أزمة معيشية تدفع ملايين البريطانيين إلى أبواب بنوك الطعام هذا الشتاء
أزمة معيشية تدفع ملايين البريطانيين إلى أبواب بنوك الطعام هذا الشتاء
مع اقتراب فصل الشتاء، تتجه الأنظار في المملكة المتحدة نحو واقع اجتماعي مقلق يتكشف تباعا خلف واجهات الرفاه المفترضة، فقد حذرت مؤسسة تروسل تراست، أكبر شبكة لبنوك الطعام في البلاد، من موسم شتاء سيشهد طلبا غير مسبوق على المساعدات الغذائية، في ظل استمرار ارتفاع تكاليف المعيشة وتزايد الضغوط على الأسر محدودة الدخل، ووفق تقديرات المؤسسة فإن طردا غذائيا سيُوزع كل عشر ثوان خلال موسم الأعياد، وهو مؤشر على عمق الأزمة وتوسع دائرة المحتاجين بصورة لافتة.
وتكشف بيانات المؤسسة –وفقا لما أوردته صحيفة الإندبندنت الأربعاء- أن الشتاء الماضي وحده شهد توزيع 740 ألف طرد غذائي للأسر المحتاجة، وهو رقم يزيد 40 في المئة على ما كان عليه الوضع قبل جائحة كورونا، ويشكل الأطفال نحو ثلث المستفيدين، إذ تلقى 266 ألف طفل طرودا غذائية، بارتفاع بلغ 29 في المئة مقارنة بالسنوات التي سبقت الجائحة، لكن الزيادة الأكبر جاءت من الفئة العمرية فوق الخامسة والستين، حيث حصل 24 ألف شخص من كبار السن على طرود غذائية، وهي زيادة مذهلة وصلت إلى 202 في المئة خلال خمسة أعوام فقط.
هذه الأرقام لا تشير فقط إلى اتساع نطاق الفقر في بريطانيا، بل تكشف عمق الضغط الذي تواجهه بنوك الطعام، التي تؤكد أن هذا الشتاء سيكون الأصعب منذ عقود مع تجاوز الاحتياجات الفعلية لما يتم جمعه من تبرعات، وتشير المؤسسة إلى أن 54 في المئة من بنوك الطعام التابعة لها تؤكد أنها غير قادرة على توفير ما يكفي من المواد الغذائية لتلبية الطلب، وأنها أنفقت ما يقارب ثلاثة ملايين ونصف المليون جنيه خلال شتاء العامين الماضيين لشراء الغذاء بسبب انخفاض التبرعات وارتفاع التكلفة.
تكاليف المعيشة تضيق الخناق
ترتفع أسعار الغذاء والطاقة والإيجارات بوتيرة تفرض على ملايين الأسر واقعا أكثر قسوة، وتشير تقديرات المؤسسة إلى أن 14 مليون بالغ في المملكة المتحدة يعانون من فترات انعدام الطعام، إما لانخفاض القدرة الشرائية أو لاستنزاف الدخل في تغطية الضروريات الأساسية، ويضاف إلى ذلك أن ديون الطاقة تضاعفت خلال خمس سنوات لتصل إلى أربعة مليارات وأربعمئة مليون جنيه بنهاية شهر يونيو، وهو رقم يعكس حجم العجز الذي يواجهه كثير من السكان.
ولا تقتصر الأزمة على الأرقام المجردة، بل تظهر بوضوح في القصص اليومية التي تعكس هشاشة حياة الكثيرين؛ أليشيا ميهافي، وهي أم عزباء من أيرلندا الشمالية تعمل مساعدة رعاية، تقول إن دخلها المدعوم من يونيفرسال كريدت لا يغطي نفقاتها الأساسية، وإن تأمين وجبة مناسبة في عيد الميلاد بات حلما بعيدا، وتضيف أن لجوءها إلى بنك الطعام أثناء حملها كان بمثابة طوق نجاة، وأنها اليوم تشعر بالخوف مما قد يحمله هذا الشتاء من ضغوط إضافية.
تصف النائبة العمالية ديبي أبراهامز الأرقام الصادرة عن تروسل تراست بأنها شهادة مؤلمة على أن الفقر أصبح واقعا يوميا لملايين الأسر، وتدعو إلى معالجة جذور عدم المساواة بشكل جدي، مشيرة إلى أن القرارات الحكومية الأخيرة مثل إلغاء الحد الخاص بالطفلين خطوة إيجابية لكنها غير كافية إذا لم تُتبع بإصلاحات أوسع تضمن عدالة اجتماعية حقيقية.
أما الإعلامية كارول فوردَرمان فتُقدم شهادة شخصية تتجاوز التعليق السياسي، إذ تتحدث عن تجربتها مع الفقر في طفولتها وكيف بقي أثره ملازما لها، وتقول إن العديد من الأسر ذات الدخل المنخفض ستقضي موسم الأعياد وهي قلقة من نقص الغذاء، وأن كثيرا من الآباء سيضطرون لتخطي وجباتهم ليتمكن أطفالهم من تناول ما يكفي.
تجاوز مفهوم المساعدة
تؤكد صوفي كارّيه، مديرة المشاركة في مؤسسة تروسل تراست، أن آلاف الأسر ستلجأ للمرة الأولى إلى بنوك الطعام هذا الشتاء، وأن الأزمة لا تتعلق فقط بتقديم الغذاء، بل بتوفير الشعور بالأمان والكرامة في مواجهة ظروف معيشية صعبة، وتقول إن بنوك الطعام أصبحت نقطة وصول أساسية للكثيرين الذين يجدون أنفسهم فجأة في مواجهة أزمات مالية خانقة، مؤكدة أن دورها لم يعد يقتصر على توفير الضروريات، بل تجاوز ذلك ليصبح شبكة دعم اجتماعي معنوي يساعد الأسر على تخطي أصعب اللحظات.
وفي مواجهة الانتقادات المتصاعدة، يقول متحدث باسم الحكومة البريطانية إن الاعتماد على بنوك الطعام يمثل مشكلة تستدعي المعالجة، لكنه يشير في الوقت نفسه إلى أن استخدام بنوك الطعام انخفض العام الماضي، ويؤكد أن الحكومة رفعت الحد الأدنى للأجور بما يمنح العاملين بدوام كامل زيادة قدرها ألف وخمسمئة جنيه سنويا، إضافة إلى خصم مئة وخمسين جنيها من فواتير الطاقة بدءا من أبريل الماضي.
ويرى المتحدث أن الحكومة تسعى من خلال إلغاء الحد الخاص بالطفلين وحزمة الدعم الجديدة إلى إخراج 550 ألف طفل من دائرة الفقر بحلول نهاية الدورة البرلمانية الحالية، مؤكدا أن هذه الخطوات تشكل جزءا من خطة شاملة لمعالجة التفاوت في الدخل وتحسين أوضاع الأسر محدودة الموارد.
أُسرٌ تنتظر الشتاء بقلق
ورغم ما تعلنه الحكومة البريطانية من إجراءات تخفيفية، يبقى شعور القلق مسيطرا على آلاف الأسر التي تجد نفسها أمام خيارات محدودة، فارتفاع الأسعار وتآكل الدخل جعلا الكثير من العائلات غير قادرة على تحمل تكاليف الغذاء والطاقة معا، الأمر الذي يدفعها في كثير من الأحيان إلى تقليص الوجبات أو تأجيل دفع الفواتير أو الاعتماد على المساعدات الطارئة، وبينما يستعد البريطانيون لدخول موسم الأعياد، تتزايد المخاوف من أن يتحول هذا الموسم الذي يفترض أن يكون احتفاليا إلى فترة صعبة تثقل كاهل الطبقات المتوسطة والفقيرة على حد سواء.
شهدت المملكة المتحدة خلال السنوات الأخيرة موجة غير مسبوقة من الضغوط الاقتصادية، ساهمت فيها عدة عوامل متداخلة أبرزها التضخم المرتفع، وزيادة أسعار الطاقة بعد الأزمات العالمية، وتباطؤ النمو، وارتفاع الإيجارات ونفقات المعيشة، ومع تراجع القدرة الشرائية للأسر وازدياد الفجوة بين الأجور والأسعار، أصبحت بنوك الطعام مؤشرا واضحا على عمق الأزمة الاجتماعية، ورغم مبادرات الدعم الحكومي، فإن مؤسسات المجتمع المدني وآلاف المتطوعين يشكلون اليوم خط الدفاع الأول ضد تفاقم انعدام الأمن الغذائي، بينما يتزايد الجدل حول ضرورة إصلاحات اقتصادية شاملة تعالج جذور الفقر بدلا من الاكتفاء بإدارة أعراضه.










