التقارير الحقوقية الدولية بين التوثيق والعجز عن وقف انتهاكات حقوق الإنسان في النزاعات المسلحة

التقارير الحقوقية الدولية بين التوثيق والعجز عن وقف انتهاكات حقوق الإنسان في النزاعات المسلحة
الحرب على غزة

منذ السابع من أكتوبر 2023، يشهد الشرق الأوسط موجة عنف مدمر يعاني خلالها المدنيون على جانبي النزاع في غزة وإسرائيل.

وقد أدى هذا الصراع إلى إراقة دماء الآلاف من الأبرياء، كما وثقت العديد من المنظمات الدولية، أبرزها مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان، انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان، حيث أصدرت تقريرًا مفصلًا حول الوضع الإنساني في غزة.

يرسم التقرير، الذي يغطي الفترة من نوفمبر 2023 إلى أبريل 2024، صورة قاتمة لما يحدث في القطاع من حصار خانق وهجمات عشوائية ضد المدنيين وتدمير للبنية التحتية. 

وتُشير الأدلة إلى أن هذه الأفعال قد ترقى إلى مستوى "الإبادة الجماعية" إذا استمرت في ظل غياب المحاسبة الدولية.

الأوضاع الإنسانية المتدهورة

ومن أبرز النقاط التي تناولها التقرير الحصار الإسرائيلي المفروض على غزة، والذي يعمّق من الأوضاع الإنسانية المتدهورة، حيث يحدّ من وصول الغذاء والدواء والمساعدات الإنسانية إلى ملايين السكان المحاصرين، ويُعدّ جريمة حرب بموجب القانون الدولي. 

وتحظر القوانين الدولية استخدام الحصار كأداة حرب خاصة إذا كان يهدف إلى إجبار المدنيين على الاستسلام أو يعرض حياتهم للخطر.

رغم الدعوات المتكررة من المجتمع الدولي لفتح المعابر الإنسانية وتوفير الإغاثة للمتضررين، تواصل السلطات الإسرائيلية تقييد وصول المساعدات، ما يزيد من حدة الأزمة الإنسانية في غزة، ووفقًا لتقرير الأمم المتحدة، أدى الحصار إلى نقص حاد في المواد الغذائية والمياه وتعطيل الرعاية الصحية، حيث تعاني المستشفيات من نقص في المعدات الطبية، وتعرض بعضها للقصف المباشر، مما يفاقم معاناة المصابين والجرحى.

الممارسات العسكرية الإسرائيلية

يسلط التقرير الضوء أيضًا على الممارسات العسكرية الإسرائيلية، بما في ذلك الهجمات الجوية والبرية على المناطق السكنية والبنية التحتية الحيوية مثل المدارس والمستشفيات، وتشير المعلومات إلى أن هذه الهجمات عشوائية في كثير من الحالات، ما يشكل انتهاكًا صارخًا للقوانين الدولية، وقد أسفرت الهجمات عن تدمير مئات المنازل، ومقتل العديد من النساء والأطفال، حيث تشير التقديرات إلى أن ما يقرب من 70% من الضحايا كانوا من المدنيين، معظمهم من النساء والأطفال.

ويشير التقرير إلى استخدام القوات الإسرائيلية أسلحة محرمة دوليًا، من بينها الفسفور الأبيض، ما تسبب في إصابات شديدة خاصة بين الأطفال، بالإضافة إلى استخدام القنابل العنقودية في المناطق المدنية، وهو انتهاك لاتفاقيات حظر الأسلحة، وهذه الأساليب تثير تساؤلات حول التزام إسرائيل بالقوانين الدولية وتُظهر تجاهلًا لحقوق الإنسان.

انتهاكات بعض الفصائل الفلسطينية 

تقرير الأمم المتحدة لا يقتصر على انتقاد إسرائيل، إذ يتطرق أيضًا إلى انتهاكات بعض الفصائل الفلسطينية المسلحة ضد المدنيين الإسرائيليين، مثل الهجمات على الأحياء السكنية واحتجاز الرهائن، ورغم أن هذه الأفعال تصنف كجرائم حرب، فإن التقرير ركز بشكل رئيسي على الانتهاكات الإسرائيلية نظرًا لحجمها وأثرها الكبير على المدنيين في غزة، ويظل تحقيق العدالة والمحاسبة لجميع الأطراف أمرًا أساسيًا.

كما أعرب التقرير عن قلقه من عدم تنفيذ محكمة العدل الدولية للأوامر المؤقتة التي طالبت إسرائيل بوقف الانتهاكات ضد المدنيين، وقد دعا مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان، فولكر تورك، إلى تنفيذ هذه القرارات فورًا، وجمع الأدلة الضرورية لتقديم المسؤولين للعدالة الدولية.

يشدد التقرير على الحاجة الملحة لتوفير المساعدات الإنسانية لسكان غزة، حيث أظهرت التقديرات أن نحو 80% من السكان في حاجة ماسة للمساعدات العاجلة، ويدعو التقرير المجتمع الدولي لفتح المعابر وتسهيل وصول المساعدات بشكل عاجل، في وقتٍ تستمر فيه الهجمات في تدمير المنشآت الطبية وتعقيد تقديم الرعاية الصحية للمصابين.

ورغم الأدلة على ارتكاب جرائم حرب، لم تتمكن محكمة العدل الدولية والأمم المتحدة من فرض عقوبات فعالة لوقف الانتهاكات، ما يطرح تساؤلات حول جدية المجتمع الدولي في تحقيق العدالة وفرض المحاسبة على الأطراف المتورطة.

ويرى حقوقيون أن النزاع في غزة كشف عن ضعف الآليات الدولية في حماية المدنيين وتطبيق القوانين الدولية بشكل فعّال. 

ويشدد تقرير مفوضية الأمم المتحدة على الحاجة إلى محاسبة دولية جادة لوقف هذه المأساة الإنسانية.

العدالة المفقودة

وفي هذا الصدد، صرح خبير حقوق الإنسان البحريني، عبدالله بن زوايدة، لـ"جسور بوست"، بأن تقرير مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان يقدم توثيقًا مهمًا للانتهاكات في النزاع، ويرى أن التقرير يُظهر التحديات الكبيرة المتعلقة بتطبيق القانون الدولي ومحاسبة مرتكبي الجرائم.

انتهاك مبدأ التمييز 

واعتبر بن زوايدة أن انتهاك مبدأ التمييز في الهجمات العسكرية هو إحدى القضايا الأساسية في التقرير، حيث يشير إلى ضرورة توجيه الهجمات نحو الأهداف العسكرية فقط، كما أشار إلى استخدام الأسلحة المحرمة دوليًا، مثل الفسفور الأبيض، في المناطق المدنية، ما يطرح تساؤلات حول التزام إسرائيل بالقوانين الدولية الإنسانية.

وأعرب عن قلقه بشأن عدم تنفيذ الدعوات المتكررة لمحكمة العدل الدولية ومحكمة الجنايات الدولية لمحاسبة المسؤولين عن هذه الجرائم، مضيفًا أن المجتمع الدولي يبدو عاجزًا عن فرض ضغوط كافية على الأطراف المتورطة في النزاع.

عقوبات غير فعالة

وأوضح بن زوايدة أن فرض العقوبات السياسية والعسكرية لم يكن فعّالًا، لافتًا إلى أن الدعم المستمر لإسرائيل من بعض الدول الكبرى يزيد من صعوبة فرض تدابير صارمة، وأشار إلى أن سكان غزة يعانون من حصار خانق وتدمير للبنية التحتية، ما يعكس إهمالًا لحقوقهم الأساسية.

واختتم بالقول إن أزمة المحاسبة تكمن في عدم التنفيذ الفعلي للقرارات الدولية، مما يترك المجال مفتوحًا للانتهاكات المستمرة، ويرى أن الوضع يتطلب تحولًا حقيقيًا في الآليات الدولية وضمان الإرادة السياسية لتحقيق العدالة وإنهاء دوامة العنف.

شهادات موثقة تواجه عوائق سياسية

بدوره، قال الخبير القانوني فهمي قناوي إن تقارير الأمم المتحدة، التي توثق الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي في النزاعات المسلحة، تلعب دورًا محوريًا في كشف المعاناة الإنسانية، لكنها غالبًا تفتقر إلى القدرة القانونية الملزمة لتحريك العدالة نحو محاسبة الجناة أو وقف الانتهاكات بشكل فعّال، وأكد قناوي أن دور هذه التقارير يبقى محدودًا، فهي تعد وسيلة ضغط دبلوماسية أكثر من كونها أداة قانونية فعّالة قادرة على فرض التزامات على الأطراف المتورطة.

وتابع قناوي في حديثه لـ"جسور بوست" أن تطبيق قرارات الأمم المتحدة يواجه صعوبات خاصة في النزاعات المعقدة كالنزاع الإسرائيلي الفلسطيني، إذ تعجز المنظمة عن فرض عقوبات مباشرة على المخالفين، ما يحد من قدرتها على وقف الانتهاكات، فالأمم المتحدة تعتمد على الضغط الدولي للامتثال للقانون الدولي، ولكن هذا الضغط يصطدم بعوائق سياسية، لا سيما عندما تكون هناك مصالح لقوى كبرى في عدم تفعيل هذه القرارات.

قيود قانونية وسياسية

وأشار قناوي إلى محدودية دور محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية في النزاعات المعقدة، فبعض الدول، مثل إسرائيل، لم تصادق على معاهدة روما، مما يمنع المحكمة الجنائية من ممارسة صلاحياتها في التحقيق والمساءلة، وبيّن قناوي أن تأثير الدبلوماسية السياسية يُلقي بظلاله على تقارير الأمم المتحدة، حيث تميل بعض الدول الكبرى، مثل الولايات المتحدة، إلى دعم إسرائيل سياسيًا وعسكريًا، ما يعرقل أي خطوة نحو المساءلة القانونية.

توثيق دون آليات تنفيذ

وأضاف قناوي أن الجانب الأكثر مأساوية في تقارير الأمم المتحدة هو استمرار الانتهاكات رغم توثيقها، إذ تظل الهجمات على المدنيين مستمرة حتى مع الإدانات الأممية، ما يكشف غياب الإرادة السياسية الدولية، وأكد قناوي أن الأمم المتحدة تسهم في توثيق الجرائم ولفت الانتباه إلى الفظائع، ولكن دون آليات تنفيذ فعلية على الأرض، تصبح هذه التقارير مجرد شهادات توثيقية.

وختم قناوي حديثه بالدعوة إلى تعزيز هذا التوثيق بآليات قانونية وسياسية فعّالة يمكن من خلالها فرض تنفيذ القانون الدولي، مؤكدًا أنه في غياب مثل هذه الآليات ستظل التقارير شهادات على انتهاكات بلا حساب، موجهًا دعوة لتحرك جدي نحو تطبيق فعلي للعدالة الدولية لضمان محاسبة المسؤولين.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية