خالدة جرار.. أيقونة فلسطينية صامدة رغم استهدافها بـ«القتل البطيء»
ضمن المفرج عنهم بصفقة تبادل الأسرى
بيدين مكبلتين ورأس مرفوع، حفرت المناضلة الفلسطينية خالدة جرار، حروف اسمها بين رموز الشجاعة والإصرار في الأراضي الفلسطينية، بعد مأساة قضتها في زنزانة انفرادية حرمت فيها من أدنى مقومات الحياة، بينما تزايدت وجيعتها بفقدانها ابنتها في السجن وحرمانها من توديعها في أيامها الأخيرة.
وخالدة جرار، البالغة (62 عاما) هي سياسية فلسطينية بارزة وناشطة في مجال حقوق الإنسان، وعضوة في المكتب السياسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ومثّلت الجبهة كنائبة في المجلس التشريعي الفلسطيني، وتُعرف بدفاعها المستمر عن حقوق الأسرى الفلسطينيين، وترأست سابقًا مؤسسة الضمير لرعاية الأسير وحقوق الإنسان.
والجمعة، أفادت إذاعة الجيش الإسرائيلي، بأن خالدة جرار سيتم الإفراج عنها ضمن المرحلة الأولى من صفقة التبادل بين إسرائيل وحركة “حماس”.
واعتقلت خالدة في 26 ديسمبر 2023 من منزلها في مدينة رام الله وسط الضفة الغربية، وجرى تحويلها إلى الاعتقال الإداري (من دون تهمة)، وصدر بحقها أمر اعتقال إداري، ثم جرى عزلها بشكل انفرادي كنوع من العقاب.
وبعبارات تحمل أطنانا من الوجع، وصفت خالدة حالتها أثناء الاعتقال لمحاميتها قائلة: "أنا أموت يوميًا، فالزنزانة أشبه بعلبة صغيرة مغلقة لا يدخلها الهواء، لا يوجد سوى مرحاض وشباك صغير تم إغلاقه بعد نقلي بيوم واحد، لا متنفس لي سوى فتحة صغيرة أجلس بجانبها لأتنفس بصعوبة، أنا أختنق في زنزانتي، وكل ما أتمناه هو أن تمر الساعات لأجد جزيئات هواء أتمكن من خلالها البقاء على قيد الحياة".
وإمعانا في المأساة ومضاعفة قسوة الاعتقال، أضافت خالدة: "لقد وضعوني في فرن على أعلى درجة حرارة، لا أستطيع النوم، ومع ذلك، لم يكتفوا بحرماني من الهواء، بل قطعوا عني الماء، حتى عندما أطلب قنينة ماء، يحضرونها بعد أربع ساعات على الأقل".
لكن ثمة معاناة لا تصل إليها المواساة ولا يمكن نسيانها في رحلة نضال خالدة جرار، حيث فقدت ابنتها أثناء الاعتقال، ولم تقو على توديعها في أيامها الأخيرة، إذ لم تسمح السلطات الإسرائيلية لها بأن تكون بجانبها في آخر لحظات حياتها وحرمت من هذا الحق، لتزداد قسوة الاعتقال وتنقض عليها الأوجاع النفسية والإنسانية في لحظة فارقة.
ودعت العديد من المراكز والمنظمات الحقوقية الفلسطينية والدولية إلى "تدخل حقوقي ودولي عاجل لإنقاذ حياة الأسيرة القيادية خالدة جرار، وكل الأسرى في سجون إسرائيل"، غير أن شيئا لم يحدث واستمر الجيش الإسرائيلي في اعتقال آلاف الفلسطينيين منذ بدء العدوان على قطاع غزة في 7 أكتوبر 2023.
وقبل الإعلان عن الإفراج عنها، كانت سلطات إسرائيل أعلنت تجديد العزل الانفرادي للأسيرة خالدة جرار حتى 22 يناير الجاري، في استهداف مباشر للمناضلة الفلسطينية التي لم تتوقف مقاومتها أمام كافة التحديات، في إطار سياسة قمعية تهدف لتحطيم روح المقاومة الفلسطينية.
الميلاد والنشأة
ولدت خالدة جرار في 9 فبراير عام 1963 بمدينة نابلس، وهي متزوجة من غسان جرار رجل الأعمال الذي خاض تجربة طويلة في الاعتقال الإداري والتحقيق والإبعاد، ولها ابنتان هما يافا (28 عاما)، وسهى (24 عاما) وكانتا تقيمان في كندا، لكن سهى توفيت عام 2021.
وخالدة حاصلة على الماجستير في العلوم السياسية من جامعة بير زيت في فلسطين، وكرست اهتمامها بقضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية، مع تركيز خاص على قضايا الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية.
وتُعتبر خالدة جرار رمزًا للنضال الفلسطيني، حيث اعتقلتها القوات الإسرائيلية في أبريل 2015 لتقضي 15 شهرا، قبل أن يتم اعتقالها مجددا في صيف 2017 لتقضي نحو 4 سنوات تعرضت خلالها لحملة قمع وتنكيل ممنهجة تهدد حياتها، وفاقم مرارة معاناتها وفاة والدها وحرمانها من وداعه وهي في السجن.
وعانت المناضلة الفلسطينية في سجون إسرائيل من احتشاء في الأنسجة الدماغية نتيجة قصور التزويد بالدم الناتج عن تخثر الأوعية الدموية وارتفاع في الكولسترول، وكانت قد نقلت أكثر من مرة للمستشفى بسبب تلك الأعراض، كما تسببت عملية نقلها من السجن إلى المحكمة أو المستشفى في تفاقم معاناتها، إذ تستغرق عملية النقل من السجن إلى المحكمة ثم العودة للسجن عادة حوالي 16 ساعة في ظروف غير إنسانية.
وخلال تجربة اعتقالها الأخيرة، فإن إدارة السجون وضعت خالدة جرار في غرفة متسخة مليئة بالحشرات دون تحقيق، قبل أن تنقلها إلى العزل في سجن "نيفي تيرتسيا"، حيث تم إخبارها أنها ممنوعة من لقاء المحامي عند وصولها للعزل، وأنها لن تعلم سبب وجودها في العزل أو مدة بقائها فيه، بحسب مؤسسة الضمير لرعاية الأسير وحقوق الإنسان (غير حكومي).
وتم وضع خالدة في زنزانة عزل صغيرة جدًا؛ حجمها 2×1.5 متر، حيث لا يوجد في الزنزانة سوى غطاء، وهناك حمام صغير جدًا، وهي مغلقة تمامًا بدون نافذة للتهوية، علمًا أن إدارة السجن قامت بإغلاق الفتحات الصغيرة التي كانت موجودة على شباك المرحاض وهي الوحيدة التي كانت تُدخل الهواء إلى الزنزانة، مع عدم منحها كميات مناسبة من المياه والغذاء رغم معاناتها من مشاكل صحية.
ورغم كافة الممارسات القاسية بحقها، ظلت خالدة بكل عزيمتها، رمزا للمقاومة الفلسطينية التي لا تنكسر، وشعلة أمل ونضال في قلب فلسطين، رغم كل محاولات إسرائيل لثنيها عن مقاومتها، إذ كانت معاناتها شاهدة على الإصرار الفلسطيني على الحياة والكرامة الإنسانية والجراح المفتوحة في قلوب النساء المناضلات.
مسيرة الكفاح
شغلت خالدة جرار العديد من المناصب في مؤسسات المجتمع المدني، وكانت عضوة في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وانتُخِبَت كنائبة في المجلس التشريعي عام 2006، وهي أيضا الممثلة الفلسطينية في مجلس أوروبا وحاليًا رئيسة لجنة الأسرى في المجلس التشريعي الفلسطيني، ولعبت دورًا رئيسيًا في طلب فلسطين للانضمام إلى المحكمة الجنائية الدولية.
وكانت خالدة ناشطة في مجال حقوق الإنسان لسنوات عديدة، إذ بدأ أول اعتقال لها من بين عدة اعتقالات في مارس 1989 عندما اعتُقلت لمشاركتها في مظاهرة في اليوم العالمي للمرأة.
وشغلت منصب مديرة مؤسسة الضمير (منظمة غير حكومية لدعم الأسرى وحقوق الإنسان في رام الله)، كما عملت سابقًا مع "الأونروا" وكانت نشطة بشكل بارز في العمل مع النساء الفلسطينيات والدعوة لحقوق المرأة.
ومنذ عام 1998، مُنعت جرار من السفر خارج الأراضي الفلسطينية، بعد حضورها مؤتمر المدافعين عن حقوق الإنسان في باريس في ذلك العام، ورفضت السلطات الإسرائيلية السماح لها بمغادرة البلاد لحضور مؤتمر حقوق الإنسان في أيرلندا، ليتم منعها قسرا من المشاركة في المؤتمرات الحقوقية الدولية.
ولا تزال صورة خالدة جرار، وهي تجلس منكسة الرأس غارقة في الأحزان والدموع أمام قبر ابنتها سهى في الضفة الغربية، والذي زارته عقب يوم من الإفراج عنها من سجن إسرائيلي في سبتمبر 2021، شاهدا على قسوة معاناة الأمهات الفلسطينيات وصمودهن أمام الجرائم الإسرائيلية.
وكانت منظمات غير حكومية فلسطينية قد طلبت من السلطات الإسرائيلية إطلاق سراح خالدة جرار مؤقتا للسماح لها بحضور جنازة ابنتها، لكن الطلب قوبل بالرفض.
وفي 17 يناير الجاري، أعلنت وسائل إعلام إسرائيلية أن خالدة جرار وضعت ضمن قائمة الأسرى الذين ستشملهم صفقة التبادل التي ينص عليها اتفاق لوقف إطلاق النار بين حركة المقاومة الإسلامية (حماس) وإسرائيل بوساطة قطرية أمريكية مصرية.