إضراب الجوع.. نشطاء "فلسطين أكشن" يحتجون داخل سجون بريطانيا
إضراب الجوع.. نشطاء "فلسطين أكشن" يحتجون داخل سجون بريطانيا
تشهد السجون البريطانية تصعيداً غير مسبوق مع دخول عدد من السجناء المرتبطين بحركة "فلسطين أكشن" في إضراب مفتوح عن الطعام، احتجاجاً على ظروف احتجازهم وما يصفونه بحرمانهم من محاكمات عادلة، ومع وصول اثنين من المضربين إلى اليوم الثامن والأربعين دون تناول الطعام، تتزايد المخاوف من تدهور خطِر في أوضاعهم الصحية، وسط تحذيرات من أن الوقت المتبقي لتفادي مأساة إنسانية بات محدوداً.
وتحول إضراب النشطاء الذي بدأ كونه خطوة احتجاجية فردية إلى قضية رأي عام، بعد أن سلطت صحيفة "الغارديان" البريطانية الضوء على معاناة السجناء ومطالبهم، وما يواجهونه داخل أماكن الاحتجاز من إجراءات وقيود يقولون إنها تتجاوز القوانين وتستهدفهم بسبب مواقفهم السياسية الداعمة للقضية الفلسطينية.
صوت من خلف القضبان
في مقال مؤثر نشرته "الغارديان"، كتب السجين المضرب عن الطعام أمو جب شهادة شخصية من داخل الزنزانة، كشف فيها تفاصيل التهم الموجهة إليه وإلى رفاقه، ومبررات الإضراب، وما يعده حملة تضييق ممنهجة داخل السجون البريطانية، وأوضح أن السجناء يواجهون أوامر عدم تواصل وصفها بالكاذبة، إضافة إلى التلاعب بمواعيد الزيارات ومنعهم من المشاركة في أنشطة تعليمية أو ترفيهية، في محاولة لعزلهم نفسياً واجتماعياً.
وأكد "جب" أن هذه الإجراءات لا يمكن فصلها عن موقفهم السياسي، معتبراً أن دعمهم العلني لفلسطين وتحركاتهم الاحتجاجية ضد مصانع السلاح كان السبب الرئيسي في تشديد المعاملة بحقهم.
حدد المضربون عن الطعام مطالب واضحة، تتجاوز أوضاعهم الفردية إلى قضايا أوسع، وفي مقدمة هذه المطالب إغلاق مصانع السلاح التي تزود إسرائيل بالأسلحة، ورفع الحظر المفروض على حركة "فلسطين أكشن"، ووقف ما يصفونه بسوء المعاملة داخل السجون، والإفراج عنهم بكفالة إلى حين محاكمتهم، وضمان محاكمات عادلة وشفافة.
ويرى السجناء أن استمرار توقيفهم فترات طويلة قبل المحاكمة يمثل عقوبة مسبقة، ويقوض مبدأ قرينة البراءة، خاصة في ظل تأخر الإجراءات القضائية وتعقيدها.
صحة على حافة الانهيار
مع استمرار الإضراب، بدأت المؤشرات الصحية المقلقة بالظهور بوضوح. فقد نُقلت قيسرة زهرة، البالغة من العمر 20 عاماً، إلى المستشفى بعد انهيارها داخل السجن، في حين تجاوز بعض المضربين الأربعين يوماً دون طعام، ويعاني أحد السجناء من مرض السكري، ما يضاعف المخاطر الصحية التي يتعرض لها، إذ يكتفي بتناول الطعام مرة واحدة كل يومين فقط.
كما أنهى اثنان من السجناء إضرابهما بعد نقلهما إلى المستشفى، في مؤشر على حجم الخطر الذي يواجهه من يواصلون الامتناع عن الطعام، ويؤكد مراقبون أن استمرار هذا الوضع قد يؤدي إلى مضاعفات دائمة أو وفيات، إذا لم يتم التحرك سريعاً لمعالجة الأزمة.
وفي خطوة لافتة، خصصت "الغارديان" افتتاحية دعت فيها الحكومة البريطانية إلى التراجع عن قرار حظر حركة "فلسطين أكشن"، وتحسين ظروف الاحتجاز، وضمان إجراءات قضائية عادلة للموقوفين، كما طالبت الصحيفة بإعادة النظر في طول فترات التوقيف السابقة للمحاكمة، معتبرة أنها تمثل انتهاكاً لحقوق الإنسان وتفاقم من معاناة السجناء.
ورأت الصحيفة أن تجاهل الحكومة لتدهور صحة المضربين قد يقود إلى نتائج كارثية، ويضع بريطانيا أمام اختبار أخلاقي وقانوني صعب، لا سيما في ظل سجلها المعلن في الدفاع عن حقوق الإنسان وسيادة القانون.
استدعاء ذاكرة أيرلندا الشمالية
استحضرت "الغارديان" تجربة إضرابات الجوع التي خاضها سجناء الجيش الجمهوري الأيرلندي وغيرهم من الجمهوريين في أيرلندا الشمالية عام 1981، للمطالبة باستعادة وضعهم السياسي، وتلك الإضرابات انتهت بوفاة 10 سجناء، بينهم بوبي ساندز الذي انتخب عضواً في البرلمان البريطاني قبل وفاته.
وأشارت الصحيفة إلى أن الحكومة البريطانية آنذاك، بقيادة مارغريت تاتشر، أبدت تشدداً علنياً، لكنها اضطرت لاحقاً إلى تغيير موقفها تدريجياً تحت ضغط الرأي العام وتحول المزاج الشعبي، في درس تاريخي يحذر من تكرار المأساة.
وتواجه الحكومة البريطانية انتقادات متزايدة بسبب ما وُصف بالتأخر في الاستجابة لتطورات الإضراب، ووصف رئيس مجلس العموم ليندسي هويل عدم رد نائب رئيس الوزراء ووزير العدل ديفيد لامي على طلبات النواب للحصول على معلومات حول أوضاع المضربين بأنه غير مقبول على الإطلاق.
في المقابل، أكدت الحكومة أنها تتعامل سنوياً مع نحو 200 حالة إضراب عن الطعام، ولديها خبرة في إدارتها، وهو رد عدّه منتقدون تقليلاً من خطورة الوضع الراهن وتجاهلاً لطبيعته السياسية والإنسانية الخاصة.
ازدواجية المعايير
سلطت "الغارديان" الضوء على ما عدّته تناقضاً صارخاً بين الحماسة الحكومية القمعية في التعامل مع هذه القضية، وبين ما وصفته باللامبالاة تجاه مصير عشرات الآلاف من المدنيين في غزة، ورأت الصحيفة أن هذا التناقض يثير تساؤلات عميقة حول معايير العدالة وحقوق الإنسان التي تتبناها الحكومة البريطانية في الداخل والخارج.
ودعت الافتتاحية إلى مراجعة شاملة لقرار حظر "فلسطين أكشن"، وتحسين ظروف الاحتجاز، وضمان محاكمات عادلة، وتقليص فترات التوقيف قبل المحاكمة، باعتبار ذلك السبيل الوحيد لنزع فتيل الأزمة الحالية.
مع كل يوم يمر، يتراجع هامش الوقت المتاح أمام السلطات البريطانية لتفادي الأسوأ، فالإضراب عن الطعام، وإن كان وسيلة احتجاج سلمية، يتحول مع طول مدته إلى خطر وجودي على حياة المشاركين فيه، ويحذر أطباء وحقوقيون من أن التأخر في الاستجابة قد يؤدي إلى وفيات، وما يرافقها من تداعيات سياسية وقانونية وأخلاقية واسعة.
تأتي هذه الأزمة في سياق أوسع من الجدل الدائر في بريطانيا حول حدود حرية التعبير والعمل الاحتجاجي، لا سيما عندما يتعلق الأمر بالقضية الفلسطينية وصناعة السلاح، فحركة فلسطين أكشن، التي تنشط في استهداف شركات مرتبطة بتصنيع وتصدير الأسلحة، تعرضت للحظر والملاحقة، ما أثار نقاشاً حاداً حول التوازن بين الأمن القومي وحقوق الاحتجاج السلمي.
وفي ظل تزايد الانتقادات لمنظومة العدالة والعقوبات، يرى مراقبون أن إضراب السجناء الحالي يكشف خللاً أعمق في كيفية تعامل الدولة مع المعارضين السياسيين، ويضع بريطانيا أمام لحظة اختبار حقيقية لمدى التزامها بالقيم التي تعلن الدفاع عنها، في وقت ينفد فيه الوقت أمام أجساد أنهكها الجوع وأصوات تطالب بالعدالة من خلف القضبان.











