كيف تعبث «السوشيال ميديا» بالرأي العام؟

كيف تعبث «السوشيال ميديا» بالرأي العام؟

بافتراض أن مركز تفكير رصينًا، أو باحثًا جادًّا، سعى إلى محاولة تقصي الأولويات التي تشغل المجال العام المصري راهنًا، وتحظى باهتمام على المستوى الوطني، فلجأ إلى منصات «التواصل الاجتماعي» لكي يُحدد تلك الأولويات، ويرصد اتجاهات الرأي بصددها، فإن النتيجة ستكون صادمة، ومُخيبة للآمال، بكل تأكيد.

فتلك المحاولة الجادة والمطلوبة في آن ستسفر، للأسف الشديد، عن عدد من الأولويات الخاطئة، التي ستحل مكان بعض القضايا ذات الأهمية الفائقة، وستصرف الانتباه عنها، وستُفقد القادة والمؤسسات المؤشرات اللازمة لترشيد القرارات، أو إدراك سبل التوافق المجتمعي إزاءها.

فالقضايا المُلِحّة والتحديات الخطيرة تكاد تكون معروفة مُسبقًا، وهي لن تخرج عن مشكلة حرب غزة، وتأثيرها في الأمن القومي المصري، أو الأزمات التي تطرحها مسألة المهاجرين، وما يتصل بها من الاضطرابات والانهيارات في دول الجوار، أو المشكلة الاقتصادية الصعبة، أو قضية تراجع مستوى الخدمات العامة، أو حتى ما يتعلق بالحوار الوطني والقضايا الحساسة التي يتناولها.

لكن الغريب أن تلك المحاولة البحثية الجادة لن تجد في إطار القضايا الأكثر تداولًا وإلحاحًا سوى موضوعات من نوع التراشق بين داعية ديني وراقصة، أو مقترح «إلغاء تدريس العلوم الإنسانية»، أو الموقف الديني والمجتمعي من قضية «المُساكنة»، أو حتى مدى شرعية «إطعام القطط»، أو قطع العمل لأداء الصلاة في موعدها!.

سيرد بعض أصحاب النظر ذلك الخلل الواضح في ترتيب الأولويات الوطنية، عبر الوسائط الإعلامية «الجديدة»، إلى ثقافة المجتمع، وسيتهم آخرون السلطة بالمسؤولية عن ذلك الخلط، لكن لن يكون بمقدور أحد نفي صلة هذا الاضطراب الخطير بمواقع «التواصل الاجتماعي» ودينامياتها القادرة على حرف اهتمامات المجتمع والتلاعب بها.

وستثور الأسئلة المُلحة عن الأسباب التي أدت إلى استبدال قضايا خطيرة بأخرى «تافهة» أو «ثانوية»، لا تتمتع سوى بدرجة كبيرة من السخونة المُصطنعة، أو الأبعاد الفضائحية، أو التنطع، والنزعة الإثارية.

لـ«السوشيال ميديا» المصرية طبائع غريبة وأسلوب مميز؛ فهي قادرة دومًا على مفاجأة المستخدمين والمحللين؛ إذ يمكنها عادة أن تختار نطاق اهتمامات غريبًا، وهي عندما تفعل هذا فإنها لا تنطلق من قاعدة أو معيار معين، وإنما تفعله وفق «منطقها»، الذي يبدو أنه يفتقد أي منطق.

وفي كل صباح، يصحو المؤثرون الجدد، ومعهم لاعبو كرة القدم ومحللوها، وكثير من الفنانين والمتطفلين على الفن، وبعض الإعلاميين، ليفكروا في طريقة لجذب اهتمام «السوشيال ميديا»، واحتلال قوائم «الترند»، وعندما ينجح هؤلاء في إدراك أهدافهم، فإن المتفاعلين ينخرطون بالملايين في مساجلات مشحونة، لا تتوقف عادة إلا عندما يجدون موضوعًا أكثر سخونة لتداوله وإبرازه.

يجور «الفضاء السوشيالي» على وظيفة وسائل الإعلام «التقليدية» في إرساء الأولويات العمومية باطراد، وبدلًا من أن يُظهر هذا الفضاء قدرًا مناسبًا من المسؤولية تجاه القضايا والأولويات المُهمة، فإنه يُقوض الخرائط الإدراكية لمستخدميه، ويُقنعهم بتبني قضايا تافهة.

وفي هذا الصدد، يمكن القول إن المجتمع «السوشيالي» المصري أبدع طريقة مميزة في صناعة الأولويات العمومية، وإن تلك الطريقة تنتظم في مسار محدد، أضحى بمنزلة أنموذج عمل مُعتمد على نطاق كبير، وهو أمر يجب أن نُخضعه لمزيد من الدرس والبحث لأن عواقبه ستكون وخيمة.

تفيد الدراسات الأكاديمية بأن الإعلام يؤدي أدواره التأثيرية في تشكيل الرأي العام تجاه القضايا والعمليات، من خلال عدد من العمليات الرئيسة التي يقوم بها؛ وتأتي عملية تشكيل إطار القضايا، التي تُرسي الأولويات العامة، على رأس تلك العمليات.

في عملية تشكيل إطار القضايا، قد تقوم وسائل الإعلام بتسليط الضوء على قضايا بعينها، وتحجبه عن قضايا أخرى، من دون النظر إلى مدى أهمية تلك القضايا في سلم أولويات الجمهور.

ويعتقد باحثون إعلاميون أن قيام الإعلام بإغفال قضايا مهمة، أو منحها مساحات وأوقات عرض لا تتناسب مع مدى أهميتها المفترضة، يؤدي تلقائيًّا إلى تقليل الاهتمام بها من قِبَل قطاعات الجمهور، والعكس صحيح بطبيعة الحال.

لقد كان بمقدورنا، في زمن سيادة الإعلام «التقليدي» أن نتهم السلطة القائمة على إدارة المشهد الإعلامي بالتلاعب لتحقيق أغراضها عبر صياغات مُغرضة وغير موضوعية للأجندات، يتم تسليط الضوء فيها على قضايا معينة بغرض التحكم في اهتمامات الجمهور وترتيب أولوياته.

لكن في عصر وسائط «التواصل الاجتماعي»، هيمن الجمهور على دور «حارس البوابة»، وبات في الموقع الذي يسمح له بالتحكم في إطار القضايا وإرساء الأجندة، وهو عندما حظي بهذه المكانة راح يُفرط في إرساء الأولويات الخاطئة والمثيرة للشفقة والاستياء بشغف ونهم شديدين.


نقلاً عن صحيفة المصري اليوم


 


قد يعجبك ايضا

ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية