عودة الروح.. «جسور بوست» يرصد حكايات العائدين من النزوح في لبنان

عودة الروح.. «جسور بوست» يرصد حكايات العائدين من النزوح في لبنان
نازحون في لبنان

فور إعلان الحكومة اللبنانية عن دخول وقف إطلاق النار حيز التنفيذ، اندفع آلاف اللبنانيين نحو مناطقهم في بيروت والبقاع وجنوب لبنان، حاملين معهم القليل من الأمتعة، والكثير من الشوق للقاء أحبتهم ومعانقة جدران منازلهم التي تركوها مكرهين منذ الـ8 من أكتوبر 2023. 

وزاد من هذا الحنين والشوق للعودة، حجم المعاناة التي عاشها النازحون خلال وجودهم في مراكز الإيواء التي فتحتها الحكومة لاستقبالهم، منذ صعّدت إسرائيل عدوانها على لبنان في سبتمبر الماضي. 

«جسور بوست» تحدثت إلى عدد من العائدين إلى قراهم ومناطقهم، في محاولة لفهم دوافعهم للعودة دون انتظار، ولتقييم تجربة النزوح التي مروا بها خلال الفترة الماضية.

وقالت فتاة تدعى، "ليان"، "أنا نزحت مع عائلتي من قرية في جنوب لبنان، وذهبنا إلى البقاع، كانت رحلتنا صعبة، في البقاع، استقبلنا الناس بكل احترام ومحبة، لكن بعد فترة، انتقلنا إلى مدرسة، وهناك لا أستطيع أن أقول إن الوضع كان سيئًا، لكنه لم يكن جيدًا أيضًا، إذ كان هناك نقص في الأيام الأولى، حيث لم تتوفر مساعدات كافية ولا فرش ولا أغطية، ولكن بشكل عام، لم يكن هناك تنظيم جيد، وفي وقت لاحق تحسنت الأمور قليلاً، ورغم كل شيء، كان النزوح والعيش بعيدًا عن البيت شيئًا غير مريح أبدًا".

وأضافت في حديث مع "جسور بوست"، "في ساعات الصباح، لم نصدق أن وقف إطلاق النار قد أعلن، فعدنا فورًا إلى قريتنا، لأن لا شيء يعادل الراحة في قريتنا، وإذا أردت أن أقيم تجربة الدولة في ملف النزوح، فأقول إنه كان هناك الكثير من الأخطاء، كما كانت هناك بعض الأمور الإيجابية، ولكن من الضروري أن تتعلم الدولة من تلك الأخطاء". 

والتقطت فتاة أخرى تدعى "آية"، طرف الحديث، قائلة "أنا نزحت من ضاحية بيروت خلال فترة الحرب، واستقريت مع عائلتي في مبنى مهجور. كانت تجربة النزوح سيئة للغاية، إذ تركنا منزلنا دون أن يكون معنا شيء، خاصة في الفترة الأولى، حيث كنا ننام جميعًا على الأرض دون فرش. ولم تقم الدولة بدورها معنا، بل كان الفضل الحقيقي للجمعيات التي وفرت لنا احتياجاتنا. ومع ذلك، كان هناك نقص كبير".

وتابعت في حديث مع "جسور بوست" فتقول "الحمد لله، عدنا إلى منازلنا، صحيح أن بيتنا قد تضرر، لكننا قادرون على إصلاحه في الأيام الجيدة والعودة للاستقرار فيه، فالشخص أينما ذهب، لا يجد أفضل من منزله، حيث كانت تجربة الحرب قاسية جدًا، ولم نتوقع أن تكون بهذه الصعوبة، وللأسف، لو كنا في دولة أخرى، لكان وضع الناس بالتأكيد أفضل، لأن هناك حكومات مسؤولة، أما في لبنان، فالدولة تسير بدون خطط وتنتظر مساعدات تصلها من الخارج".\

وفي السياق، قال شاب يدعى "عمر"، "أنا من قرية في الجنوب، وفي أواخر شهر سبتمبر بدأ القصف على قريتنا فجأة، فحملنا أمتعتنا ونزحنا نحو بيروت، بالطبع، كانت رحلة النزوح صعبة، حيث كان هناك عشرات الآلاف من السيارات في الشارع، جميعها نازحة نحو بيروت، بقينا نحو 15 ساعة في الطريق حتى وصلنا إلى منطقة في جبل لبنان، حيث كانت هناك مدرسة حولتها جمعية إلى مركز إيواء، فأقمنا فيها، وكانت معظم الأمور موفرة مقارنة مع مدارس أخرى كانت الدولة تديرها حسب ما علمت، كان كل شيء متوفرًا من طعام، وفرش، وخدمات طبية وغيرها".

وأضاف في حديث مع "جسور بوست"، "في النهاية، الإنسان لا يجد أفضل من بيته، لذلك، بمجرد أن أعلنوا عن وقف إطلاق النار، توجهنا فورًا إلى القرية، وكان الجميع في الطريق مشتاقًا للوصول إلى قراهم، لأن تجربة النزوح تبقى تجربة صعبة ومتعبة للناس، لم نصدق كيف وصلنا إلى بيتنا ورأيناه، والحمد لله، كان قد تعرض فقط لأضرار بسيطة، وتمكنا من الاستقرار فيه". 

أما مسعود، نازح من الجنوب ومقيم في صيدا، فقال "لن أعود قريبا إلى الجنوب، لأن وقف إطلاق النار قد ينهار في أي لحظة، مرارة النزوح لا تحتمل، خصوصا أن الإنسان وجد نفسه فجأة خارج منزله، ولكن يبقى الأمان أهم من أي شيء".

وتشير معلومات صحفية إلى أن عدد الوحدات السكنية المدمرة كليا بلغ نحو 46 ألف مسكن، في حين تعرضت 30 ألف وحدة لأضرار جزئية ما يجعلها آيلة للهدم، بينما تضرر 145 ألف منزل بشكل بسيط. 

ويسجل هذا الدمار الشديد في وقت يعمد الجيش الإسرائيلي إلى تدمير القرى في جنوب لبنان، حيث أشارت وسائل إعلام لبنان إلى أن أكثر من 37 بلدة تم تسويتها بالأرض. 

الجمعيات قامت بدورها

وفي السياق، قال أمين سر مؤسسة بدر، المحامي رضوان الأسير، إنه "مع دخول وقف إطلاق النار حيز التنفيذ، كان من الضروري تقييم تجربة مؤسستنا في التعامل مع أزمة النزوح، التي يمكن اعتبارها ناجحة بشكل عام رغم تسارع الأحداث وموجات النزوح الكبيرة وغير المتوقعة، فقد تمكنت المؤسسة من تقديم استجابة سريعة ومنسقة، من خلال تجهيزها مراكز الإيواء وتأمين الخدمات الأساسية لها، ما عكس مرونة وابتكارًا في تلبية الاحتياجات اليومية المتغيرة للنازحين".

 وتابع الأسير في حديث مع "جسور بوست"، أن "التحديات التي واجهتنا خلال هذه الأزمة تستدعي من الجميع، وخاصة الجهات الرسمية المختصة ومن خلفها القطاع الخاص، استخلاص الدروس من هذه التجربة ووضع أولويات وحلول شاملة للأزمات الطارئة، وفي مقدمة هذه الأولويات تأتي أهمية التخطيط المسبق، وتطوير بنية تحتية مستقلة ودائمة لمراكز الطوارئ، وتعزيز الشراكات الدولية والمحلية لضمان جاهزية فعالة لمواجهة أي أزمة مستقبلية، باعتقادنا أن هذه التجربة تشكل أساسًا متينًا يمكن البناء عليه لتعزيز الاستعداد، وتحسين القدرة على التعامل مع أزمات محتملة في المستقبل".

وقال إن "مؤسسة بدر" للنازحين قامت بتجهيز مركزين في بيروت في ثانويتي "عمر فروخ" و"عمر زعني" الرسميتين، إلى جانب دعم المؤسسة مركزين آخرين داخل العاصمة وثلاثة مراكز في منطقة عرمون وآخر في منطقة برجا، وشملت الخدمات الأساسية المقدمة تأمين فرش للنوم، ومستلزمات النظافة الشخصية، ومياه صالحة للشرب، ومازوت للطاقة الكهربائية، وأجهزة كهربائية مثل الغسالات والثلاجات ومواقد غاز، كما تكفلت المؤسسة وبالتعاون مع بلدية بيروت بتوفير وجبات غذائية يومية وأدوية للنازحين.

تجارب سابقة

وقالت مسؤولة العلاقات العامة في جمعية الإرشاد والإصلاح، نجوى نعماني، "لقد كان لدينا تجارب سابقة خلال أحداث مختلفة على مدى سنوات، ساعدتنا على الاستجابة بسرعة للأزمة والبدء بالإغاثة، مع تحديد المجالات التي سنعمل بها بوضوح. كما توفر لدينا فريق عمل موظف ومتطوع سريع وفعّال، وهكذا تمكنا من تقديم خدماتنا في معظم المناطق اللبنانية. واستطعنا أيضا بناء شراكات مع مؤسسات وجمعيات عاملة على الأرض، ترافق مع تغطية إعلامية مناسبة وفعالة".

وأما عن الثغرات فتوضح في حديث مع "جسور بوست أن "ضخامة النزوح الذي حدث خلال فترة زمنية قصيرة، وتنقّل المناطق المستهدفة، والتبدُّل السريع في الاحتياجات للنازحين، وضعف التقديمات من الدولة، وقلة التبرعات الداخلية والخارجية لاعتبارات مذهبية وسياسية، والمعاناة في تحصيل البيانات في مناطق معيّنة، كان من أبرز التحديات التي اختبرناها خلال أزمة النزوح".

وحول ما قدمته جمعية الإرشاد والإصلاح للنازحين خلال الحرب، كشفت نعماني أنه "منذ بدء إطلاق تهديدات العدو، أعدَّت الجمعية خطة استباقية في حال النزوح من المناطق المهدّدة، ومع بدء موجة النزوح أطلقت الجمعية حملة إغاثية عاجلة بعنوان "لبنان يناديكم"، وقامت باستقبال أول فوج من الوافدين إلى مدرسة العاملية في بيروت، وقدّمت لهم البطانيات ووجبات جافة سريعة".

وأضافت، "لم يقتصر عمل الجمعية على الدعم الغذائي والإيواء، بل اهتمَّت بالجانب الصحي، فسيَّرَت عيادة نقَّالة بمرافقة طبيب مختص، وعملت على تقديم المعاينات والأدوية المناسبة. وقد شملت أعمال الجمعية مراكز عدَّة في بيروت، وجبل لبنان، وطرابلس، وعكار، والبقاع (الفاكهة، وكامد اللوز)".

الدولة لن تترك الناس

من جانبه، قال مستشار رئيس لجنة الطوارئ، جواد سبيتي، إنه "لن يتم إخلاء الناس من مراكز الإيواء، فهناك أناس كثر فقدوا منازلهم، بل سيتم حصر الناس في عدد مراكز أقل، ولكن ذلك لن يتم مباشرة بالتأكيد".

وأضاف "سبيتي"، في حديث مع "جسور بوست"، "ستستمر لجنة الطوارئ التابعة للحكومة اللبنانية بتوزيع المساعدات على النازحين، على أن يتم توزيع المساعدات عليهم بما فيها مادة المازوت للتدفئة، ومن المفترض أن يتم تسليم موضوع المساعدات لبلديات القرى التي سيعود إليها النازحون".

يذكر أن عدد المراكز التي حولتها الدولة إلى مراكز للإيواء وصل إلى 1177 مركزاً من بينها 720 مؤسسة تعليمية رسمية وخاصة. حيث وصل 976 مركزاً إلى قدرته الاستيعابية القصوى.

المانحون لعبوا دوراً جوهرياً

وقال منسق الشؤون الإنسانية للأمم المتحدة في لبنان، عمران رضا، إنه "في حين يوفر وقف إطلاق النار هدنة مرحباً بها، فإن الاحتياجات الإنسانية تظل مذهلة"، موضحا أن الأمم المتحدة وأجهزتها سيواصلون "دعم الحكومة اللبنانية والشركاء من أجل محاولة مساعدة جميع السكان المتضررين -النازحين، أو الذين لجؤوا إلى ملاجئ جماعية، أو بقوا في المناطق المتضررة من الصراع- دون ترك أي شخص خلفهم".

وأضاف "رضا"، أنه لا يزال حجم الاحتياجات هائلاً، والدعم المستمر أمر بالغ الأهمية لمعالجة الأزمة الإنسانية المستمرة وتمهيد الطريق للتعافي"، لافتا إلى أن الوصول السريع والآمن وغير المقيد إلى جميع المناطق المتضررة أمر ضروري لاستدامة المساعدات المنقذة للحياة.. ويجب علينا معًا أن نعمل على مواجهة هذه التحديات الهائلة وإرساء الأساس لمستقبل مستقر. 

نواقص وثغرات

في تقييم للمرحلة السابقة، قال رئيس مبادرة "ابني" التي انطلقت خلال الحرب، محمود أبو قيس، إن "أبرز المشاكل التي واجهتهم هي غياب التنسيق، وهذا تلام عليه الدولة اللبنانية، إذ كان من اللازم إقامة مركز واحد لكل المناطق بحيث يتم احتضان كل الجمعيات فيه، وأما اللوم الآخر فيُلقى على الجمعيات، كونها لم تلعب دورا في بداية الأزمة لجهة تأمين الاحتياجات للنازحين في المراكز، فكانت الاحتياجات تؤمن من خلال مبادرات شخصية لأفراد".

وكشف أبو قيس في حديث مع "جسور بوست"، أن "بعض الجمعيات كانت تعطي على أسس معينة لمجموعات على حساب مجموعات أخرى كالتوجه السياسي أو الانتماء المناطق، فمثلا بعض المساعدات كانت تصل إلى أسماء محددة داخل مراكز الإيواء، وهذا عرّض كثيراً من النازحين المستحقين حقيقة للظلم".

ويعتقد أبو قيس أنه "كان على الدولة أن تضع ميزانية منذ بداية الحرب، على غرار ما فعلت بعض الجمعيات العربية والدولية، بالإضافة إلى وضع خطة نزوح فعالة.. فمثلا الدولة تأخرت كثيرا حتى تفتح بعض مراكز الإيواء، وبالتالي، كان من الواجب وضع خطة منذ أول يوم الحرب".

وقال "أبو قيس"، إن "الوضع السيئ في مراكز الإيواء دفع الكثير من الناس للعودة نحو قراهم التي تتعرض للقصف، كون أن ذلك يحفظ كرامتهم أكثر"، داعيا الدولة إلى البقاء على قيد الاستعداد لاستقبال النازحين مجددا، كون أن الحرب قد تعود في أي لحظة.

التعاون يذلل العقبات

ويرى المحامي والناشط الحقوقي، خالد الصباغ، أن خطة الحكومة منطقية وتتبع منهجية علمية إلى حد ما، ولكن عند تطبيقها على أرض الواقع نجد أنها غير فعالة، فمثلا، بعدما أعلنت الدولة في طرابلس عن تحويل أحد المعاهد التربوية إلى مركز إيواء، وجدنا أنه كان فيه ردم ويفتقد للكهرباء والمياه والفرش وغير ذلك، وعلى هذا الأساس، تم تجهيز المراكز من قبل الأهالي في المدينة وانضمت لاحقا الجمعيات والجهات الدولية، بمعنى آخر فان الدولة لم تكن جاهزة لوجستياً لمواجهة الأزمة".

وأضاف "الصباغ"، في حديث مع "جسور بوست"، "لم يكن هناك تنسيق بين الوزارات والإدارات المعنية كوزارتي التربية والشؤون الاجتماعية ومحافظة طرابلس ولجنة الطوارئ، أي أنه لولا اندفاع الأهالي والجمعيات للتأكد من أن النازحين يعيشون بشكل لائق في المراكز بشكل يتوافق مع أبسط حقوق الإنسان ويحفظ كرامتهم، ما كان ذلك ليتحقق من خلال خطة الطوارئ الموضوعة من قبل الدولة".

وتابع، "أن خطوات الدولة للتعامل مع أزمة النزوح لم تكن كافية، بل جاءت متأخرة، حيث إن الأزمة كانت تفوق توقعات الحكومة، فكانت بذلك الاستجابة بسيطة، ومع أن في لبنان مررنا بتجارب كثيرة (مثل الكوارث والأزمات)، فإن الدولة لم تستفد من الخبرات والتجارب السابقة".

وعن الخطوات التي يجب على الدولة اتخاذها للتعامل مع الأزمة القائمة، يرى الصباغ، أن "على الحكومة أن تضع يدها بيد الحركات مثل المجتمع المحلي والحركات التطوعية، بحيث يجب أن يكون هناك تعاون فعال مع تلك الحركات، في ظل غياب الموارد لدى الوزارات والبلديات، علماً أن هناك موارد لدى الجمعيات والهيئات، ولكن البيروقراطية في كيفية توزيع تلك المساعدات وكيفية دراسة احتياجات الناس، لا تعتبر آلية شاملة لجميع المناطق".

وأضاف، "نلحظ أن هناك نوعا من عدم تقبل رسمي لجهود بعض الجمعيات التي تقدم المساعدات، في وقت نجد أنه لدينا الكثير من الطاقات والمرافق التي لا تستخدم بالشكل الكافي".

وبحسب الأرقام الحكومية، فإن ما لا يقل عن مليون و400 لبناني من بينهم 300 ألف طفل، يعيشون اليوم ما بين مراكز إيواء فتحتها الدولة لاحتوائهم وأماكن أخرى جرى تجهيزها من قبل الأهالي والمنظمات الأهلية.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية