أم سلمة.. أول سفيرة مسلمة للسلام والدبلوماسية الأبرز في صدر الإسلام
حقوقيات في زمن النبوة (5)
دائمًا ما يُدلي التاريخ البشري بشهادته عن الحروب، ودائمًا ما يصفها بأنها آلة صماء ضخمة، تبتلع بداخلها كل ما يصادفها من بشر وشجر وحجر فلا تُبقي ولا تذر، تصنع سرديتها بعنفوان وفيها يواجه الإنسان أزمة وجود ويضمحل إلى حد التلاشي أمام هذه السردية، بحيث لا يعدو أن يكون شيئاً، مجرد شيء أو رقم وربما مجرد مادة تختلط مع أكوام أخرى من الأشياء التي تشتعل بها الحرب وتتفاقم من خلالها تلال من الخراب.
ومن بشاعة الحروب، تبرز أهمية السلام ورغد أوقات السلم الذي تزدهر فيه المجتمعات وتنمو، ولعل هذا ما برز أمام عين أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها، فأدركت بحكمة اشتهرت بها، الخراب العائد من حرب بين المشركين في مكة وبين النبي وأنصاره على أرض الحديبية، أو الازدهار العائد من سلام وصلح بين الفريقين فآثرت السلم وأشارت على النبي بالصلح وأرته طريقًا له بلا جدال أو مشاحنات، صلحًا "نظيفًا" فوافق رأي النبي حيث لم يكن ليشعل حربًا إلّا لضرورة، والمشهور في كتب التاريخ بـ"صلح الحديبية" لتصبح بذلك أول سفيرة للسلام في الإسلام والدبلوماسية الأشهر وقتها.
اتصفت أم سلمة رضي الله عنها برجاحة العقل، فقد كانت سبباً في نزول العديد من آيات القرآن الكريم، والتي كانت أجوبة عن تساؤلاتها العاقلة للرسول عليه الصلاة والسلام، وظهرت حكمتها جليّة في عدة مواقف حسمت من خلالها معركة وأنهتها إلى إحلال سلام على مستويين، الأول خارجي بين النبي صلى الله عليه وسلم وقريش، ودخالي بين النبي وأصحابه الذين خرجوا في إصرار وعزيمة على فتح مكة والعودة إلى وطنهم الحبيب، ورد اعتبار لأنفسهم التي هُجِّرت قسريًا، خاصة أن ذلك كان عاراً لدى القبائل العربية ومن المروءة استرداد ما سلب قهرًا.
كان ذلك بمشورة أم سلمة للرسول أن ينحر ويحلق دون أن يُكلّم أحداً حتى يتبعوه في عمله يوم الحديبية، ونصائحها لعثمان بن عفان في خلافته باتباع طريق النبي وصحابيه الصدّيق والفاروق.
قال الحافظ ابن حجر: "وكانت أم سلمة موصوفة بالجمال البارع والعقل البالغ والرأي الصائب، وإشارتها على النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية تدل على وفور عقلها وصواب رأيها".
صحبت أم سلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة خيبر، وفي فتح مكة، وفي حصاره للطائف، وغزو هوزان وثقيف، ثم في حجة الوداع عام 10 من الهجرة.
وحاولت أم سلمة تجنب الخوض في الحياة العامة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، حتى وقت الفتنة الكبرى فآزرت أمير المؤمنين عليّ ابن أبي طالب، وودت لو تخرج فتنصره، لكنها كرهت أن تبتلى، فقدمت إلى عليّ ابنها عمر ليخرج معه.
على النقيض
أخذ النبي بمشورة أم سلمة، ولم يخفِ ذلك أو يخجل منه، بل فخر به وأعلمه أصحابه ودوّنه التاريخ، حدث ذلك قبلما يزيد على 1400 عام، في زمن كانت تعامل ثقافات متعددة فيه المرأة بإهانة، وكان السؤال الأبرز الذي يعقدون له الاجتماعات "هل المرأة كائن له روح؟".
وفي القانون المدني الذي اعتمد عام 1804 والمعروف باسم قانون نابليون الذي ينص على: "تعطى المرأة إلى الرجل بهدف إنجاب الأطفال، المرأة هي من ممتلكاتنا، ولسنا ملكا لها".
ولم يكن للمرأة المتزوجة أي وجود كفرد في التشريع، فإنها حرمت من جميع الحقوق القانونية كما كانت الحال بالنسبة للقاصرين والمجرمين والمعاقين عقلياً.
واستعرضت بعض الأفلام التي تتناول القرون الوسطى معركة الكنائس مع الساحرات، وكذلك كتاب "مطرقة الساحرات" الذي ظهر سنة 1482 على يد كل من الراهبين هاينريش كريمر وجاكوب شبرينغر، فقد ظل هذا الكتاب مرجعاً رسمياً للكنيسة في التنكيل بالنساء على مدى قرنين من الزمن، تمت فيهما إبادة عشرات الألوف من النساء البريئات حيث تتم شيطنتهن وإلصاق التهم الباطلة (السحر) بهن، فلقد كانت تتعرض المرأة لأشد أنواع التعذيب والتنكيل من القبض عليها حتى قتلها، حيث تتم تعريتها والبحث في جسدها عن علامات، مثل وحمة أو شامة، تكون لها دلالة معينة، تكشف ما يدعونه اتصالاً بين الشيطان وهذه المرأة، التي تأتي مصفدة في الأغلال بأسلوب الفلقة، حيث يحشر رأس المرأة ويداها في قطعة من الخشب تحيط بعنقها، ويجب أن يكون ظهرها موجها نحو القضاة وليس وجهها.
وقبل الحكم على الضحية، يتم اختبار مدى براءتها من المنسوب إليها، حيث يتم استعمال وسيلة الغرق، إذ يتم تصفيد يدي ورجلي الضحية ويتم توصيل أصفادها بأثقال وإلقاؤها في النهر، فإذا طفت كانت بالتأكيد "ساحرة" ويتم قتلها على الفور بالإحراق بالنار، أي يتم التخلص من الضحية حتى قبل صدور الحكم ضدها، وإذا لم تطفُ فالمصير واحد هو الموت.
تأثير الحرب على المرأة
وتبرز أهمية دور أم سلمة من خلال ما تجتهد في تقنينه وإقامته وما تُحذر منه مؤسسات المجتمع المدني والمبادرات الدولية المعنية بالسلام في عصرنا الحالي.
ففي تقرير للأمم المتحدة، حذرت من تأثر النساء بشكل غير متناسب بانتشار الأسلحة واستخدامها، في حين أن الرجال هم المسؤولون بشكل كبير عن إساءة استخدام الأسلحة الصغيرة ويتحملون مسؤولية 84% من الوفيات الناجمة عن العنف بما في ذلك جرائم القتل والنزاعات المسلحة، إذ تموت امرأة كل ساعتين بسبب العنف المنزلي والجنسي القائم على النوع الاجتماعي، لا سيما من خلال استخدام الأسلحة الصغيرة.
وقرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 1325 "2000" حول المرأة والسلام والأمن، كان أحد الإنجازات التي حققتها الحركة النسائية العالمية وأحد أبرز قرارات المجلس.
يعترف القرار، بتأثير الصراع على النساء والفتيات ويؤكد من جديد دورهن المهم في السلام والأمن ويتناول أربع ركائز متشابكة: المشاركة والحماية والوقاية والإغاثة والتعافي.
ومع ذلك، لا تزال هناك فجوات في التنفيذ على المستوى التنظيمي ومستوى الميزانية، واليوم فقط 41% من الدول الأعضاء في الأمم المتحدة التي اعتمدت خطة عمل وطنية بالنسبة لقرار مجلس الأمن رقم 1325 "2000"، وفقط 22% من هذه الخطط تتضمن ميزانية وقت الاعتماد، وأقل من 20% من جميع قرارات مجلس الأمن في عام 2018 تضمنت إشارات إلى أهمية المرأة وضرورة ضمان الحقوق والحريات الأساسية للمجتمع المدني والجماعات النسائية والمدافعات عن حقوق الإنسان، كذلك التهميش المستمر للمرأة في هذه المناقشات يشكل عجزاً كبيراً يؤثر على جودة وسرعة واستدامة القرارات المتعلقة بالسلام والأمن.
وأعلنت الجمعية العامة للأمم المتحدة اليوم الدولي للسلام في عام 1981 من أجل "الاحتفال بمثل السلام وتعزيزها بين جميع الأمم والشعوب".
وبعد مرور عقدين من الزمن، حددت الجمعية العامة 21 سبتمبر تاريخا للاحتفال بالمناسبة سنويا، كيوم لوقف إطلاق النار عالميا وعدم العنف من خلال التعليم والتوعية الجماهيرية وللتعاون على التوصل إلى وقف إطلاق النار في العالم كله.
صلح الحديبية ودور أم سلمة في السلام
صحبت أم سلمة النبي صلى الله عليه وسلم في رحلته إلى مكة معتمرا في عام 6 من الهجرة، وهي الرحلة التي صدت فيها قريش الرسول وأتباعه من دخول البلد الحرام وتم عقد عهد الحديبية، وكان لأم سلمة رضي الله عنها يومئذ دور جليل مذكور في تاريخ الإسلام.
ذلك أن الصحابة شعروا بالغضب حين عرفوا شروط عهد الحديبية، ظنا منهم أنه بخس المسلمين حقهم وهم المنتصرون، فلما التأم الأمر وتم الاتفاق على شروط الصلح ولم يبقَ إلا كتابته والإشهاد عليه، جاء عمر بن الخطاب فقال: "يا رسول الله ألسنا على الحق وهم على الباطل؟"، فقال: "بلى"، فقال عمر: "أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟"، قال "بلى"، قال عمر: "فعلامَ نعطي الدنيّة في ديننا؟ أنرجع ولما يحكم الله بيننا وبينهم؟" فقال الرسول صلى الله عليه وسلم "ابن الخطاب إني رسول الله ولن يضيعني الله أبدا".
انطلق ابن الخطاب إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنهـ فقال له مثل ما قال للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: "إنه رسول الله ولن يضيعه الله أبدا"، فنزلت سورة الفتح فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم على عمر إلى آخرها، فقال عمر: "يا رسول الله أو فتح هو؟"، قال: "نعم".
وفي حديث معمر عن الزهري عن عروة بن الزبير رضي الله عنهم في قضية الحديبية أنه لما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من قضيته قال لأصحابه: "قوموا فانحروا ثم احلقوا" فما قام منهم رجل، حتى قال ذلك ثلاث مرات، فلما لم يدخل منهم أحد، قام فدخل على زوجته أم سلمة، فذكر لها ما لقي من الناس، فقالت: "يا نبي الله أتحب ذلك؟ اخرج ثم لا تكلم أحدا منهم كلمة حتى تنحر بدنتك وتدعو حالقك فيحلقك". خرج النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكلم أحدا منهم كلمة حتى فعل ما أشارت به عليه أم سلمة رضي الله عنها، فلما رأى أصحابه ذلك، قاموا فنحروا وجعل بعضهم يحلق بعضا، حتى كاد يقتل بعضهم بعضا غما.
مناقبها
تُعتبر أمّ سلمة من أجمل النساء، وأشرفهن نسباً، وقد تشرّفت رضي الله عنها برؤية جبريل عليه السلام عندما دخل على النبي الكريم وهي عنده، وكان بهيئة إنسان، وقد عُرف عن أم سلمة العديد من الصفات التي تميّزت بها عن غيرها، منها:
التضحية والصبر: اللذان ظهرا بشكل واضح عندما أمر الرسول عليه الصلاة والسلام بالهجرة إلى المدينة، ففرقها قومها عن زوجها وابنها، فبقيت في مكة مضحية لدينها وصابرة على الألم قُرابة السنة، حتى سمحوا لها بالهجرة، فقامت بها وحيدة صابرة على عناء السفر حتى لقيها عثمان بن طلحة وأوصلها إلى المدينة.
زواج النبي من أم سلمة
قبل زواجها من النبي كانت أم سلمة زوجة صحابي حسن إسلامه، وأصيب في غزوة أحد، ووفقًا لكتب السيرة والتاريخ، ظنّ أبو سلمة أن جرحه التأم، عاد وانفض جرحه فأخلد إلى فراشه، تمرضه أم سلمة إلى أن حضره الأجل وتوفاه الله، وقد قال عند وفاته: (اللهم اخلفني في أهلي بخير) فأخلفه الله تعالى رسوله -صلى الله عليه وسلم– على زوجته أم سلمة بعد انقضاء عدّتها، حيث خطبها وتزوجها، فصارت أمًّا للمؤمنين، وصار الرسول -صلى الله عليه وسلم- ربيب بنيه (عمر وسلمة وزينب).
كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- عند أم سلمة فدخل عليها الحسن والحسين -رضي الله عنهما-، ثم أدخلهما تحت ثوبه، ثم جأر إلى الله عزّ وجل ثم قال: (هؤلاء أهل بيتـي) فقالت أم سلمـة رضي الله عنها: (يا رسول الله، أدخلني معهم!) فقال صلى اللـه عليه وسلم: (أنتِ من أهلي)؛ وبهذا أدخل على نفسها الطمأنينة، وكان -صلى اللـه عليه وسلـم- يهتم بأبنائهـا كأنهم أبناؤه فربيبتـه زينـب بنت أبي سلمة أصبحـت من أفقه نساء أهل زمانها، وبلغ من إعزازه -صلى الله عليه وسلم- لربيبـه سلمة بن أبي سلمة أن زوجـه بنت عمه الشهيد حمـزة بن عبد المطلب رضي الله عنه.
لقد صحبت أم المؤمنين أم سلمة الرسول -صلى الله عليه وسلم- في غزوات كثيرة، فكانت معه في غزوة خيبر وفي فتح مكة وفي حصاره للطائف، وفي غزو هوازن وثقيف، ثم صحبتْهُ في حجة الوداع.
وفاتها رضي الله عنها
توفيت رضي الله عنها بعدما جاءها نعي الإمام الحسين، وصلى عليها أبو هريرة رضي الله عنه، ودفنت بالبقيع، فكانت آخر من مات من أمهات المؤمنين رضي الله عنهن، وعاشت نحو تسعين سنة.