مشروع العفو العام في لبنان.. هل يكون حلاً إنسانياً أم تهديداً للعدالة؟
في ظل اكتظاظ السجون وتأجيل المحاكمات
يشهد لبنان جدلًا واسعًا حول مشروع العفو العام عن السجناء، حيث تتداخل الأبعاد الإنسانية والقانونية والسياسية في نقاشات حادة، هذا الملف الشائك يطرح أسئلة عميقة حول كيفية تحقيق العدالة وتخفيف معاناة السجناء وأسرهم دون المساس بحقوق الضحايا أو تقويض ثقة المجتمع بالقضاء.
وأظهرت استطلاعات رأي أجرتها منصة "جسور بوست" على عينة عشوائية من المواطنين اللبنانيين (20-56 عامًا) مواقف متباينة، فقد أيّد 92.3% العفو العام، فيما عارضه 7.7%، لكن هذا التأييد لا يعني الموافقة على شمول العفو لكل السجناء، حيث عبّر 69.23% عن رفضهم لهذا الطرح، بينما رأى 30.77% ضرورة أن يشمل الجميع.
وتباينت الآراء أيضًا حول مسألة شمول قتلة عناصر في الجيش اللبناني بالعفو، حيث أيد 61.6% ذلك، وعارضه 38.4%.
وقال أحد المستطلعين: "أنا مع العفو العام، ولكن بشروط واضحة، فالدولة يجب أن تُسرّع المحاكمات، وكل متهم يُثبت تورطه يجب أن يُحاسب".
وطالب آخر بمحاكمات عادلة لكل من ارتكب جرائم بحق الدولة والمجتمع، مشيرًا إلى أن الظلم المستمر يفاقم الأزمة.
صرخات السجناء
السجناء أنفسهم يرفعون الصوت من داخل زنازينهم، حيث وصف أحدهم معاناته الممتدة على مدار 16 عامًا دون محاكمة أو قرار اتهامي، قائلا: "الوضع الحياتي في السجن مأساوي، وكل شيء يدفع ثمنه السجين وأسرته، من الطعام إلى الطبابة وحتى أبسط الاحتياجات".
وأكد السجين أن الإضرابات القضائية تزيد من معاناتهم النفسية وتؤخر البت في قضاياهم، مشددًا على أن الحل يكمن في إقرار عفو عام شامل أو إسقاط التهم الموجهة ضدهم.
وأضاف: "نحن ندعو الدولة لرفع الظلم عنا وإنهاء هذا الجحيم الذي نعانيه نحن وأسرنا".
معاناة بلا حدود
من جانبه، أكّد منسق لجنة أهالي الموقوفين في لبنان محمود أبو عيد لـ"جسور بوست"، وجود تجاوزات صارخة بحق الموقوفين، لافتًا إلى أن بعضهم يقبع في السجون منذ أكثر من 15 عامًا دون صدور أي قرار اتهامي بحقهم.
وأشار أبو عيد، إلى أن الظروف الإقليمية، خاصة ما يتعلق بسوريا، تستدعي مراجعة ملفات الموقوفين، مشيرًا إلى اتهامات بالإرهاب استندت إلى مواقف سياسية.
وطالب أبو عيد الرؤساء الثلاثة في لبنان بالإسراع في إقرار العفو العام كحل إنساني ووطني، مؤكدًا أن “التجاهل المستمر لمطالب الأهالي والسجناء سيؤدي إلى تصعيد التحركات الاحتجاجية داخل السجون وخارجها”.
بين الأمل والرفض
ورغم الزخم الشعبي المطالب بالعفو العام، يواجه المشروع معارضة شديدة من أهالي عناصر الجيش اللبناني الذين قتلوا في مواجهات مع مسلحين، حيث أكدوا رفضهم المطلق لأي عفو يشمل قتلة أبنائهم، مطالبين بإنزال أقسى العقوبات بحقهم.
وأوضح عضو لجنة الإدارة والعدل في البرلمان اللبناني، النائب بلال العبد الله، أن "ملف العفو العام لا يزال يراوح مكانه، إذ إن جميع المحاولات السابقة لمعالجة هذا الموضوع قد اصطدمت بالحائط الطائفي والمناطقي، وذلك لأن موضوع العفو العام -إن كان لنا أن نصفه كذلك- ليس نفس العفو العام الذي كان مطروحا، ولم يشق طريقه رغم كل الجهود التي بذلت خلال الدورة السابقة للمجلس النيابي".
وتابع عبدالله في حديث مع "جسور بوست"، "في الوقت الحاضر، من المؤكد أن هناك آراء متعددة حول هذا الملف، إضافةً إلى وجود مقترحات قوانين عدة، إلا أنه حتى الآن، لم يُدرَج أي اقتراح قانون ضمن جدول أعمال اللجان النيابية المختصة".
ويفصل عبدالله شكل العفو الممكن إقراره، قائلا: "لا يمكننا التحدث عن إصدار عفو عام يشمل جميع السجناء، إذ إن هناك مجرمين وقتلة وإرهابيين، وغيرهم من أصحاب الجرائم الخطيرة. ومن المؤكد أنه لا ينبغي أن يشمل العفو جميع المساجين دون تمييز".
وأضاف: أن "جميع الاقتراحات التي قُدّمت تستثني العديد من الحالات، مثل الإرهاب، والقتل، والجرائم الخطرة، والتجسس.. لذلك نحن في (كتلة اللقاء الديمقراطي)، تقدمنا باقتراح قانون، ولكن لم نسمِّه عفوًا عامًا، بل كان اقتراحًا يتناول مسألة غير المحكومين.. وهم يشكلون الأغلبية داخل السجون، إذ تتجاوز نسبتهم 80%.. ومن المتوقع أن يكون للاقتراح أثر إيجابي على أهاليهم، لا سيما أن كثيرين منهم تعرضوا للظلم، إذ تم سجنهم بناءً على وثيقة أو إخبار، أو حتى بسبب منشورات على مواقع التواصل الاجتماعي".
وكشف عبدالله، أن الاقتراح يتضمن "تعديل بعض مواد القانون، مثل المادة 118، وربما بنود أخرى، وسنتكامل مع كل القوى السياسية والكتل المعنية لمناقشة هذا الملف، نظرًا لتعقيداته، كونه أنه غالبا ما يأخذ أبعادا سياسية أو طائفية عندما يطرح".
وأضاف: "لا نعني من خلال هذا الطرح، الأشخاص الذين تورطوا في أعمال إرهابية أو الذين استهدفوا عناصر الجيش أو المؤسسات الأمنية".
وشهد لبنان في العقود الأخيرة عفوين اثنين. عفو عام 1991 عن الجرائم المرتكبة قبل شهر مارس من ذلك العام، وعفو آخر عام 2005 شمل رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع وعددا من الموقوفين الإسلاميين آنذاك.
وتقدم كل من نواب "كتلة الاعتدال الوطني" بالتعاون مع النائب الحوت، مشروع قانون للبرلمان بداية العام الحالي، بهدف منح العفو عام وتخفيض بعض العقوبات بشكل استثنائي. ويأتي هذا الاقتراح ضمن الاقتراحات المتعددة المقدمة في هذا الإطار.
حلول أخرى
ترى المحامية مي صبحي الخنساء، أن "قانون العفو الذي يطالب به السجناء هو حاجة ملحة وليس رفاهية أو تفلتا من العقاب كما يعتقد البعض، لا سيما أن السلطة القضائية في لبنان تعاني الكثير من المشاكل لجهة سوق المتهمين إلى المحاكم".
وأضافت الخنساء، في حديث مع “جسور بوست”، أن "هذه الجلسات تتأجل ويوجد عدد كبير منهم أبرياء ومن حقهم إظهار براءتهم. ولكن هذا الأمر لا يتحقق نتيجة عدم اكتمال جلسات المحاكمة".
وتابعت "من المؤكد أيضاً أن هنالك كان يوجد تأجيلات لجلسات المحكمة نظراً للظروف الأمنية وللاعتداء الصهيوني على لبنان الذي ما زال مستمراً في بعض المناطق وله تأثير كبير على تأجيل النطق بالحكم أو إجراء محاكمة عادلة وعاجلة، وهناك اكتظاظ في السجون وفي النظارة التي يوقف بها الذين يلقى القبض عليهم وهم يعيشون في حالة لا إنسانية ولا أخلاقية لا تليق بالإنسان، وحتى إنني أقولها وبخجل إنها لا تليق بمكان إقامة للحيوانات نظراً للظروف الصعبة التي يعيشها الموقوف أو السجين" .
وأضافت: “هناك حالة استهتار بالوضع الصحي للموقوفين. فيطلب من كل سجين يريد الاستشفاء أن يدفع من جيبه الخاص كلفة المستشفى أو الأدوية، وهذا الأمر يخالف القوانين الدولية والقانون اللبناني التي تفرض رعاية السجين وتأمين مكان لائق له وتأمين الطعام والشراب وتأمين مراكز جيدة لتمكينه من الاستحمام والحفاظ على نظافته، بالإضافة إلى أمور أخرى كثيرة يحتاج إليها السجين مثل تأمين وقت ومراكز للترفيه وممارسة الرياضة البدنية”.
وحول شكل قانون العفو في حال تطبيقه، أوضحت الخنساء أنه بحسب اعتقادها فإن "قانون العفو سوف يكون عادلاً وسوف يطبق على الجميع في الحالات العادية، وقد يستثنى بعض المحكومين كحالات القتل العمد التي ارتكبت للسرقة على سبيل المثال وكذلك حالات قتل عناصر الجيش".
وعن الحلول البديلة في حال عدم إقرار العفو العام، فترى الخنساء بأنه عندها “يمكن اللجوء إلى عدة قرارات لتخفيف العقوبات عن السجناء الموقوفين من ضمن هذه القرارات أن تخفض عقوبة البعض إلى النصف أو الربع، وأن يشمل أشخاصا محددين والعمل على تحسين وضع السجون، وهذا الأمر يحتاج إلى ماديات كبيرة”.
وقالت: "أعتقد الآن أن هنالك تفاهما بنقل كافة الموقوفين السوريين إلى بلادهم لإكمال تنفيذ العقوبة في بلدهم وهذا سوف يخفف عدد السجناء إلى أقل من النصف".
ويُشكل السجناء السوريون 36 في المئة من إجمالي السجناء، حيث يبلغ عددهم 2351 سجيناً، بينهم 350 محكوماً و2000 آخرون قيد التوقيف، وتخطط الحكومة اللبنانية، بالتعاون مع السلطات السورية الجديدة، لإعادتهم إلى بلادهم سعيا للتخفيف من ظاهرة اكتظاظ السجون وتسريع المحاكمات.
إصلاح السجون ضرورة
يرى مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان، فولكر تورك، أنه "من المهم أن ننظر إلى إصلاح السجون، وهذا سيكون أحد المواضيع التي تشكل جزءاً من تعزيز نظام سيادة القانون ونظام العدالة الجنائية بسبب الاكتظاظ، وبسبب وجود عدد كبير من الأشخاص في الحبس الاحتياطي، وبسبب الظروف المزرية للغاية في الاحتجاز" .
وقال في حديث مع “جسور بوست”، "نحن نرى هذه الظاهرة ليس فقط هنا في لبنان، بل وفي العديد من البلدان في جميع أنحاء العالم، وغالباً ما يُنظر إلى الحبس باعتباره الحل، ولكن في الواقع، نحن بحاجة إلى إيجاد بدائل له، ونحن بحاجة إلى معالجة العدد المتزايد باستمرار من أولئك الذين ينتهي بهم الأمر في الحبس الاحتياطي".
وتابع تورك، "لقد زرت عدداً من البلدان، بما في ذلك أمريكا اللاتينية، حيث كان مئات وآلاف الأشخاص في الحبس الاحتياطي. وتمكنا من العمل مع حكومة الإكوادور، على سبيل المثال، لحل هذه المشكلة حتى نتمكن من نقل الأشخاص من الحبس الاحتياطي".
وأضاف: "أعتقد أننا بحاجة إلى نهج مماثل في تلك البلدان حيث يوجد عدد كبير جداً من الأشخاص في الحبس الاحتياطي".
وبحسب تقارير إعلامية لبنانية فإن نسبة الاكتظاظ في السجون اللبنانية تتراوح ما بين 200% و300%، حيث يبلغ عدد السجناء 8300 سجيناً وسجينة تقريبا.
ويتوزع هؤلاء على 25 سجنا، بالإضافة إلى النظارات التي هي معدّة للتوقيف الاحتياطي وعددها 229 نظارة، علما أن 83% من الموقوفين يقبعون في الزنازين من دون محاكمات.