إعصار ماسك في التضليل الإعلامي بالغ في التطرف

إعصار ماسك في التضليل الإعلامي بالغ في التطرف

في وقت كانت زوبعة ميلتون تشق طريقها إلى سواحل فلوريدا نشر متطرفو اليمين عبر "إكس" نظريات مؤامرة قد تفاقم سوء تلك الكارثة، خصوصاً في أعين الجمهوريين

ثمة مشقة في أن تكونوا من الحزب الديمقراطي. وبحسب النائبة الجمهورية مارجوري تايلور غرين، لدى الديمقراطيين كل تلك الاجتماعات الشيطانية ليحضروها، وكل تلك اللقاحات المزودة بشرائح إلكترونية كي يتابعوها، إلى حد أن الديمقراطيين باتوا يسيطرون على الطقس.

ونعم، لقد استمر اليمين السياسي الأمريكي في طلاقه السريع من الواقع، وصَعَّدَ خطاب المؤامرة في الأعوام الأخيرة إلى مستويات لا يملك حتى أكثر أعمامنا جنوناً من وصفها بـ"غير المنطقية ولا المتماسكة، بصورة كاملة". ولم يعد أي زعم ليُعتبر متطرفاً، ولا يُنظر إلى أية قصة باعتبارها شططاً. وبصدق، كان الأمر ليكون مضحكاً لولا أنه قد يؤدي إلى قتل بعض الناس.

وبماذا تمثلت البؤرة الأخيرة لاهتماماتهم؟ إنها الإعصار ميلتون المصنف من الفئة الخامسة الذي يضرب ساحل فلوريدا، مع صدور تحذيرات من خبراء بأنه قد يتسبب بالموت والخراب في أرجاء تلك الولاية. وحذر "المركز الوطني للأعاصير" National Hurricane Center من إمكانية أن يكون ميلتون "أحد أقوى الأعاصير المدمرة في التاريخ المسجَّل في وسط غربي فلوريدا"، فيما ذكر الرئيس بايدن أن الالتزام بأوامر الإخلاء بصورة مناسبة، يعتبر "مسألة حياة أو موت". وحتى أن عمدة مقاطعة "لا تامبا"، جاين كاستور، ذكرت أن تلك العاصفة المحمَّلَة بمياه ارتفاعها 15 قدماً (4.5 متر)، قد تؤدي إلى غمر منازل بأكملها، وحذَّرت، "إن كنت فيها، فستكون تابوتك [ستلقى حتفك]".

وفي المقابل، على رغم الخطورة الواضحة والبيِّنَة بحدوث ضرر فعلي، يدأب أناس من أمثال غرين، على نشر مزاعم تصلح لصور الشرير في الكتب الكوميدية المصورَّة، وتتحدث عن آلات سرية تتحكم بالطقس، وقد امتلأت الإنترنت بالمعلومات المضللة عن الكارثة المقبلة. وزعمت حسابات كثيرة على منصة "إكس"/ "تويتر" أن مسؤولين فيدراليين وآخرين من ولاية فلوريدا، منعوا الناس من الوصول إلى المناطق الأشد تضرراً، وأن الحكومة توزع مؤن المساعدات على أساس الانتماء السياسي، والأمر كله مخطط معقد متكامل لفرض السيطرة على الأرض.

وحاز كثير من تلك التدوينات ملايين المشاهدات، ولم يُلغ سوى قلة منها، أو على وجه التحديد بقيت كلها. ولِم قد تزال فيما مالك تلك المنصة مندرج ضمن صفوف من ينشرون تلك المعلومات. ونعم، لقد شارك في تلك الهمروجة حتى إيلون ماسك الذي غرَّد بأن "الوكالة الفيدرالية لإدارة الطوارئ" Federal Emergency Management Agency ، اختصاراً "إف إي إم إيه" Fema ، سحبت أموالاً غزيرة مخصصة للمساعدة على مواجهة الإعصار، وأعطتها إلى المهاجرين غير الشرعيين.

 وذكر "الصليب الأحمر الأمريكي" أن نشر تلك المعلومات المضللة يلحق الضرر بجهود الإغاثة، معتبراً أنها "تؤذي الناس" و"تُخِلُّ بقدرتنا على تقديم مساعدات حيوية".

والآن، قد يحسب المرء بأن "نشر معلومات مغلوطة عن كارثة طبيعية أمر يحمل إمكانية التسبب بقتل مئات، وربما آلاف، من الناس. إنه شيء كريه، وقد يُعتبر اعتداءً جنائياً في نظر أي عاقل". ولكن، الحقيقة أنك مخطئ، ويجب أن تدرك أننا لا نعيش في عالَم عاقل. نعيش في عالَم لا يُكتفى فيه بالنظر إلى الاستهتار بحياة الآخرين باعتباره أمراً مقبولاً، بل يعتبر فعلياً نواة مركزية في إستراتيجية الحزب الجمهوري.

وفي تلك الأمور، يحوز ماسك سجلاً من اللامبالاة، ومواقف دعم في أحيان كثيرة، في سياق التزامه بـ"حرية التعبير المطلقة"، بمعنى اعتبار أن أي شكل من المعلومات المغلوطة ليس مؤذياً إلى حد أنه يستدعي ما يسمى "مراقبة" [تقييده]. وفي الآونة الأخيرة، شهدنا هنا، في المملكة المتحدة، مدى الأذية التي قد تنجم عن ذلك النمط من التفكير حينما ساعد في مفاقمة أعمال الشغب التي حدثت على يد اليمين المتطرف، وقد هددت مجتمعات عدة في طول البلاد وعرضها. وجاءت تلك المساعدة عبر تضخيم تدوينات كتبها محرِّضو اليمين المتطرف من أمثال تومي روبنسون، إضافة إلى تعليقات تتوقع "حتمية حدوث حرب أهلية".

ولا تروم الكلمات السابقة القول إن ماسك شرير بطريقة متعمدة، في تلك اللحظة بالتحديد. ولقد وضع استعمال نظام شركته "ستارلينك" في خدمة مناطق تأثَّرت بالطقس [المتطرف]. وهذا عمل صالح، بغض النظر عن وجهة نظرك حياله؛ علاوة على أنه يحمل في ثناياه إمكانية تقديم مساعدة فعلية للناس.

وفي المقابل، يصعب التغاضي عن القول إن ذلك الفعل الطيب يزيد الاستغراب من سعيه إلى تهديد حياة الآخرين. وكأننا أمام لسان حاله بالكلمات التالية "من فضلكم، استعملوا أقماري الصناعية المستقبلية لخدمة الناس قدر المستطاع. ولكن أتدرون أن الديمقراطيين قدموا إلى الغرباء كل المساعدات المخصصة للإغاثة من الإعصار".   

صدِّق أو لا تُصدِّق، مرّت أزمانٌ اعتُبِر فيها، حتى في صفوف اليمين، تصديق نظريات المؤامرة المنفلتة من أي عقال [المسترسلة] أمراً لا ينطبق إلا على مجموعات هامشية. وآنذاك، كان لأشياء مثل معارضة اللقاح، إنكار أزمة المناخ، وحديث الوطنيين البيض عن مسائل تشبه "نظرية الاستبدال العظيم"؛ أن تأتي من مجموعات تكون صغيرة في أفضل حالاتها، وتُضحي عرضة للسخرية أو يُشاح النظر عنها بصورة فورية.

[يعتبر مفهوم "الاستبدال العظيم" من أبرز نظريات المؤامرة في الغرب، خصوصاً أوروبا. ويفيد بوجود مخطط عالمي منظم لإغراق البلدان الغربية بالمهاجرين الملونين، وخاصة المسلمين، كي تستبدل أبناء الشعوب الغربية التي تسودها غالبية من أصحاب البشرة البيضاء والديانة المسيحية].

لسوء الحظ، لقد تحوَّلَت تلك المجموعات الهامشية إلى تيار رئيس بفضل صعود كاذبين من أمثال دونالد ترامب لا يعملون على التصدي لها، إضافة إلى إفلات الحبل على الغرب في مواقع مثل "إكس"/ "تويتر" المتفلتة من قيود القوانين المنظمة لعملها.

وعلى رغم ذلك، ثمة ما يثير حيرتي بالفعل حيال تلك الأمور كلها يتمثل في السؤال عن المكسب الفعلي فيها. ويميل اليمين كثيراً إلى تصديق نظريات المؤامرة، وكذلك بالتأكيد ترويج تلك النظريات التي قد تؤذيهم لكنها لا تؤدي إلا إلى الإضرار بأسس عيشك، حرفياً في غالب الأحيان.

ولقد رأينا ذلك أثناء جائحة كوفيد. إذ انساق الناس إلى إنكارها إلى حد أنهم لم يتخذوا إجراءات الوقاية الضرورية ضد المرض الذي أودى بكثير منهم. ومثلاً، دأب السيناتور الجمهوري هرمان كاين على التغريد بأن "كوفيد" خدعة، إلى أن قضى [بسببه]. وبصورة لافتة، استمر في الأمر نفسه بعد وفاته لأن الأشخاص الذين يديرون حسابه استمروا في ترويج المعلومات المضللة لفترة طويلة بعد وفاته. ولكَ أن تقول ما شئت، لكنهم ملتزمون بذلك الأمر.

وفي اللحظة الحالية، إن ولاية فلوريدا جمهورية إلى حد كبير. وحتى إن لم تُبالِ بالأرواح البشرية، فإنك سترغب، حتى من وجهة نظر سياسة باردة وإرادة صلبة، في المحافظة على الأصوات الاقتراعية الـ30 المخصصة لتلك الولاية، إلى أقصى حد ممكن؟ ويصعب فعل ذلك حينما تضع المصوِّتين في موهب الضرر مباشرة.

ولا يتعلق الأمر بنظريات المؤامرة وحدها، في نهاية الأمر. وإذا حاولتْ قتل أكبر عدد من المصوِّتين الجمهوريين في أسرع وقت ممكن، فلن تجد شيئاً أكثر كفاءة في ذلك من مواقف التيار الرئيس لسياسية الحزب الجمهوري. وكذلك تتغذى جائحة عنف السلاح، خصوصاً في الولايات الحمراء [الجمهورية]، من رفض الجمهوريين الثابت لقبول فكرة أن أداة صُنِعَت حصريّاً من أجل القتل، يجب أن تُقَيَّد بصورة أو أخرى. ويتعاملون مع الخدمات العامة والأطر التشريعية المنظمة لحمل السلاح وكأنها نوع من مخطط تآمري ينهض به شيوعيون. إن الولايات الجمهورية أشد فقراً وأقل تعليماً ومستويات الصحة فيها أدنى، واللافت في هذا الأمور أن أيّاً منها ليس بجديد.

واحتضان اليمين التفكير التآمري أمرٌ سيئ، لكنه بالفعل ليس سوى الشكل الأخير من استهتار الجمهوريين [مواقفهم غير المسؤولة وغير المبالية بالنتائج]. ولقد نأى الحزب الجمهوري بأكمله عن الحس البديهي، وحتى المعرفة الأساسية بقوانين السبب والنتيجة. لذا، يُفسَّر كل شيء باعتباره خطأ يرتكبه شخص آخر. وتذهب الأشياء كلها إلى الحد الأقصى المريع من نظريات المؤامرة، ويبذل كل شيء لمنع الجمهوريين من مواجهة الواقع.

ولسوء حظهم، يحل الواقع في نهاية المطاف بطريقة أو أخرى. وهم سيصطدمون بواقع الأمور الذي يوشك أن يضرب الساحل الشرقي ويصيبه بسرعة. ولكن هل سيدق ذلك ناقوس الخطر في وسط مُنكري أزمة المناخ، والمنادين بالحق المطلق في حرية التعبير، والأشخاص الذين يبحثون عن أية ذريعة من أجل شيطنة الديمقراطيين مهما كان الثمن. وأعتقد أن ما تقدم لن يغير في الأمر شيئاً على الإطلاق.


نقلاً عن إندبندنت عربية


 



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية