جرائم الخنق.. تصاعد مقلق في قضايا العنف الأسري ببريطانيا

جرائم الخنق.. تصاعد مقلق في قضايا العنف الأسري ببريطانيا
جثمان أحد ضحايا العنف الأسري- أرشيف

سجلت بريطانيا خلال السنوات الأخيرة تحولا لافتا في التعامل مع أحد أخطر أنماط العنف الأسري، مع ارتفاع غير مسبوق في عدد القضايا المتعلقة بالخنق والاختناق، بعد إدراج هذه الأفعال كجريمة مستقلة بموجب قانون العنف الأسري الصادر سنة 2021، وهذا التحول القانوني، الذي دخل حيز التطبيق الفعلي في يونيو 2022، لم يسلط الضوء فقط على حجم الجريمة وانتشارها، بل كشف أيضا عن أبعادها العميقة كأداة للسيطرة والترهيب، وعن ارتباطها المباشر بأخطر أشكال العنف ضد الضحايا، خصوصا النساء.

وبحسب ما ذكرته صحيفة التليغراف الثلاثاء استنادا إلى بيانات هيئة الادعاء الملكية البريطانية، شهدت الفترة الممتدة من أبريل إلى يونيو 2025 تسجيل 2656 تهمة تتعلق بالخنق والاختناق، وهذا الرقم يمثل قفزة كبيرة مقارنة بالفترة الممتدة من يوليو 2022 إلى مارس 2023، التي سُجلت خلالها 1483 تهمة فقط، أما على مستوى الاثني عشر شهرا بين أبريل 2024 ومارس 2025، فقد بلغ عدد التهم 8545، ما يعكس مسارا تصاعديا واضحا في رصد هذه الجريمة وملاحقتها قضائيا.

هذه الأرقام، تعكس تغيرا جوهريا في تعامل النظام القضائي مع هذا النوع من الانتهاكات، لكنها في الوقت نفسه تطرح تساؤلات مؤلمة حول حجم العنف الأسري الذي كان يجري في الخفاء لسنوات طويلة دون توصيف قانوني يعكس خطورته الحقيقية.

خطر مركزي

قبل إدراج الخنق كجريمة مستقلة، كانت هذه الأفعال تُدرج غالبا ضمن تهم أقل خطورة مثل الاعتداء البسيط، هذا التصنيف القانوني، بحسب خبراء، كان يقلل من جسامة الضرر الواقع على الضحايا، ولا يعكس المخاطر الصحية والنفسية الحقيقية المرتبطة بالخنق، والتي قد تشمل فقدان الوعي، وتلف الدماغ، واضطرابات عصبية، بل والموت.

اليوم، ومع الاعتراف القانوني بخطورة الخنق، بات يُنظر إلى هذه الجريمة باعتبارها مؤشرا مركزيا على تصاعد العنف داخل العلاقات الأسرية، وليس مجرد حادثة عرضية أو انفعال لحظي.

وتوضح كيت براون، كبيرة المدعين العامين والمسؤولة عن قضايا العنف الأسري في هيئة الادعاء الملكية في بريطانيا، أن الخنق يمثل شكلا مرعبا من الإساءة والسيطرة، وتؤكد أن هذا السلوك غالبا ما يكون إنذارا مبكرا لارتفاع مستوى الخطر على الضحايا، مشددة على أنه لا توجد أي طريقة آمنة لخنق شخص.

وترى براون أن أحد أخطر المفاهيم الخاطئة المنتشرة هو الاعتقاد بأن الخنق لا يترك آثارا واضحة وبالتالي يعد أقل خطورة، بينما تشير الأدلة الطبية والقضائية إلى العكس تماما، فالخنق قد لا يترك كدمات ظاهرة، لكنه قد يؤدي إلى أضرار داخلية خطيرة، ويزيد بشكل كبير من احتمالات القتل في العلاقات العنيفة.

العنف الأسري في قلب القضايا

تظهر بيانات هيئة الادعاء الملكية أن 9 من كل 10 قضايا خنق وُجهت في سياق العنف الأسري، هذا الرقم يكشف بوضوح أن الجريمة ليست معزولة، بل متجذرة في علاقات غير متكافئة تقوم على السيطرة القسرية والترهيب النفسي والجسدي.

وتحذِّر الهيئة من أن الخنق يرتبط في كثير من الحالات بأنماط أخرى من الانتهاكات، من بينها الاعتداءات الجنسية، والإساءة النفسية المستمرة، والسيطرة القسرية، وحتى الإساءة عبر الصور، هذا الترابط يجعل من الخنق علامة تحذير مبكرة يجب التعامل معها بأقصى درجات الجدية.

تعزو هيئة الادعاء الملكية جزءا من الارتفاع في عدد القضايا إلى التدريب المكثف الذي تلقاه المدعون العامون منذ إدخال الجريمة في القانون، وهذا التدريب ساعد، بحسب كيت براون، في التعرف المبكر على حالات الخنق، وتكييفها القانوني بشكل صحيح، وضمان عدم التقليل من خطورتها.

وترى الهيئة أن زيادة عدد القضايا لا تعني بالضرورة ارتفاعا مفاجئا في معدلات الجريمة فقط، بل تعكس أيضا تحسنا في آليات الرصد والتبليغ، وثقة أكبر لدى الضحايا بالنظام القضائي، بعد الاعتراف الرسمي بخطورة ما تعرضن له.

عقوبات رادعة ورسائل

ينص القانون البريطاني على أن جريمة الخنق قد تصل عقوبتها إلى السجن لمدة 5 سنوات، وتعتبر السلطات أن هذه العقوبة تحمل رسالة واضحة بأن هذا السلوك غير مقبول على الإطلاق، وأنه لن يُنظر إليه بعد اليوم كفعل ثانوي أو هامشي.

وتؤكد هيئة الادعاء الملكية أن تسجيل إدانات في هذا النوع من القضايا يؤدي إلى سجلات جنائية بحق الجناة، ما يشكل رادعا إضافيا، ويسهم في حماية الضحايا على المدى الطويل.

ومن جهتها، شددت إيلي ريفز، النائبة العامة، على أن الخنق نادرا ما يكون حادثة منفردة، وأوضحت أن الضحايا غالبا ما يعانين من إساءة جسدية ونفسية مستمرة تترك آثارا طويلة الأمد على حياتهن وصحتهن النفسية والجسدية.

وأكدت ريفز أن الحكومة البريطانية ملتزمة بخفض العنف ضد النساء والفتيات، وضمان شعورهن بالأمان داخل منازلهن وخارجها، وترى أن الاعتراف بخطورة الخنق واتخاذ إجراءات قانونية صارمة ضده يمثل خطوة أساسية في هذا المسار.

الضحايا بين الصمت والخوف

رغم التقدم القانوني، تشير منظمات حقوقية إلى أن كثيرا من الضحايا ما زلن يترددن في الإبلاغ عن هذه الجرائم، خوفا من الانتقام أو فقدان الاستقرار الأسري أو الاقتصادي، ويؤكد مختصون أن الخنق، بوصفه عنفا صامتا لا يترك آثارا ظاهرة دائما، يسهل إنكاره من قبل الجناة، ويصعب إثباته دون وعي قانوني وطبي كاف.

من هنا، ترى الجهات المعنية أن رفع الوعي المجتمعي حول خطورة الخنق لا يقل أهمية عن التشريعات، وأن تمكين الضحايا من الوصول إلى الدعم القانوني والطبي والنفسي يظل عاملا حاسما في مكافحة هذه الجريمة.

وتؤكد هيئة الادعاء الملكية أن الارتفاع في عدد التهم يعكس إدراكا متزايدا لخطورة جريمة الخنق وانتشارها، ويمثل جزءا من التزامها بتنفيذ خطة العدالة المشتركة لمكافحة العنف الأسري، وترى الهيئة أن هذا التحول قد يشجع دولا أخرى على إعادة النظر في تشريعاتها، والاعتراف بأن بعض أنماط العنف التي طالما جرى التقليل من شأنها تشكل في الواقع تهديدا مباشرا للحياة.

أُدرجت جريمة الخنق والاختناق كجريمة مستقلة في القانون البريطاني بموجب قانون العنف الأسري الصادر سنة 2021، بعد حملات طويلة من منظمات حقوقية وأدلة طبية وقضائية أثبتت ارتباط الخنق بارتفاع خطر القتل في العلاقات العنيفة، ودخل القانون حيز التطبيق في يونيو 2022، ليمنح الشرطة والادعاء العام أدوات قانونية أوضح لملاحقة الجناة، ويأتي هذا التطور ضمن توجه أوسع في بريطانيا لتشديد القوانين المتعلقة بالعنف الأسري، وتعزيز حماية الضحايا، خاصة النساء والفتيات، في مواجهة أنماط إساءة كانت تُهمش أو تُساء قراءتها لعقود طويلة. 



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية