إعمار سوريا بين العدالة الانتقالية وغياب الشفافية.. هل ينجح ترميم ما دمرته الحرب؟

إعمار سوريا بين العدالة الانتقالية وغياب الشفافية.. هل ينجح ترميم ما دمرته الحرب؟
دولة سوريا - أرشيف

تعتبر قضية إعادة إعمار سوريا واحدة من أكثر القضايا تعقيدًا وتشابكًا في المنطقة العربية، خاصة بعد مرور أكثر من عقد على اندلاع الأزمة السورية التي خلفت دمارًا هائلاً في البنية التحتية والاقتصاد والمجتمع. 

وفقًا لتقديرات جامعة الدول العربية، فإن تكلفة إعادة إعمار سوريا تقدر بنحو 900 مليار دولار، وهو رقم ضخم يعكس حجم الكارثة التي خلفتها الحرب. 

وتشمل هذه التكلفة إعادة بناء المدن المدمرة، وإصلاح البنية التحتية من طرق وجسور ومطارات، بالإضافة إلى إعادة تأهيل القطاعات الحيوية مثل الصحة والتعليم والطاقة. 

ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: من سيتحمل هذه التكلفة الباهظة؟ وما هي التحديات التي تواجه عملية الإعمار في ظل الوضع السياسي والاقتصادي المعقد؟

ولا يمكن فصل عملية إعادة الإعمار عن الوضع السياسي في سوريا، فبعد أكثر من 12 عامًا من الصراع، لا تزال البلاد تعاني من انقسامات سياسية عميقة، مع وجود مناطق خارجة عن سيطرة الحكومة المركزية في دمشق، ووفقًا لتقارير الأمم المتحدة، فإن 60% من البنية التحتية في سوريا قد دُمرت أو تضررت بشكل كبير، بما في ذلك 40% من المستشفيات و50% من المدارس. 

وتعكس هذه الأرقام حجم التحدي الذي يواجه عملية الإعمار، خاصة في ظل استمرار العقوبات الدولية المفروضة على النظام السوري، والتي تحد من قدرة الحكومة على الوصول إلى التمويل الدولي. كما أن الوضع الأمني غير المستقر في بعض المناطق يزيد من صعوبة تنفيذ مشاريع إعادة الإعمار، حيث لا تزال هناك مناطق تشهد اشتباكات متفرقة.

وتعاني سوريا من أزمة اقتصادية طاحنة تفاقمت بسبب الحرب والعقوبات الدولية، ووفقًا لتقديرات البنك الدولي، فإن الناتج المحلي الإجمالي لسوريا انخفض بنسبة أكثر من 60% منذ بداية الأزمة في عام 2011 كما أن نسبة الفقر في البلاد ارتفعت إلى 90% من السكان، ووفقًا لتقارير الأمم المتحدة، هذه الأرقام تعني أن الحكومة السورية لا تملك الموارد الكافية لتمويل عملية إعادة الإعمار.

على الصعيد الإنساني، فإن عملية إعادة الإعمار لا تقتصر فقط على إعادة بناء المباني والطرق، بل تشمل أيضًا إعادة تأهيل المجتمع السوري الذي عانى من ويلات الحرب، ووفقًا لتقارير الأمم المتحدة، فإن 6.7 مليون سوري لا يزالون نازحين داخليًا، بينما يعيش 5.6 مليون لاجئ في دول الجوار، خاصة في تركيا ولبنان والأردن، هذه الأعداد الهائلة من النازحين واللاجئين تشكل عبئًا كبيرًا على عملية الإعمار، حيث تتطلب إعادتهم إلى ديارهم توفير ظروف معيشية آمنة ومستقرة، بما في ذلك فرص العمل والخدمات الأساسية.

وفي ما يتعلق بالقطاع الخاص، فإن هناك بعض الجهود المبذولة من قبل المستثمرين المحليين والأجانب للمساهمة في عملية الإعمار، لكنها تبقى محدودة بسبب المخاطر الأمنية والسياسية، ووفقًا لتقارير اقتصادية، فإن الاستثمارات الأجنبية المباشرة في سوريا انخفضت بنسبة أكثر من 95% منذ بداية الأزمة، مما يعكس عدم ثقة المستثمرين في الوضع الاقتصادي والسياسي في البلاد.

وعلى الرغم من التعهدات الدولية بتقديم الدعم لإعادة الإعمار، فإن التمويل الفعلي يبقى محدودًا وفقًا لتقارير الأمم المتحدة، حيث إن نسبة التمويل المطلوب لتغطية الاحتياجات الإنسانية والإعمارية في سوريا لم تتجاوز 30% في عام 2025، ما يعكس فجوة كبيرة بين التعهدات والتنفيذ، وهذه الفجوة تزيد من معاناة الشعب السوري وتؤخر عملية التعافي.

العدالة والكرامة شرطان أساسيان

وقالت خبيرة حقوق الإنسان، ترتيل درويش، إن إعادة إعمار سوريا ليست مجرد عملية هندسية أو اقتصادية لترميم ما دمرته الحرب، بل هي قضية حقوق إنسان بامتياز، فالحرب التي استمرت لأكثر من عقد لم تدمر فقط البنية التحتية، بل مزقت النسيج الاجتماعي والاقتصادي للسوريين، وتركت ملايين البشر يعيشون في ظروف إنسانية مأساوية. وفقًا لتقديرات جامعة الدول العربية، فإن تكلفة إعادة الإعمار تصل إلى 900 مليار دولار، وهو رقم ضخم يعكس حجم الكارثة، ولكن الأهم من ذلك هو أن هذه العملية يجب أن تكون مبنية على أساس احترام حقوق الإنسان، وضمان العدالة الانتقالية، وحماية كرامة الشعب السوري.

وتابعت درويش، في تصريحات لـ"جسور بوست"، يجب أن تكون عملية إعادة الإعمار شاملة وتشاركية، بحيث يتم إشراك جميع فئات المجتمع السوري، بمن في ذلك النازحون واللاجئون، في صنع القرار، فحق المشاركة في الحياة العامة هو أحد المبادئ الأساسية لحقوق الإنسان، كما نصت عليه المادة 21 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.

وتابعت أن مبدأ عدم التمييز، وهو أحد المبادئ الأساسية في القانون الدولي لحقوق الإنسان، من الأمور الهامة التي يجب أن تؤخذ في الاعتبار عند الإعمار، فجميع السوريين بغض النظر عن انتماءاتهم السياسية أو الدينية أو العرقية، يجب أن يتمتعوا بفرص متساوية في الاستفادة من مشاريع الإعمار.

واسترسلت، كذلك يجب أن تكون عملية إعادة الإعمار مرتبطة بتحقيق العدالة الانتقالية، فالحرب في سوريا خلفت وراءها انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، بما في ذلك جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، ووفقًا لتقارير الأمم المتحدة، فإن هناك أدلة دامغة على ارتكاب جميع أطراف الصراع لانتهاكات خطيرة، بما في ذلك القتل العشوائي والتعذيب والاعتقال التعسفي، لذلك، فإن أي عملية إعمار يجب أن تشمل آليات للعدالة الانتقالية، مثل محاكمة المسؤولين عن هذه الانتهاكات، وتعويض الضحايا، وإصلاح المؤسسات الأمنية والقضائية، فبدون تحقيق العدالة، فإن عملية الإعمار ستكون مجرد ترقيع سطحية لا تعالج جذور المشكلة.

وأكدت أن حقوق الفئات الأكثر ضعفًا، مثل النساء والأطفال والأشخاص ذوي الإعاقة، يجب أن تؤخذ في الاعتبار أيضًا، فالحرب في سوريا أدت إلى تفاقم أوضاع هذه الفئات، حيث تعرضت النساء للعنف الجنسي، وفقد الأطفال فرص التعليم، وتعرض الأشخاص ذوو الإعاقة للإهمال، ووفقًا لتقارير اليونيسف، فإن أكثر من 2.4 مليون طفل سوري خارج المدارس، بينما تعاني النساء من ارتفاع معدلات العنف الأسري، لذلك، فإن أي عملية إعمار يجب أن تشمل برامج خاصة لدعم هذه الفئات.

وناشدت الجهات المسؤولة بضرورة وجود مبدأ الشفافية والمساءلة في إعادة الإعمار، فغياب الشفافية والمساءلة يمكن أن يؤدي إلى تفشي الفساد، الذي يعد أحد أكبر التحديات التي تواجه عملية الإعمار.

البناء لا بد أن يكون اجتماعياً 

وقال الخبير الاجتماعي والأكاديمي طه أبو الحسن، إننا يجب أن ننظر إلى إعادة الإعمار كفرصة لإعادة بناء الثقة بين أفراد المجتمع السوري، فالحرب لم تدمر فقط البنية التحتية، بل دمرت أيضًا العلاقات الاجتماعية بين الناس، حيث أدت إلى انقسامات عميقة على أساس طائفي أو سياسي أو جغرافي، وبات كثير من السوريين يشعرون بأن الحرب قد زادت من حدة الانقسامات الاجتماعية، ما يجعل عملية المصالحة المجتمعية أمرًا بالغ الصعوبة، لذلك، فإن أي عملية إعمار يجب أن تشمل برامج لتعزيز الحوار المجتمعي، وإعادة بناء الثقة بين الأفراد، وتشجيع التعايش السلمي بين مختلف المكونات الاجتماعية.

وتابع أبو الحسن، في تصريحات لـ"جسور بوست"، يجب أن تراعي عملية إعادة الإعمار التأثير النفسي والاجتماعي للحرب على الأفراد، فالحرب تركت ملايين السوريين يعانون من صدمات نفسية عميقة، نتيجة فقدان الأحبة، أو التعرض للعنف، أو النزوح القسري وكثير من السوريين يعانون من اضطرابات نفسية مثل الاكتئاب والقلق واضطراب ما بعد الصدمة، لذلك، فإن أي عملية إعمار يجب أن تشمل برامج لدعم الصحة النفسية، وتوفير الرعاية اللازمة للناجين من الصدمات، ومساعدة الأفراد على تجاوز آثار الحرب النفسية.

واسترسل، عملية إعادة الإعمار هي فرصة لتعزيز التماسك الاجتماعي وتمكين الفئات المهمشة، فالحرب أدت إلى تفاقم أوضاع الفئات الضعيفة، مثل النساء والأطفال وكبار السن، حيث تعرضت هذه الفئات للعنف والإهمال، وكثير من النساء السوريات تعرضن لشكل من أشكال العنف خلال الحرب، بينما يعاني الأطفال من ارتفاع معدلات التسرب المدرسي وعمالة الأطفال، لذلك، فإن أي عملية إعمار يجب أن تشمل برامج لتمكين هذه الفئات.

وأشار إلى ضرورة مراعاة عملية إعادة الإعمار دور الشباب في بناء المستقبل، فالشباب السوري هم الأكثر تضررًا من الحرب، حيث فقد الكثيرون منهم فرص التعليم والعمل، ما جعلهم عرضة للتطرف أو الهجرة غير الشرعية.

وقال إن عملية إعادة الإعمار يجب أن ترتبط بتحقيق العدالة الاجتماعية، هذه ضرورة مهمة، فالحرب أدت إلى تفاقم الفجوات الاجتماعية والاقتصادية بين الأفراد، حيث أصبحت هناك فئة قليلة تتحكم في الموارد، بينما يعيش الغالبية في فقر مدقع. وفقًا لتقارير البنك الدولي، فإن أكثر من 80% من السوريين يعيشون تحت خط الفقر، لذلك، فإن أي عملية إعمار يجب أن تشمل سياسات لتحقيق العدالة الاجتماعية، مثل توزيع الموارد بشكل عادل، ودعم الفقراء، وضمان حصول الجميع على الخدمات الأساسية مثل الصحة والتعليم.

وأتم، يجب أن تكون عملية إعادة الإعمار فرصة لتعزيز الهوية الوطنية الجامعة. فالحرب أدت إلى تفتيت الهوية السورية، حيث أصبحت هناك هويات فرعية طائفية أو عرقية تتفوق على الهوية الوطنية. السوريين يشعرون بأن الحرب قد أضعفت هويتهم الوطنية، ما يجعل عملية بناء الهوية الجامعة أمرًا بالغ الأهمية، لذلك، فإن عملية الإعمار يجب أن تشمل برامج لتعزيز الهوية الوطنية، مثل إحياء التراث الثقافي، ودعم الفنون والآداب، وتشجيع الحوار بين مختلف المكونات الاجتماعية.

 



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية