لا مكان نذهب إليه.. نازحون من غزة يروون حكايات صمود تحت الغارات الإسرائيلية

لا مكان نذهب إليه.. نازحون من غزة يروون حكايات صمود تحت الغارات الإسرائيلية
خيام النازحين في غزة

في بلدة بني سهيلة جنوب قطاع غزة، تجلس أم أحمد قديح أمام خيمتها المهترئة، تحاول أن تخفي ارتجاف يديها كلما دوى انفجار قريب، أطفالها يلتفون حولها مع كل غارة جوية، يسألون السؤال ذاته في كل مرة: لماذا لا نغادر مثل الآخرين؟ ولماذا نبقى هنا حيث الخوف لا يهدأ؟ لا تجد الأم ذات الأربعين عاماً إجابة مقنعة، ليس لأنها لا تريد الرحيل، بل لأنها تعرف أن الرحيل لم يعد خياراً حقيقياً في قطاع أنهكته الحرب وضاقت به الأرض.

خلال الأسبوع الأخير كثف الجيش الإسرائيلي غاراته الجوية والقصف المدفعي على المناطق الشرقية من خان يونس، وهي المناطق الواقعة شرق الخط الأصفر، وبحسب ما ذكرته فرانس برس، اليوم الثلاثاء، فإن هذه المناطق تؤوي عشرات الآلاف من الفلسطينيين الذين يعيشون في خيام مؤقتة أو في منازل تضررت بشدة خلال حرب مدمرة امتدت لعامين، والقصف لا يتوقف ليلاً أو نهاراً، والسماء لا تعرف الصمت، في حين يتحول كل صوت انفجار إلى تهديد مباشر للحياة فيما تبقى من غزة.

التمسك بالأرض رغم الخطر

تعيش أم أحمد قديح مع أطفالها في خيمة نصبت بجوار منزلها المدمر، تقول إنها لم تنم ليلة واحدة بهدوء منذ عودة القصف المكثف على المنطقة الشرقية في قطاع غزة، والخوف يتسلل إلى كل تفصيلة من تفاصيل حياتهم اليومية، وتضيف أن أطفالها يتوسلون إليها للنزوح نحو غرب خان يونس حيث تتركز حركة النزوح، لكنها تعرف أن منطقة المواصي هناك ممتلئة بالكامل بالخيام ولا تتسع لمزيد من العائلات، بالنسبة لها، البقاء قرب أنقاض البيت أهون من الذهاب إلى مكان مجهول قد لا يجدون فيه موطئ قدم.

في شمال شرق خان يونس، يجلس عبد الحميد الفرا البالغ من العمر 70 عاماً فوق أنقاض منزله الذي دمر جزئياً، يقول إن عائلته لم تبق هنا لأنها تشعر بالأمان، بل لأنها لا تجد مكاناً آخر تذهب إليه، ويرى الفرا أن النزوح المتكرر لم يعد حلاً، بل بات مأساة إضافية، ويؤكد أن الأرض التي يقف عليها هي كل ما تبقى له، وأن الرحيل عنها تحت القصف لن يمنحه النجاة بل سيجرده من آخر ما يملكه.

يرى الفرا أن منطقة المواصي غرب خان يونس لم تعد قادرة على استيعاب مزيد من النازحين، الخيام متلاصقة، والخدمات شبه معدومة، والمياه والطعام شحيحان، ويعتقد أن استمرار نسف المنازل في المناطق الشرقية يهدف إلى إفراغ المنطقة بالكامل من سكانها، خاصة شرق الخط الأصفر الذي بات يشكل محور التصعيد العسكري.

الخط الأصفر هو خط ترسيم خاضع لسيطرة إسرائيل، أقر بموجب هدنة بين إسرائيل وحركة حماس دخلت حيز التنفيذ في 10 أكتوبر، وفي وقت سابق من الشهر الحالي وصف رئيس أركان الجيش الإسرائيلي إيال زمير هذا الخط بأنه الحدود الجديدة مع إسرائيل، هذا التوصيف أثار مخاوف واسعة بين سكان شرق خان يونس الذين يرون في القصف المتواصل محاولة لفرض واقع جديد بالقوة.

تبريرات عسكرية وواقع مدني

يقول الجيش الإسرائيلي إن ضرباته تأتي رداً على تهديدات من الفصائل الفلسطينية، وأكد في بيان أن عملياته الحالية في غزة وانتشاره في منطقة الخط الأصفر تهدف إلى مواجهة تهديدات مباشرة، غير أن السكان المدنيين على الأرض يعيشون واقعاً مختلفاً، حيث يتحول القصف إلى أداة ضغط تدفعهم نحو الرحيل في ظل غياب أي مكان آمن داخل القطاع.

اندلعت الحرب في قطاع غزة في 7 أكتوبر 2023 عقب هجوم شنته حركة حماس على جنوب إسرائيل وأسفر عن مقتل 1221 شخصاً وفق أرقام رسمية إسرائيلية، منذ ذلك الحين، قتل أكثر من 70000 شخص في غزة بحسب وزارة الصحة في القطاع، كما نزح معظم سكان القطاع البالغ عددهم 2200000 نسمة، وكثير منهم اضطر للنزوح مرات عدة، ما أدى إلى إنهاك جسدي ونفسي واسع النطاق.

يقول المتحدث باسم الدفاع المدني محمود بصل إن بعض السكان يغادرون منازلهم تحت وطأة القصف، لكن الأعداد تبقى محدودة؛ والسبب في ذلك أن الخيارات شبه معدومة، وكثيرون يفضلون البقاء رغم مخاطر الموت لأنهم لا يرون مكاناً آمناً يمكنهم اللجوء إليه. يؤكد بصل أن الجيش الإسرائيلي كثف في الأسابيع الأخيرة القصف الجوي والمدفعي يومياً على خان يونس ومناطق أخرى بهدف دفع الناس إلى الرحيل وترك المناطق الشرقية خالية.

بلدية خان يونس تحذر

يصف رئيس بلدية خان يونس علاء البطة القصف الإسرائيلي بأنه خروقات واضحة لاتفاق وقف إطلاق النار، ويرى أن الهدف الأساسي هو تهجير السكان من مناطقهم، ويحذر من أن مئات الآلاف من النازحين يفتقرون لأبسط مقومات الحياة، فلا خيام كافية ولا طعام ولا دواء، في ظل انهيار شبه كامل للبنية التحتية والخدمات الأساسية.

في بلدة خزاعة شرق خان يونس، يؤكد محمود بركة البالغ من العمر 45 عاماً أن القصف المدفعي لا يتوقف وأن أصوات الانفجارات باتت قريبة جداً من المنازل والخيام، يقول إن الجيش الإسرائيلي ينفذ عمليات نسف يومية للمنازل وكأن المنطقة ساحة حرب مفتوحة، ويرى بركة أن الهدف هو بث الخوف في نفوس السكان ودفعهم إلى النزوح.

يصف بركة لياليهم بأنها طويلة وثقيلة، لا نوم بسبب الخوف، ولا راحة بسبب البرد، أطفاله يرتجفون ليس فقط من أصوات القصف بل أيضاً من قسوة الظروف المعيشية، ويؤكد أن العائلة تعيش مأساة حقيقية، ومع ذلك لا تجد بديلاً عن البقاء، كل الطرق الأخرى مسدودة، وكل الخيارات تحمل الخطر ذاته.

يعبر بركة عن أمله في أن ينتهي هذا الوضع مع بدء المرحلة الثانية من اتفاق وقف إطلاق النار وانسحاب الجيش الإسرائيلي، يقول إن العائلات تحاول استعادة حياتها تدريجياً رغم التعب والإرهاق الشديدين، لكنه يدرك أن هذا الأمل معلق على مفاوضات متعثرة تتبادل فيها إسرائيل وحماس الاتهامات بشأن التأخير.

مفاوضات ومستقبل غامض

تنص المرحلة الثانية من الاتفاق على انسحاب القوات الإسرائيلية من مواقعها الحالية داخل قطاع غزة، وتولي سلطة مؤقتة إدارة القطاع بدلاً من حكومة حركة حماس، إضافة إلى نشر قوة استقرار دولية، غير أن تأخر بدء هذه المرحلة يبقي السكان في حالة انتظار قاتل، حيث يستمر القصف ويستمر الخوف وتتراكم المعاناة يوماً بعد يوم.

تأتي معاناة سكان شرق خان يونس في سياق حرب طويلة أدت إلى تدمير واسع النطاق في قطاع غزة، وأجبرت معظم السكان على النزوح الداخلي في مساحة جغرافية محدودة، ومع تراجع القدرة الاستيعابية لمناطق النزوح مثل المواصي، باتت آلاف العائلات عالقة بين القصف وغياب البدائل.

ويشير مراقبون إلى أن استمرار العمليات العسكرية في المناطق الشرقية يعمق الأزمة الإنسانية ويقوض أي فرص للاستقرار، في وقت يعتمد فيه السكان على أمل هش بوقف دائم لإطلاق النار يتيح لهم العودة إلى حياة طبيعية فقدوها منذ أكثر من عامين.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية