حُلم سكنه الإصرار وجسد قتله التعذيب.. حكاية مازن الحمّادة مع النظام السوري

حُلم سكنه الإصرار وجسد قتله التعذيب.. حكاية مازن الحمّادة مع النظام السوري
حكاية مازن الحمّادة مع نظام «الأسد»

كان العالم الخارجي يدق طبول الفرح؛ سقط نظام بشار الأسد وخرج المعتقلون من السجون، ورأى كثيرون أن دفء الحرية يغلف سوريا لأول مرة منذ عقود، إلّا أن مشرحة مستشفى حرستا كانت باردة، لا حركة فيها؛ فقط جثث مُكدسة تنتظر من يتعرف عليها. 

وقف فوزي الحمّادة بين الأموات ينتظر الطبيب ليُريه جثمان أخيه مازن، يُخبره القلب أن الشقيق الأصغر لم يمُت، ليس الآن بعد انتهاء الظُلم. 

فتح الطبيب الكيس كاشفا عن وجه وجسد لقيا صنوفا من التعذيب، اقترب فوزي متحاملا على الألم حتى وجد الشامة في حاجبه فتأكدت مخاوفه؛ مات مازن.

حكاية مازن الحمّادة مع النظام السوري طويلة؛ فيها كثير من الألم وقليل من الانتصار ومحاولات مستمرة لدفع الظلم.

مازن الحمادة

في حي الحميدية بمدينة دير الزور استقرت عائلة الحمّادة، ضمّت 16 ابنا وابنة. 

كان مازن أصغر الذكور فدللته الوالدة والوالد وتربّى في كنف الأخوة الأكبر سنا، كان للعائلة نشاط حقوقي منذ زمن بعيد، إذ انضم فوزي -الشقيق الأكبر- لأحد الأحزاب السياسية واعُتقل في سجن صيدنايا لأربع سنوات، وكان للأشقاء الآخرين آراء في التضييق الأمني الذي انتهجته السلطات السورية، أما مازن فكان له احتكاك مباشر مع السلطة قبل نشوب ثورة مارس 2011.

كان مازن يعمل في إحدى شركات النفط حينما قررت الإدارة تسريح عدد من العُمال دون وجه حق أو تعويضات عادلة، وقع الاختيار عليه ومجموعة أخرى ليتم إنهاء عقودهم فرفض الشاب العشريني وقتها الانصياع للأوامر وشجع زملاءه على المطالبة بحقهم "حتى إن الشركة هددتهم بإبلاغ الأمن" كما يروي الأخ الأكبر فوزي لـ"جسور بوست"، إلا أن مازن لم يتردد "كل زملائه تراجعوا، إلا هو رفع دعوى قضائية على الشركة"، حدث ذلك قبل ستة أشهر فقط من الثورة، وبعد عامين ربح القضية وحصل على تعويض مالي ضخم "وكأنها تجربة مصغرة يخوضها مازن قبل الأحداث الكبيرة".

وُلد مازن عام 1983، ورغم اتساع فرق العُمر بينه وأخيه فوزي الذي يبلغ الآن عامه الخامس والستين "لكن كنا أصدقاء وبنفس الوقت أنا أقرب لعمر والده"، لم يُخف الشقيق قلقه على مازن يوما "كنت دائما أنصحه ليكون حذرا إلا أني لم أطلب منه الابتعاد عن قول الحق"، ذلك ما حدث حين اندلعت تظاهرات مارس 2011.

ككل مناطق سوريا شاركت دير الزور في التظاهرات السلمية "كنا نجمع 25 شاب من الحي ونخرج نمشي ونتظاهر ييجي الأمن يفرقنا وبعدين نرجع نجمع عدد أكبر ونخرج وهكذا حتى خرجت دير الزور عن بكرة أبيها تطالب بإنهاء الظلم"، يتذكر فوزي كيف كانت سعادة مازن في تلك الأوقات؛ شهد بعينيه كيف ارتعد النظام من جموع الشعب، وفي المقابل تعلّم التصوير وبدأ يوثق ما يحدث، سجّل بعدسته الكثير وأنشأ مع زملائه منصة إعلامية لتسجيل يوميات الثورة.

يتذكر فوزي بمرارة كيف عاش السوريون أعواما طويلة من الأسى "كان كل مكان فيه عناصر أمن يقبضون على الناس دون وجه حق لدرجة إن في كل بناية سكنية يوجد عنصر أو اثنين منهم"، كان المواطن يعاني تدخل السلطة بكل شيء "يعني إذا أراد أحدهم الزواج يتم أخذ موافقة من الأمن أولا والكشف الأمني على عائلة العريس والعروس"، لذا عندما خرجت التظاهرات لم يتردد كثيرون في المشاركة "رغم علمهم أنهم سيُقتلون أو يتم القبض عليهم".

في الأيام الأولى للتظاهرات تم القبض على مازن، غير أنه لم يبقَ سوى عدة أيام قبل الإفراج عنه "بعدها سافر على دمشق ليعمل هناك في الإغاثة". بقي مازن في العاصمة لنحو عام، تعرف على أصدقاء جدد وركّز نشاطه على جمع المؤن الغذائية للمُدن السورية التي لا تصلها إمدادات، فيما لم يتوقف مازن عن توثيق ما رآه وقتها من مضايقات أمنية أو اعتداء على المدنيين "ويبدو أن العمل الإغاثي والتوثيق لم يُعجبا الأمن فتم القبض على مازن للمرة الثانية" كما يقول الشقيق الأكبر.

كان مازن يجلس في مقهى مع ابن أخته وابن أخيه ينتظران طبيبة يتعاونون معها لإيصال الحليب لأطفال مدينة درعا، ما إن جاءت السيدة وأخذت الحليب وذهبت حتى هجمت قوة أمنية على المكان وتم اعتقال مازن ومن معه ليغيبوا عدة أسابيع دون معلومات، وتبذل الأسرة ما في وسعها للبحث عنهم "وقتها عرفنا أنه تم اقتيادهم لسجن المزة العسكري"، كانت المعلومات شحيحة تصل من بعض شهود العيان الذين رأوهم بالداخل.

أربعة أشهر وأكثر مرت دون خبر يروي ظمأ الأسرة، وقتها كان خوف فوزي الأكبر على شقيقه بسبب علاقته بالثورة و"ضعف جسده.. كنت بقول كيف يا ربي مازن راح يصمد في هذا الجحيم بين التعذيب والجثث"، غير أنه كان موقنا أن أخيه مازن "حربوق كما نقول عنا بسوريا.. يعني ذكي وراح يقدر يتعامل". 

وفي الشهر الخامس استطاع ابن دير الزور أن يُقنع سجّانه بإجراء مكالمة تليفونية لأهله مقابل 25 ألف ليرة يحصل عليها عند ذهابه لعنوان الأسرة، يتذكر فوزي كيف جاء صوت مازن ضعيفا ذا حديث مقتضب "أخبرني عن التعذيب البشع الذي تعرض له وكيف كان على شفا الوفاة وتم نقله للمستشفى وأخبرني عن الجثث التي رُمي بينها في مراحيض السجن وأشياء أخرى مرعبة"، لكن القلب اطمئن قليلا أنه ما زال على قيد الحياة، حتى إنه طمأنه أيضا أن ابني شقيقه وشقيقته بخير لكنهما في قسم آخر.
 

جرافيتي للناشط السوري مازن الحمادة

عامٌ انقضى ومازن بداخل السجن، لا وسيلة تواصل مع الأهل إلا نادرا في مقابل أموال يدفعونها للسجّان "في تلك الفترة أخبرنا مازن إنه إذا دفعنا 200 ألف ليرة للعناصر الأمنية داخل السجن سيتم تحويل قضيته إلى قاضٍ مدني لا عسكري"، إذ كان التحويل للأخير يعني البقاء في السجن للأبد بسبب قضية إرهاب ملفقة أو الموت تعذيبا، جمعت الأسرة المبلغ وتم دفعه وتمت الإحالة لمحكمة مدنية حكمت ببراءة مازن من تُهمة حمل السلاح فتم إطلاق سراحه، بينما بقي الشابان بالداخل.

لم يعد ابن دير الزور كما كان، "كنت بقول هاي الروح شنو قدرت تتحمل ما يقرب من عامين داخل السجن.. لذا لما خرج كان بالفعل صامت طول الوقت ونفسيا غير متوازن"، رغم كل شيء لم يُخف فوزي إعجابه بأخيه الأصغر، فما إن استفاق الشاب قليلا مما حدث حتى أخبر فوزي أنه يريد السفر للخارج "كي يتحدث عما رآه وعاناه"، وفي نهاية عام 2014 بدأ مازن رحلته الثانية بحثا عن مستقر آمن و"أمل إنه ممكن يغير شيء في العالم".

في تركيا ثم اليونان وأخيرا هولندا أقام مازن حيث تعيش إحدى شقيقاته وبعض أصدقائه من الوطن، عزم صاحب الواحد وثلاثين عاما على نشر الفظائع كما يروي أخيه، لذا لم يترك قناة تلفزيونية أو مناسبة عامة إلا وأدلى فيها بشهادته، ضمنها منظمات مدنية عالمية كالعفو الدولية وهيومان رايتس ووتش، وتوسعت محاولاته حتى طُلب للشهادة أمام الكونغرس الأمريكي "وبالفعل ذهب لهناك وأدلى بما حدث مع ناشطين آخرين من سوريا".

في تلك الأثناء كانت أسرة مازن قد تفرقت "بعضنا بقي داخل مناطق نفوذ النظام وجزء منا هرب لخارج البلاد والباقون في أماكن سيطرة الجيش الحر"، ورغم التهديدات لم تنقطع لعائلة مازن الموجودين داخل الوطن "إلا أن النظام السوري كان مرتبكا فلم يتم القبض على أحد منا إلا أخي عبدالعزيز وبقي ابن أختي وابن أخي داخل السجن" كما يقول فوزي.

ظنّ مازن أن قضية المعتقلين وصلت إلى العالم "كان كتير متحمس للشهادات وإنه كيف يمكن الضغط بها على نظام بشار ليفرج عن المحبوسين ظلما"، غير أن الأخ الأكبر أخبره "أن الحكومات الغربية لها مصالح أيضا مع بشار الأسد ولن تقلب الكون من أجل الشعب السوري". 

تمسك مازن بما يفعل فيما لم يخف عن المقربين منه ما ألمّ به من اكتئاب عميق.

الناشط السوري مازن الحمادة


"أختي تحدثت معي بوقتها كتير إنه مازن كان صامت طول الوقت وكانت تدخل عليه الغرفة تلاقيه جالس في وضعية الجنين على الأرض وممكن يظل هيك لساعات"، حاولت الشقيقة إخراجه مما هو فيه، اقترحت عليه البحث عن عمل غير أنه لم يستجب "كان ما يأكل إلا قليل القليل"، تحدث فوزي معه عبر الهاتف عدة مرات "فقال لي والله يا أخوي أنا عايش حالة يأس.. ما حدث شيء وما فيه معتقل واحد حتى طلع"، طلب منه الأخ الأكبر الذهاب لطبيب نفسي والنظر لما فعله بعين الفخر "على الأقل هو حكى ما حدث بالداخل"، فيما وعده مازن بأن ينفض عن جسده القنوط.

عقب عدة أيام اتصل ابن شقيق فوزي المُقيم في ألمانيا "قالي عمو مازن عندي وحالته مش أفضل شيء"، تحدث الشقيق الأكبر مع مازن عبر الهاتف للمرة الثانية، دون مقدمات قال مازن "أخوي، أنا يئست من هذه الحياة وبدي أرجع على سوريا.. بدي أعيش بدير الزور وأمارس هواية الصيد مثل ما كنت"، صَمَت فوزي لثوانٍ ثم قال "هل أنت مدرك لما تقول؟ أنت لو رجعت على سوريا حياتك هتنتهي"، أغلق الشقيقان الخط على وعد باتصال آخر، لكن ذلك لم يحدث.

ثمة حلقة مفقودة في غياب مازن قبل عودته لسوريا عام 2020، ما يعرفه فوزي على وجه التأكيد أن الشقيق الأصغر ذهب للسفارة السورية في ألمانيا وهناك تمت مساومته على العودة "بعض أصدقائه قالوا مقابل إعطائه الأمان وآخرون قالوا تم تهديده بأذى عائلته"، وفي الحالتين "مازن كان عازم على الرجوع بعدما أصابه الاكتئاب" كما يقول شقيقه.

لم يخرج مازن من ألمانيا باسمه الحقيقي "تم استصدار جواز بهوية مختلفة له من السفارة لأنه كان لاجئا سياسيا ممنوع أن يخرج من أوروبا"، في الثانية ونصف صباحا من أحد أيام عام 2020 اتصل مازن بشقيقته في سوريا "قال لها أنا بمطار دمشق ومحتاج 400 دولار ياريت تجيبيهم وتيجي"، لم يكن لدى الأخت عُملة أجنبية فأخبرته أنها ستحضر الأموال ولكن بالليرة السورية وستأتي في الصباح الباكر لأنها لا تستطيع القيادة بمفردها ليلا، وحينما وصلت المطار في السادسة صباحا لم تجد مازن "قالولها إجت دورية من المخابرات الجوية وأخدته"، كان ذلك التواصل الأخير المباشر بين مازن وعائلته.

خلال السنوات الأربع اللاحقة مر فوزي بالكثير، لكنه ما يئس أبدا أن يقابل أخويه مازن وعبدالعزيز اللذين صارا تحت رحمة عناصر الأمن ولا أخبار عنهما "آخر شيء وصلنا عن مازن من أحد الشباب اللي كانوا معه وخرج إنه تعذب كثيرا ليظهر على التلفزيون ويتراجع عما حكاه لكن مازن رفض"، عشش الحزن في بيوت عائلة الحمادة "يعني احنا عيلتنا بين قتيل في الثورة ومعتقلين وبقيتنا ظل مُطاردا لسنوات حتى بدأت هيئة تحرير الشام في الزحف نحو دمشق.. وقتها شعرنا أنه ربما هناك أمل لنرى ذوينا مرة أخرى".

في 27 نوفمبر الماضي قادت هيئة تحرير الشام عمليات عسكرية ضد ما قالت عنه “القوات السورية والميليشيات الإيرانية”، واستمرت المعارك والزحف لـ11 يوما وانتهت صباح الثامن من ديسمبر حين أعلنت الهيئة بقيادة أحمد الشرع "السيطرة على دمشق وإسقاط الأسد"، وفي خضم تسارع الأحداث تم الإفراج عمّا يقارب 24 ألفا من المعتقلين من أصل 136 ألف معتقل ومختفٍ قسريا، طبقا للشبكة السورية لحقوق الإنسان، غير أنه حتى الآن لم يُعرف مصير ما يقارب من 112 ألف شخص بعد إفراغ السجون.

تابع فوزي الأحداث لحظة بعد أخرى، ترقب وخاف وشعر بالأمل حين فُتحت السجون، لكن الحقيقة كانت مفزعة؛ ففي وقت متأخر من يوم التاسع من ديسمبر وصلت صورة على هاتفه، فتحها ليجد لقطة مقربة لوجه أخيه مازن أصابه التشوه بسبب التعذيب فيما فارق الحياة، مر الليل على فوزي كأنه عام، وفي السابعة صباحا ذهب مشياً إلى مشفى المجتهد بدمشق "قيل لي إنه ربما يكون هناك"، ابتهل بداخله أن تكون الصورة مفبركة وحين وصل المستشفى أخذه طبيب على غرفة الجثامين ليتعرف على مازن ويثبت كابوس وفاته.

 

نعي الناشط السوري مازن الحمادة


شريط سريع مرّ داخل عقل فوزي "كيف رأيته يكبر أمامي وكيف كنا نتحدث سوياً وكيف كنت أخاف عليه.. شفت عمره اللي ما لحق يعيشه ويتهنى فيه كله أمامي"، تمالك الشقيق نفسه وسأل عن سبب الوفاة، ليخبره الطبيب أن مازن أصُيب بكدمات وصدمات شديدة متفرقة بجسده كما تم كسر عظام يديه وقدميه وانتُزعت طبقات من جلده كما كُسرت أنفه "طلبت من الدكتور تقرير طب شرعي لكنه قاللي إنه لا يوجد نائب عام وبالتالي لن يتم التوقيع على التقرير بصفة رسمية"، أدار فوزي ظهره ليخرج ثم سأل الطبيب فجأة "متى انقتل يا دكتور؟"، ليجيبه الأخير: "منذ أقل من أسبوع، الجثة ليست متيبسة".

لا يعرف فوزي أيهما يبكي؛ أخاه الأصغر أم طريقة قتله "يعني لو اللي عذبه كان فقط أطلق عليه رصاصة كان أفضل كتير"، وخرج صاحب الـ65 عاما من المشفى مقهورا "بس قررت إنه بعمل جنازة في دمشق تليق بمازن"، وخلال يومين تم تحضير كل شيء لتخرج مسيرة مهيبة من المشفى يصل عدد الحضور فيها إلى 10 آلاف شخص يشيعون جثمان الفقيد الذي لُف نعشه بعلم سوريا وسارت به الجموع ثلاثة كيلومترات "ربما لو كان النظام موجودا لما رأينا حتى جثة مازن".

جنازة الناشط السوري مازن الحمادة

يتنفس فوزي الآن هواء نقيا -كما يقول- للمرة الأولى منذ ستين عاما "ما عاد الواحد يخاف يمشي في الشارع"، إلا أن قلبه مليء بالجراح؛ فبعد فتح السجون أخبر أحد الذين تم تحريرهم فوزي أنه رأى أخيه الآخر عبدالعزيز داخل سجن فرع فلسطين بدمشق وأنه عُذب أمامه مرارا "وكانت جراحه في حالة إنتان شديدة"، وفي إحدى الليالي حينما اشتد التعب أخبره عبدالعزيز باسمه الكامل ومن أي مدينة هو كي يُخبر عائلته إذا خرج، ومات في الليلة نفسها.

وحين يرى فوزي العائلات التي اجتمع شملها يبتسم ويتذكر بحسرة أخاه مازن "كان بالتأكيد سيرقص طربا بما حدث، حتى لو كان لدينا تخوفات من القادم، وكان سيستكمل طريقه في النشاط الخدمي والمدني ويعود لعمله ويعيش حياة هادئة"، لو عاد الزمن بفوزي لربما ضمّ أخاه إلى حضنه وقضى معه وقتا أطول لكنه لم يكن ليُثنيه عمّا فعل "مازن واللي متله راحوا عشان احنا نعيش بسلام.. هو عاش بطل وسيظل في قلوبنا بطل".

 



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية