عمال الضفة بين الإغلاق والبطالة.. رزقٌ معلّق على المعابر وخسائر تُربِك الاقتصاد الفلسطيني

عمال الضفة بين الإغلاق والبطالة.. رزقٌ معلّق على المعابر وخسائر تُربِك الاقتصاد الفلسطيني
عمالة فلسطينية بالضفة

منذ أن أغلقت السلطات الإسرائيلية أبواب الداخل المحتل في وجه العمال الفلسطينيين، تغيّر المشهد الاقتصادي والاجتماعي في الضفة الغربية على نحوٍ غير مسبوق. عشرات الآلاف من العمال الذين كانوا يعبرون الفجر إلى أماكن عملهم داخل الخط الأخضر وجدوا أنفسهم فجأة بلا عمل ولا دخل، في حين امتلأت البيوت بالقلق، وامتلأت الأسواق بالصمت والركود، وتوقف تدفق ملايين الشواكل التي كانت تتدفق يوميًا من أجور العمال أصاب الحركة التجارية بضربة عميقة، وأدى إلى تقلص القدرة الشرائية وانكماش الأسواق، وارتفاع نسب الفقر والديون في مجتمع يعتمد على العامل في الداخل بوصفه أحد أعمدة الاستقرار الاقتصادي.

وجوه من الأزمة

في مدينة طولكرم، يختصر أحمد عودة (45 عامًا) مأساة آلاف العمال بقوله إن عشرين عامًا من العمل في البناء داخل الخط الأخضر انتهت فجأة. كان يعود كل أسبوع بمال يكفي أسرته المكونة من سبعة أفراد، لكنه اليوم لا يجد يومًا واحدًا من العمل. تتراكم الديون ويقف عاجزًا أمام احتياجاتٍ باتت بسيطة، لكنها لم تعد في متناول يده، وفق شبكة قدس برس.

وفي نابلس، يظهر الإحباط واضحًا في صوت سامي صوالحة (39 عامًا)، العامل السابق في ورش النجارة داخل الداخل المحتل، يقول إنه كان يعيش من عرق جبينه، ولا يمد يده لأحد، لكنه اليوم يقف في طوابير الجمعيات الخيرية بالضفة الغربية للحصول على طحين أو حليب لأطفاله، يصف التحول بأنه الأقسى في حياته، "حين تشعر أنك أصبحت عبئًا على غيرك".

أما محمود جرادات من جنين، وهو أب لخمسة أبناء، فيروي كيف أدى الإغلاق إلى قطع رزقه وأمله معًا، فالبحث عن عمل داخل الضفة بات شبه مستحيل في بيئة مشبعة بالبطالة، والأجور المتاحة لا تكاد تكفي ثمن المواصلات، يقول: "الإغلاق لم يقطع رزقي فقط، بل قطع أملي".

ويضيف الشاب فؤاد نصاصرة أن غالبية العمال بنوا نمط حياتهم على راتبٍ ثابت ودخل مرتفع نسبيًا مقارنة بدخل الضفة، فارتبط كثيرون بالتزامات مالية -قروض، شيكات، بناء، شراء سيارات- لتنهار تلك الالتزامات دفعة واحدة بعد الإغلاق، وتتحول إلى عبء ثقيل يهدد استقرار أسر بأكملها.

التجار أيضًا يدفعون الثمن

لا يتوقف الضرر عند العمال وحدهم؛ فالتجار وأصحاب المصالح التجارية يتلقون نصيبًا كبيرًا من الضربة، في سوق نابلس، يقول التاجر محمد الأغبر، صاحب محل المفروشات، إن الأسواق "مفجوعة" بفقدان زبائنها الأساسيين، وكان عمال الداخل يشكلون شريان الحركة التجارية، والآن ومع توقف عملهم تراجعت القوة الشرائية إلى مستوى غير مسبوق، ويضيف أن كثيرًا من المحال غرقت في الديون وأغلقت أبوابها، وبعضها سرّح موظفين أو قلّص الإنتاج، ما ضاعف من الأزمة الاقتصادية المتراكمة أصلًا منذ سنوات.

اقتصادٌ يترنّح

الخبير الاقتصادي طارق الحاج يؤكد أن توقف العمال عن العمل داخل الخط الأخضر خلّف فجوة مالية ضخمة، كانت ملايين الشواكل تُضخ يوميًا في أسواق الضفة عبر أجور العمال، ومع توقفها انخفضت السيولة بشكل حاد، وعمّ الشلل قطاعاتٍ واسعة، تجار الجملة يشتكون من تراجع المبيعات، والمحال الصغيرة تقلّص ساعات العمل، وبعضها أغلق مؤقتًا بسبب ضعف الإقبال وتراكم الديون.

ويحذر الحاج من أن الانهيار لا يتوقف عند الانكماش الاقتصادي في الضفة، بل يتعداه إلى التدهور الاجتماعي، فالأسر العاملة باتت أكثر هشاشة، وتزايد الاعتماد على الاقتراض والمساعدات، وتراجع الإنفاق على التعليم والصحة، وظهرت أنماط جديدة من الفقر القائم على المساعدات الغذائية.

ويشير إلى أن آلاف العمال باتوا غارقين في الديون والالتزامات، وبعضهم مهدد بالحبس بسبب شيكات وقروض لم يعودوا قادرين على سدادها، وهي التزامات أخذوها في سنوات العمل المستقر قبل أن يُغلق الباب بالكامل عقب أحداث السابع من أكتوبر.

نصف مليون عاطل عن العمل

بحسب إحصائيات الاتحاد العام للعمال الفلسطينيين، ارتفع معدل البطالة إلى مستويات خطيرة، حيث بلغ عدد العاطلين عن العمل 507 آلاف شخص، وتشير البيانات إلى أن آلاف العمال اضطروا لبيع ممتلكاتهم الشخصية لتأمين الحد الأدنى من الدعم لأسرهم، في ظل غياب الحماية الاجتماعية.

الاتحاد يلفت إلى أن نحو 89% من العمال الفلسطينيين يفتقرون لأي شكل من أشكال الحماية الاجتماعية، سواء تأمين صحي أو ضمان اجتماعي أو صناديق تقاعد، ما يجعلهم الفئة الأكثر هشاشة في المجتمع الفلسطيني، وتُقدّر خسائر العمال الشهرية منذ الإغلاق بـ 1.35 مليار شيكل (نحو 42 مليون دولار)، وهو رقم يكشف تأثير الإغلاق في الاقتصاد الكلي، وليس على العمال وحدهم.

فجوة حماية وغياب ضمانات

من منظور حقوقي، يعكس هذا المشهد هشاشة البنية الاجتماعية الاقتصادية التي يقوم عليها سوق العمل الفلسطيني، فالاعتماد على العمل داخل الخط الأخضر دون توفير حماية اجتماعية دائمة يخلق بيئة يمكن أن تتحول فيها الأزمات السياسية إلى كوارث إنسانية، توقف العمال عن العمل لا يعني توقف مصدر دخل فقط، بل انهيار نظام معيشة بأكمله؛ تعليم الأطفال، خدمات الصحة، القدرة على السداد، الاستقرار الأسري، وحتى الأمن الغذائي.

وتشير منظمات حقوقية إلى أن غياب الحماية الاجتماعية للعمال، وعدم توفر بدائل حكومية فعّالة، يجعل العمال وعائلاتهم عرضة لانتهاكات اقتصادية واجتماعية واسعة، أهمها الفقر القسري وتهديد السكن وعدم القدرة على الوصول إلى خدمات أساسية، كما يدفع الإغلاق العمال إلى مسارات خطرة للبحث عن عمل بديل، أو إلى الوقوع في دوامة ديون تتضخم بسرعة وتؤدي إلى أحكام قضائية وحبس في العديد من الحالات.

أزمة تتجاوز الأفراد 

تُظهر أزمة عمال الضفة الغربية أن الإغلاق ليس قرارًا عابرًا، بل فعلٌ يصيب الاقتصاد الفلسطيني في عمقه ويعيد هيكلة الحياة اليومية لمئات آلاف الأسر، فالعامل الذي كان يعود كل مساء بما يسد رمق أسرته، بات اليوم يواجه عجزًا كاملًا في تلبية أبسط الاحتياجات، والتاجر الذي كان يفتح محله على أمل يومٍ جيد أصبح يكتفي بالمراقبة من بعيد في حين تنهار السوق أمامه.

إن استمرار الإغلاق يهدد بمزيد من الانهيارات الاقتصادية والاجتماعية، ويكشف الحاجة الماسة إلى سياسات حماية وطنية، وبرامج دعم عاجلة، وإجراءات اقتصادية تعيد الحياة إلى أسواق الضفة، وتوفير شبكة أمان تحول دون سقوط آلاف الأسر في هاوية الفقر طويل الأمد.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية