطر.. العنف الطائفي يهدد الاستقرار الهش بعد 14 عاماً من النزاع
593 ضحية منذ مطلع 2025
حذر المرصد السوري لحقوق الإنسان من تصاعد غير مسبوق في أعمال التصفية ذات الخلفيات الطائفية في مناطق عدة من البلاد منذ مطلع العام الجاري 2025، مشيرًا إلى أن هذا التصعيد يهدد بصورة جدية ما تبقّى من السلم الأهلي والوئام الاجتماعي في سوريا التي أنهكتها سنوات الحرب الطويلة.
ووفقًا لتقرير المرصد الصادر اليوم الخميس، فقد تم توثيق 593 ضحية قُتلوا على خلفيات طائفية بحتة منذ بداية العام، في حوادث تنوعت بين الإعدامات الميدانية، وعمليات إطلاق النار المباشر من قبل مسلحين مجهولين، وحوادث الخطف والقتل الانتقامي في مناطق متفرقة من البلاد، ويصف المرصد هذا التصاعد بأنه “مؤشر مقلق على عودة الاصطفاف المذهبي بين مكونات المجتمع السوري”.
بؤر العنف وخريطة الضحايا
تُظهر بيانات المرصد أن محافظة حمص جاءت في المرتبة الأولى من حيث عدد الضحايا، إذ سجلت 240 حالة قتل على خلفية طائفية، تلتها حماة بـ149 ضحية، ثم اللاذقية بـ81 ضحية، وطرطوس بـ58، في حين شهدت دمشق وريفها نحو 51 حالة، في حين سجلت حلب وإدلب والسويداء ودرعا أعدادًا أقل لكنها تبقى مؤشراً على انتشار الظاهرة في نطاق جغرافي واسع.
ويشير المرصد إلى أن معظم هذه الحوادث وقعت في مناطق ذات تركيبة طائفية مختلطة، تضم المسلمين السنة والعلويين والمسيحيين والمرشديين والدروز، ما جعلها بيئة حساسة لأي احتكاك أو تحريض متبادل، خصوصًا في ظل هشاشة الأجهزة الأمنية وضعف آليات المساءلة القانونية.
ملامح التصعيد وأسبابه
منذ مطلع العام، لوحظ اتساع رقعة أعمال الانتقام الفردي والجماعي التي تحمل دوافع طائفية، بعد سنوات من الانحسار النسبي في مثل هذه الحوادث، ويربط مراقبون حقوقيون هذا التصاعد بعوامل عدة، أبرزها تدهور الأوضاع الاقتصادية والمعيشية، وتفكك مؤسسات الدولة في بعض المناطق الريفية، إضافة إلى عودة خطاب التحريض المذهبي في بعض وسائل التواصل الاجتماعي والمنتديات المحلية، ما يعمّق الاستقطاب بين المكونات السورية.
كما تلعب الفوضى الأمنية دورًا أساسيًا في تفاقم الظاهرة، حيث تتعدد الجهات المسلحة غير النظامية، وتنتشر الميليشيات المحلية في مناطق النفوذ المتشابكة، ما يجعل عمليات القتل الانتقامي تمر غالبًا دون تحقيق أو محاسبة.
تحذيرات حقوقية ومطالب بالمحاسبة
المرصد السوري حذر في تقريره من أن استمرار هذا النهج من العنف الطائفي قد يقود إلى تفكك إضافي للنسيج الاجتماعي السوري ويؤسس لجولات جديدة من الصراع الداخلي، ودعا الجهات الرسمية ومنظمات المجتمع المدني إلى تكثيف الجهود لحماية المدنيين وملاحقة مرتكبي هذه الجرائم.
وفي بيان منفصل، أعربت منظمة العفو الدولية عن قلق بالغ إزاء التقارير الواردة حول ازدياد حوادث القتل الطائفي في سوريا، معتبرة أن تلك الجرائم قد ترقى إلى مستوى الجرائم ضد الإنسانية إذا ثبت أنها تُنفذ على أساس منهجي وواسع النطاق، وطالبت المنظمة بتمكين آليات التحقيق الدولية من العمل بحرية على الأراضي السورية، لضمان توثيق الأدلة ومحاسبة المسؤولين.
من جانبها، شددت المفوضية السامية لحقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة على ضرورة اتخاذ إجراءات عاجلة لحماية الأقليات الدينية والطائفية، داعية السلطات إلى وقف دوامة الانتقام ومعالجة جذور الكراهية عبر العدالة الانتقالية والمصالحة المجتمعية.
إرث من الانقسام
تأتي هذه التطورات في سياق تاريخي معقد، إذ سبق أن شهدت البلاد خلال العقد الأول من النزاع (2011–2021) موجات من العنف ذي الطابع الطائفي، خاصة في حمص وريف دمشق وحلب، ما أدى حينها إلى تهجير مئات آلاف السكان من أحياء كانت تعرف بتنوعها الديني، ورغم انخفاض حدة الصراع المسلح في السنوات الأخيرة، فإن التوترات المذهبية لم تُعالج جذريًا، بل ظلت كامنة تحت سطح الخطاب العام، إلى أن عادت للظهور بشكل أكثر حدة خلال العام الجاري.
ويرى باحثون في الشأن السوري أن عودة هذا النمط من العنف تمثل فشلًا في مسارات المصالحة المحلية التي أُطلقت منذ عام 2017 برعاية أطراف دولية، إذ لم تترافق مع برامج جادة للعدالة الاجتماعية أو المساءلة عن جرائم الحرب السابقة، ما أبقى جذور الكراهية والانتقام حاضرة في الذاكرة الجمعية.
تداعيات إنسانية واجتماعية
يتحدث سكان من محافظات حمص وحماة عن تزايد حالات الخوف والقلق داخل المجتمعات المحلية، حيث باتت الحواجز الاجتماعية والطائفية أكثر صلابة من ذي قبل، وتؤكد منظمات مدنية سورية عاملة في الداخل أن كثيرًا من العائلات بدأت بالانتقال من المناطق المختلطة إلى أخرى أكثر تجانسًا طائفيًا، في مشهد يعيد إلى الأذهان موجات الهجرة الداخلية القسرية التي عرفتها البلاد خلال سنوات الحرب.
وفي تقرير نشرته مؤخرًا منظمة "سوريون من أجل الحقيقة والعدالة"، تم توثيق عشرات الشهادات لضحايا نجوا من محاولات اغتيال أو خطف بسبب الانتماء الطائفي، وأشار التقرير إلى أن العنف الطائفي لا يقتصر على القتل فحسب، بل يشمل الإقصاء الاجتماعي والتمييز في فرص العمل والتعليم.
من جانبها، حذّرت اللجنة الدولية للصليب الأحمر من أن استمرار عمليات القتل الانتقامي سيقوّض جهود الإغاثة الإنسانية، خاصة في المناطق التي تتقاطع فيها خطوط السيطرة الأمنية، ما يعوق إيصال المساعدات ويهدد حياة آلاف المدنيين.
القانون الدولي والمسؤولية
يُعدّ القتل على أساس الانتماء الديني أو الطائفي انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي الإنساني والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية اللذَين يجرّمان أي شكل من أشكال التمييز أو الاستهداف على أساس الهوية، ووفق خبراء قانونيين، فإن تلك الجرائم تدخل ضمن اختصاص المحكمة الجنائية الدولية في حال ثبوت الطابع المنهجي لها.
وطالبت منظمات حقوقية سورية في المهجر الأمم المتحدة بإنشاء آلية تحقيق مستقلة بشأن جرائم التصفية الطائفية، على غرار "الآلية الدولية المحايدة والمستقلة بشأن سوريا" التي أُنشئت عام 2016 لتجميع الأدلة حول جرائم الحرب.
تهديد السلم الأهلي
يرى مراقبون أن تزايد وتيرة العنف الطائفي يمثل تهديدًا مباشرًا لعملية إعادة الإعمار الاجتماعي في سوريا التي لا تقل أهمية عن الإعمار المادي، فبعد أكثر من 14 عامًا من النزاع، لا تزال الجروح الطائفية مفتوحة، ويبدو أن غياب المساءلة والعدالة الانتقالية يفتح الباب أمام جولة جديدة من الانتقام والعنف المضاد.
ويحذر خبراء من أن إعادة إنتاج الهويات المتصارعة على أسس مذهبية قد تعوق أي تسوية سياسية شاملة، ما لم تُعالج جذور الكراهية بخطاب وطني جامع وإجراءات قانونية حاسمة ضد مرتكبي الجرائم.
التحذيرات التي أطلقها المرصد السوري تأتي بمنزلة جرس إنذار جديد حول مستقبل التعايش في البلاد، فالأرقام الموثقة -593 ضحية منذ مطلع العام- ليست مجرد إحصاءات، بل تعكس وجعًا إنسانيًا متجددًا يتهدد مبدأ العيش المشترك الذي ميّز المجتمع السوري لعقود.











