الفساد.. ظاهرة تهدد استقرار المجتمعات وتعيق التنمية وتهدر حقوق الإنسان

الفساد.. ظاهرة تهدد استقرار المجتمعات وتعيق التنمية وتهدر حقوق الإنسان

مفوضية حقوق الإنسان: الفساد يكلف البلدان النامية نحو 1.26 تريليون دولار سنوياً

الفساد يعزز الظلم الاجتماعي ويعيق التقدم الاقتصادي

خبير حقوقي: الفساد يعزز من انعدام المساواة ويهدد حقوق الإنسان الأساسية

خبير اقتصادي: الفساد يكبّل النمو ويعمّق الفقر في المجتمعات

 

الفساد ظاهرة تتجاوز الحدود والجغرافيا، وتعتبر واحدة من أخطر التحديات التي تواجه دول العالم المعاصر، حيث يعرقل الفساد التنمية الاقتصادية، ويقوض الثقة في المؤسسات، ويعزز الظلم الاجتماعي. بالنسبة للدول العربية، فإن الفساد يمثل عقبة مزدوجة، حيث يعيق التقدم الاقتصادي ويزيد من تعقيدات الأزمات السياسية والاجتماعية القائمة. 

وأكد تقرير مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان، حول دور تقديم الخدمات العامة في تعزيز وحماية حقوق الإنسان وفي تحقيق أهداف التنمية المستدامة، أن الجرائم المرتبطة بالفساد تكلف البلدان النامية نحو 1.26 تريليون دولار سنوياً. 

وسلط التقرير، الذي اطلعت "جسور بوست" على نسخة منه، والذي عرض أمام مجلس حقوق الإنسان في دورته الـ56، التي انتهت فعالياتها في 12 يوليو الماضي، الضوء على أن تكلفة الفساد السنوية المقدرة لدول الاتحاد الأوروبي تتراوح بين 179 مليار يورو و256 مليار يورو. 

وفقًا لمؤشر مدركات الفساد لعام 2021 الصادر عن منظمة الشفافية الدولية، تعاني بعض الدول العربية من مستويات عالية من الفساد.

والفساد ليس مجرد مشكلة إدارية أو قانونية، بل هو قضية عميقة تتعلق بالأخلاق والقيم، ويؤدي الفساد إلى تآكل المؤسسات، حيث يتم استخدام الموارد العامة لتحقيق مكاسب خاصة على حساب الصالح العام. على سبيل المثال، تشير التقديرات إلى أن الفساد يكلف الاقتصاد العالمي تريليونات الدولارات سنويًا. 

في العالم العربي، تظهر تقارير الأمم المتحدة أن الفساد يكلف المنطقة ما يصل إلى 50 مليار دولار سنويًا، وهو مبلغ يمكن استخدامه لتحسين البنية التحتية والتعليم والصحة. 

وفي الدول العربية، يظهر الفساد بأشكال متعددة، بدءًا من الرشوة والاختلاس وصولًا إلى المحسوبية والتمييز في التعاملات الحكومية. 

في العراق، يعاني المواطنون من انقطاع الكهرباء وسوء الخدمات الصحية والتعليمية، بينما يتم تحويل الموارد العامة إلى حسابات خاصة. 

وفي تونس، التي كانت تعتبر نموذجًا للتحول الديمقراطي بعد ثورة 2011، لا تزال تعاني من الفساد، حيث حصلت على 44 درجة في مؤشر مدركات الفساد، مما يعكس التحديات الكبيرة التي تواجهها في تحقيق الشفافية والمساءلة. 

وأدت الإجراءات الاستثنائية التي اتخذها الرئيس قيس سعيد في يوليو 2021 إلى تجميد البرلمان وحل هيئة مكافحة الفساد، مما أثار مخاوف بشأن مستقبل الديمقراطية في البلاد. 

في لبنان، الذي حصل على 24 درجة فقط في مؤشر مدركات الفساد، تتفاقم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية بسبب الفساد المستشري في جميع مستويات الحكومة. 

وأدى الانفجار الكارثي في مرفأ بيروت في أغسطس 2020 إلى تسليط الضوء على الفساد وسوء الإدارة، حيث كشفت التحقيقات أن المواد المتفجرة كانت مخزنة بشكل غير آمن لسنوات، دون أن تتخذ السلطات أي إجراءات لحماية المواطنين. 

وفي اليمن، الذي يعاني من حرب أهلية مدمرة، حصل على 16 درجة فقط في مؤشر مدركات الفساد، تعزز الحرب والفوضى السياسية مناخ الفساد، حيث يتم تحويل المساعدات الإنسانية والموارد الوطنية إلى جيوب الفاسدين. 

ويؤدي هذا إلى تفاقم الأزمة الإنسانية في البلاد، حيث يعاني الملايين من الجوع والمرض. كما أن الفساد لا يؤثر فقط على الاقتصادات الوطنية، بل له تأثير مباشر على حياة الناس اليومية، يؤدي الفساد إلى تدهور الخدمات العامة، مثل التعليم والصحة والبنية التحتية، مما يزيد من معاناة المواطنين ويعزز الفقر والبطالة. 

في الدول التي تعاني من مستويات عالية من الفساد، تكون الفجوة بين الأغنياء والفقراء واسعة، مما يؤدي إلى تفاقم التوترات الاجتماعية والسياسية. 

ولمكافحة الفساد، أكد خبراء ضرورة تبني استراتيجيات شاملة تشمل تعزيز الشفافية والمساءلة وتطوير البنية التشريعية والمؤسسية، فيجب أن تكون هناك إرادة سياسية قوية لتنفيذ الإصلاحات الضرورية، ويجب إشراك المجتمع المدني ووسائل الإعلام في جهود مكافحة الفساد، من الضروري أيضًا توفير حماية قانونية للمبلغين عن الفساد والصحفيين الذين يكشفون عن هذه الممارسات. 

ويتطلب الأمر تضافر الجهود بين الحكومات والقطاع الخاص والمجتمع المدني لتحقيق تقدم حقيقي في مكافحة الفساد. إن الفساد هو العدو الخفي الذي يهدد استقرار وتقدم الدول. لا يمكن تحقيق التنمية المستدامة والعدالة الاجتماعية في ظل وجود الفساد. 

وكما أكد الخبراء، يجب على الدول العربية أن تتخذ إجراءات جادة وشاملة لمكافحة هذه الآفة، ليس فقط من أجل تحسين حياة المواطنين اليوم، ولكن من أجل تأمين مستقبل أفضل للأجيال القادمة. 

مكافحة الفساد ليست مهمة سهلة، ولكنها ضرورية لتحقيق مجتمعات عادلة ومستقرة تقوم على أسس الشفافية والنزاهة.

تكلفة الفساد على التنمية

أشار تقرير مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان إلى أن الفساد يكلف البلدان النامية نحو 1.26 تريليون دولار سنويًا.

كما أفاد التقرير، الذي قدم إلى مجلس حقوق الإنسان خلال دورته الـ56، أن تكلفة الفساد في دول الاتحاد الأوروبي تتراوح بين 179 و256 مليار يورو سنويًا. 

ويعكس الفساد تأثيرًا مدمرًا على تقديم الخدمات العامة، حيث يؤدي إلى هدر الأموال العامة، مما يحد من قدرة الحكومات على تلبية احتياجات حقوق الإنسان وتحسين مستوى المعيشة.

ويقوض الفساد فعالية الخدمات الصحية والتعليمية، ويؤثر بشكل غير متناسب على النساء والفتيات والفئات المهمشة، كما يتسبب في استنزاف الموارد، وتفشي عدم المساواة، وفقدان الثقة في المؤسسات مثلاً، في زيمبابوي، يُزعم أن الرشوة تعوق وصول النساء إلى الرعاية الصحية الأساسية.

يسلط التقرير الضوء على الحاجة إلى تعزيز الشفافية والمساءلة وتحسين إدارة الموارد لمكافحة الفساد. 

وأوصى التقرير بضرورة تعزيز سيادة القانون، وتحسين الحوكمة، وتبني نهج قائم على حقوق الإنسان في السياسات الاقتصادية والمشتريات الحكومية لضمان تقديم خدمات عامة فعالة وعادلة.

تحديات مستمرة وآثار مدمرة

الفساد ظاهرة قديمة قدم التاريخ البشري، وهي تتجلى في أشكال متعددة عبر مختلف العصور والثقافات، يعتبر الفساد أحد أكبر التحديات التي تواجهها المجتمعات، إذ يؤدي إلى تآكل الثقة في المؤسسات وتدهور القيم الأخلاقية والاجتماعية. 

أولى حالات الفساد المسجلة في التاريخ تعود إلى الحضارات القديمة، مثل الحضارة السومرية حيث استخدم المسؤولون سلطتهم لتحقيق مكاسب شخصية على حساب الصالح العام. 

في العصور الوسطى، كان الفساد في الكنيسة الكاثوليكية إحدى الظواهر البارزة، حيث بيعت المناصب الدينية وجمعت الضرائب بطرق غير شرعية، مما أدى إلى حركات إصلاحية غيرت المشهد الديني والسياسي في أوروبا. 

في العصر الحديث، تُعد فضيحة ووترغيت في الولايات المتحدة من أشهر قضايا الفساد، حيث كشفت عن تورط الرئيس نيكسون في أنشطة غير قانونية أدت إلى استقالته.

تأثير الانحرافات الإدارية

وفي السياق، علق رئيس المرصد التونسي لحقوق الإنسان مصطفى عبدالكبير، بقوله، إن الفساد، باعتباره إحدى أكثر الظواهر الاجتماعية تخريبًا، لا يتوقف تأثيره عند الأبعاد الاقتصادية أو السياسية فقط، بل يمتد ليشمل الأفراد بشكل مباشر، مما يتصادم مع المبادئ الأساسية لحقوق الإنسان، وفي قلب تأثير الفساد يكمن الإضرار بالحقوق الأساسية للأفراد، مما يعكس فجوة عميقة بين الممارسات الفاسدة والمبادئ الإنسانية التي تدعو إلى العدالة والمساواة. 

وتابع عبدالكبير، في تصريحاته لـ"جسور بوست"، عندما يتحكم الفساد في مؤسسات الدولة، يكون له تأثير مباشر على قدرة الأفراد في الوصول إلى حقوقهم الأساسية، ففي القطاع الصحي، يمكن أن تؤدي الرشاوى والمحسوبية إلى تدهور جودة الرعاية الصحية، مما يحرم الفقراء والمهمشين من الخدمات الأساسية التي يحتاجون إليها، هذا يتناقض تمامًا مع الحق في الصحة الذي يكفله الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والذي ينص على ضرورة ضمان حصول الجميع على الرعاية الصحية دون تمييز. 

وأكد أن الفساد في هذا السياق يفاقم التفاوتات الاجتماعية، حيث يمر الأفراد ذوو الموارد المحدودة بصعوبات أكبر في الحصول على خدمات صحية ملائمة، مما يعرضهم لمخاطر صحية متزايدة. في مجال التعليم، الفساد يمكن أن يعرقل وصول الأطفال إلى المدارس الجيدة، حيث يمكن أن تُستخدم الرشاوى للتأثير على قبول الطلاب أو تسريع الإجراءات هذا ينتهك الحق في التعليم، والذي يُعتبر من الحقوق الأساسية التي يجب أن تكون متاحة لجميع الأفراد بغض النظر عن خلفيتهم الاقتصادية أو الاجتماعية. 

وأضاف عبدالكبير: الفساد يعزز من انعدام المساواة، حيث تتفوق المدارس المميزة على المدارس الأقل جودة بسبب المحسوبية والرشاوى، مما يحد من فرص التعلم للأفراد من الطبقات الفقيرة ويعرقل نموهم وتطورهم، التأثيرات الاجتماعية للفساد لا تقتصر على الحرمان من الخدمات الأساسية، بل تمتد لتقويض الثقة في النظام القضائي والإداري، مما يحد من قدرة الأفراد على ممارسة حقوقهم القانونية، عندما تُدمر النزاهة في المحاكم أو يُعيق الوصول إلى العدالة بسبب الفساد، يتعرض الأفراد لظلم مزدوج: من جهة، يفتقرون إلى حماية حقوقهم؛ ومن جهة أخرى، يُجبرون على التعايش مع الإحساس بالإفلات من العقاب وتفشي الفساد. 

مصطفى عبد الكبير

وأوضح الحقوقي التونسي أن الفجوة بين المبادئ الإنسانية وممارسات الفساد تسلط الضوء على الحاجة الملحة للإصلاح، وتتطلب مواجهة الفساد تبني سياسات قوية تعزز الشفافية والمساءلة، وتضمن أن تكون الخدمات العامة في متناول جميع الأفراد دون تمييز، كما يجب أن يكون هناك التزام بتفعيل نظام عدالة فعال ومستقل، قادر على مكافحة الفساد وتعزيز احترام حقوق الإنسان.

وأتم، التصدي للفساد ليس فقط واجبًا أخلاقيًا، بل هو ضرورة لضمان تحقيق المساواة والعدالة لجميع الأفراد، وضمان تمتعهم بحقوقهم الأساسية.

تداعيات خطيرة على المجتمعات

بدوره، قال خبير الاقتصاد لدولي، رشاد عبده، إن الفساد يُعد من أعتى التهديدات التي تواجه المجتمعات المعاصرة، حيث يترك آثاراً عميقة على البُعدين الاجتماعي والاقتصادي، ومن الناحية الاجتماعية، يؤثر الفساد بشكل سلبي على مستويات الثقة بين الأفراد والمؤسسات، حيث يعزز الشعور بالظلم وعدم المساواة، فعندما تُخصص الموارد بشكل غير عادل نتيجة للفساد، تزداد الفجوة بين الطبقات الاجتماعية، ما يؤدي إلى تفشي الفقر بين الفئات الأكثر ضعفاً ويعرقل قدرتهم على الوصول إلى الخدمات الأساسية مثل التعليم والرعاية الصحية.

وأضاف في تصريحاته لـ"جسور بوست"، الفساد ينتهك المبادئ الأساسية لحقوق الإنسان التي تضمنها المواثيق الدولية، حيث يُحرم الأفراد من حقوقهم الاقتصادية والاجتماعية بسبب التلاعب بالموارد العامة. على سبيل المثال، في المجتمعات التي تعاني من فساد مستشرٍ في نظام التعليم أو الصحة، قد تُحرم الأسر ذات الدخل المنخفض من خدمات ذات جودة، مما يزيد من التباين الاجتماعي ويحد من فرص التقدم الاجتماعي. 

وتابع، اقتصادياً، يؤدي الفساد إلى إهدار الموارد ويقلل من كفاءة الإنفاق الحكومي، مما يعرقل النمو الاقتصادي المستدام. عندما تُسرق أو تُهدر الأموال المخصصة لمشاريع البنية التحتية أو الخدمات العامة، يتأثر الاقتصاد الوطني بشكل مباشر، إذ تتراجع قدرة الحكومات على تنفيذ مشاريع تنموية حيوية، فضلاً عن ذلك، يثني الفساد الاستثمارات الأجنبية التي تعتمد على بيئة أعمال شفافة وقانونية، مما يؤدي إلى تراجع النمو الاقتصادي وفرص العمل.

واستكمل خبير الاقتصاد الدولي، يؤدي الفساد أيضاً إلى زيادة أعباء التكاليف على الأفراد والشركات، حيث يضطر الناس لدفع رشاوى للحصول على الخدمات الأساسية أو لتجاوز الإجراءات البيروقراطية المعقدة، هذه التكاليف غير المبررة تشكل عبئاً مالياً إضافياً على الأفراد والشركات، مما يعزز الدورة الاقتصادية السلبية ويؤدي إلى تآكل الثقة في النظام الاقتصادي ككل.

رشاد عبده

وأتم الخبير الاقتصادي قائلا: في المحصلة، يمثل الفساد تهديداً متزايداً للمجتمعات، حيث يعوق التنمية الاقتصادية ويزيد من التفاوت الاجتماعي. تحتاج الحكومات والمجتمع المدني إلى التعاون لمكافحة الفساد وتعزيز الشفافية والمساءلة، لضمان تحقيق النمو المستدام وتحسين نوعية حياة الأفراد في المجتمعات.  



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية