مركز دبلن في ألمانيا.. محاولة لتنظيم اللجوء أم أداة لتقليص حقوق اللاجئين؟

مركز دبلن في ألمانيا.. محاولة لتنظيم اللجوء أم أداة لتقليص حقوق اللاجئين؟
لاجئون- أرشيف

في خطوة تعكس التحديات العميقة التي تواجهها ألمانيا في إدارة ملف اللجوء، أعلنت الحكومة الفيدرالية عن إنشاء "مركز دبلن" في مدينة آيزنهوتنشتات على الحدود البولندية، في محاولة لتعزيز كفاءة نظام اللجوء وتسريع عمليات إعادة طالبي اللجوء إلى الدول الأوروبية المسؤولة عن معالجة طلباتهم بموجب اتفاقية دبلن. 

ورغم أن هذا الإجراء يبدو كخطوة إدارية تهدف إلى تحسين الأداء، فإنه يكشف عن إشكاليات متجذرة في سياسات اللجوء الأوروبية، حيث تصطدم القوانين والاتفاقيات بالواقع البيروقراطي والإنساني المعقد.

اتفاقية دبلن التي أُقرت لأول مرة في عام 1990 وجرى تحديثها لاحقًا، تهدف إلى تحديد الدولة العضو في الاتحاد الأوروبي المسؤولة عن معالجة طلب اللجوء، وعادة ما تكون هذه الدولة هي الأولى التي دخلها طالب اللجوء. 

ولكن على الرغم من وضوح هذا المبدأ، فإن تطبيقه يواجه عراقيل كبيرة، فقد أظهرت الإحصائيات الرسمية أن ألمانيا قدمت في عام 2023 نحو 74,622 طلبًا لنقل مسؤولية معالجة طلبات اللجوء إلى دول أوروبية أخرى، فإن 5,053 عملية فقط تمت بنجاح، ما يمثل نسبة تنفيذ لا تتجاوز 6.8%، ما يعكس فجوة هائلة بين السياسات المعلنة والواقع التنفيذي. 

وتتعدد الأسباب الكامنة وراء هذا الفشل، تبدأ من العقبات البيروقراطية ولا تنتهي عند الرفض الصريح من بعض الدول الأوروبية استقبال اللاجئين. في 38,682 حالة لم يتم النقل بسبب التأخيرات الإدارية أو رفض الدولة المستقبلة، كما أن صدور قرارات قضائية لصالح اللاجئين في ألمانيا حال دون إعادة الكثير منهم. وفي 222 حالة، قاوم طالبو اللجوء أنفسهم عملية النقل، ما أدى إلى فشلها. 

ويأتي مركز دبلن كجزء من محاولة ألمانية لمعالجة هذه الإشكاليات عبر توفير مكان لإيواء طالبي اللجوء مؤقتًا حتى يتم نقلهم إلى الدول المسؤولة عن طلباتهم، الفكرة من المركز هي تجنب ضياع المهلة القانونية البالغة ستة أشهر، والتي تسقط بعدها مسؤولية الدولة الأولى، وتتحمل ألمانيا عبء اللاجئ بالكامل. 

ولكن السؤال الذي يفرض نفسه: هل يكفي هذا المركز لضمان تسريع عمليات النقل؟ أم أن المشكلة أعمق من مجرد تأخير إداري؟

الأكثر استقبالًا لطالبي اللجوء

بالنظر إلى الأرقام الأحدث، فإن ألمانيا تلقت 179,212 طلب لجوء أولي حتى نهاية سبتمبر 2024، مما يجعلها إحدى الدول الأكثر استقبالًا لطالبي اللجوء في أوروبا، هذا العدد الضخم يضع ضغطًا متزايدًا على البنية التحتية للمراكز الأولية، ناهيك عن مراكز دبلن التي تسعى الحكومة لتوسيعها.

ولكن في ظل هذه الأعباء، تبدو عمليات الترحيل إلى خارج الاتحاد الأوروبي أكثر صعوبة على سبيل المثال، في عام 2023 تمكنت ألمانيا من إعادة 51 شخصًا فقط إلى الهند من بين نحو 5,000 شخص كانوا ملزمين بمغادرة البلاد، ما يعكس ضعف فعالية التعاون الدولي في مجال الترحيل.

هذا الوضع لا يتعلق فقط بالإجراءات الإدارية، بل يمتد إلى التوازنات السياسية داخل الاتحاد الأوروبي، فهناك دول مثل إيطاليا واليونان تعاني من ضغط هائل بسبب موقعها الجغرافي، ما يجعلها تعترض على العودة المكثفة للاجئين إليها، معتبرة أن نظام دبلن غير عادل لأنه يضع العبء الأكبر على دول الدخول الأولى، ألمانيا.

وظهر تفاقم المشكلة بوضوح في حادثة زولينغن، حيث كان من المفترض ترحيل المشتبه به الرئيسي في هجوم عنيف إلى بلغاريا، إلا أن التأخير في الإجراءات حال دون ذلك، ما أدى إلى تصاعد الجدل السياسي حول فشل عمليات الترحيل، الحكومة الألمانية ردت بإجراءات أكثر صرامة، بما في ذلك تنظيم أول رحلة طيران مستأجرة إلى بلغاريا في 11 فبراير 2024، حيث تم نقل سبعة طالبي لجوء، بينهم أربعة سوريين وثلاثة أفغان، ضمن محاولات لتسريع الترحيل. 

وهناك تناقض بين السياسة الرسمية الألمانية التي تؤكد التزامها بحقوق الإنسان، وبين تطبيقات نظام دبلن التي تؤدي في بعض الأحيان إلى إعادة اللاجئين إلى دول تعاني من مشكلات إنسانية خطيرة، مثل اليونان أو بلغاريا، حيث لا تتوفر دائمًا الظروف الملائمة لاستقبالهم تقارير الأمم المتحدة والمنظمات الحقوقية أشارت إلى أن بعض العائدين إلى هذه الدول يواجهون الإهمال، وأحيانًا العنف، ما يثير تساؤلات حول مدى احترام هذه الإعادات لمبادئ حقوق الإنسان.

وتبقى مسألة اللجوء قضية محورية في الانتخابات الفيدرالية الألمانية المقبلة، فالأحزاب اليمينية، وعلى رأسها "البديل من أجل ألمانيا"، تستغل هذا الملف للدعوة إلى سياسات أكثر تشددًا، بما في ذلك إلغاء حق اللجوء في بعض الحالات، بينما تحاول الأحزاب الحاكمة التوفيق بين الالتزامات القانونية والضغوط الشعبية المتزايدة

ويرى خبراء أنه حتى مع إنشاء مراكز دبلن لا يبدو أن الحلول التقنية والإدارية كافية لمعالجة جذور المشكلة، فمع استمرار الصراعات والفقر والتغير المناخي في دفع المزيد من الناس إلى الهجرة، سيظل الضغط على أوروبا مرتفعًا.

سياسات اللجوء في ألمانيا

قال الخبير الحقوقي البحريني، عبد الله بن زيد، إن مشكلة اللجوء في ألمانيا باتت اليوم واحدة من أكثر القضايا إلحاحًا وتعقيدًا، ليس فقط بسبب التحديات الإدارية والقانونية، بل لأنها تمس جوهر الالتزام الألماني والأوروبي بمبادئ حقوق الإنسان والكرامة الإنسانية، ورغم أن الدستور الألماني يكفل حق اللجوء في المادة 16a، فإن الواقع يكشف عن فجوة بين المبادئ والتطبيق، حيث يواجه طالبو اللجوء عراقيل بيروقراطية تجعل رحلتهم محفوفة بالمخاطر حتى بعد وصولهم إلى بر الأمان.

وتابع عبد الله بن زيد، في تصريحات لـ"جسور بوست"، أن الإصرار على تطبيق القاعدة التي تنص على أن أول دولة أوروبية يدخلها اللاجئ هي المسؤولة عن طلبه، يعني في كثير من الأحيان إعادة الأشخاص إلى دول تعاني من أنظمة لجوء هشة وظروف معيشية غير إنسانية، وهو ما يتعارض مع مبدأ عدم الإعادة القسرية المنصوص عليه في المادة 33 من اتفاقية اللاجئين لعام 1951، وتظهر الإحصائيات أن نظام دبلن، الذي كان يفترض أن يكون أداة لتنظيم اللجوء، أصبح بدلاً من ذلك نظامًا بيروقراطيًا يؤدي إلى إطالة أمد معاناة اللاجئين.

وقال إن المشكلة هنا مزدوجة، فمن ناحية، تؤدي التأخيرات الإدارية إلى بقاء اللاجئين في حالة من عدم الاستقرار لفترات طويلة، ومن ناحية أخرى، تفشل السلطات في تنفيذ عمليات الإعادة ضمن الإطار الزمني المحدد بستة أشهر، ما يعني بقاء اللاجئ في ألمانيا بحكم القانون، ولكن دون اندماج فعلي أو استقرار قانوني.

وأشار إلى أن إنشاء مراكز دبلن يعكس تحولًا في السياسة الألمانية نحو تشديد التعامل مع طلبات اللجوء، لكن دون معالجة الأسباب الجذرية للمشكلات، فبدلًا من تحسين إجراءات اللجوء داخل ألمانيا وتسريع عمليات البت في الطلبات، يتم التركيز على الترحيل وإعادة التوزيع، وهو ما قد يؤدي إلى انتهاك حقوق الأفراد الذين قد تكون لديهم أسباب قوية للبقاء ولكنهم يجدون أنفسهم محتجزين في حلقة مفرغة.

وقال إن التجربة السابقة في مراكز استقبال اللاجئين في ألمانيا أظهرت مشكلات كبيرة تتعلق بالظروف المعيشية والاكتظاظ ونقص الخدمات الأساسية، ووفقًا لمنظمة "برو أزول" الحقوقية فإن الكثير من اللاجئين في هذه المراكز يعانون من سوء الرعاية الصحية والنفسية، مما يزيد من معاناتهم بعد رحلة شاقة للوصول إلى بر الأمان. لا يقتصر الأمر على الظروف المعيشية، بل يمتد إلى عدم توافر استشارات قانونية كافية، مما يجعل من الصعب على طالبي اللجوء فهم حقوقهم والدفاع عنها.

وأوضح عبد الله بن زيد أن الحل الحقيقي لأزمة اللجوء في ألمانيا لا يكمن في تعزيز مراكز دبلن أو زيادة وتيرة الترحيل، بل في إصلاح شامل لنظام اللجوء يضمن تسريع الإجراءات دون المساس بحقوق الإنسان، يتطلب ذلك زيادة عدد الموظفين المتخصصين في معالجة الطلبات، وتحسين نظام الإقامة والاندماج، والتأكد من أن جميع طالبي اللجوء يحصلون على محاكمة عادلة وفقًا للمعايير القانونية والإنسانية.

وأتم: أزمة اللجوء ليست مجرد قضية إدارية تتعلق بكمّ الطلبات المقدمة أو عدد الأشخاص الذين يمكن إعادتهم إلى دول أخرى، بل هي اختبار حقيقي لقيم العدالة والإنسانية التي يفترض أن يقوم عليها الاتحاد الأوروبي.

معاناة اللاجئين في ألمانيا

وقال زياد طارق، لاجئ سوري ويعمل كطبيب في ألمانيا، إن اللجوء في ألمانيا لم يعد كما كان قبل سنوات، عندما كان الأمل هو المحرك الأساسي لمن فروا من الحروب والدمار، أما اليوم فتحوّل إلى معركة بيروقراطية طويلة، تضع اللاجئ في حالة دائمة من القلق وعدم الاستقرار، ومركز دبلن هو مجرد انعكاس لهذه السياسة، فهو وسيلة لتعقيد حياة طالبي اللجوء بدلاً من توفير حل عادل ومنصف لهم، وفي ظل هذا النظام يجد اللاجئ نفسه عالقًا بين الدول الأوروبية، بلا حقوق، ولا مستقبل.

وتابع في تصريحات لـ"جسور بوست"، أن الإجراءات البيروقراطية التي نعيشها يوميًا، هي العدو الأول لطالبي اللجوء في ألمانيا، حيث يُجبر اللاجئين على الانتظار لعدة أشهر، وأحيانًا سنوات، قبل الحصول على قرار بشأن وضعهم القانوني، وفي تلك الفترة، يعيشون في ظروف غير إنسانية داخل مراكز الاستقبال الأولية، حيث الاكتظاظ وقلة الموارد وغياب الخصوصية، في بعض الحالات، يكون المركز مجرد مكان للنسيان، حيث لا يحصل اللاجئ على إجابة واضحة حول مصيره.

وقال إن مركز دبلن لا يتحكم في مصير اللجوء حيث يقرر النظام مكان إقامة اللاجئ بناءً على البلد الذي دخل منه أولًا، متجاهلًا الظروف التي دفعته إلى التنقل بين الدول الأوروبية بحثًا عن بيئة آمنة ومستقرة.

وشدد على أن الترحيل القسري هو أحد الجوانب الأكثر قسوة في نظام دبلن، حيث يتم التعامل مع طالبي اللجوء وكأنهم مجرد أرقام يجب تصفيتها بسرعة حتى لو استقر اللاجئ في ألمانيا لفترة طويلة، وبدأ ببناء حياة جديدة، فإنه قد يجد نفسه مهددًا بالترحيل فجأة، دون مراعاة للاندماج الذي حققه أو للجهود التي بذلها ليكون جزءًا من المجتمع الجديد، هذه السياسة لا تنظر إلى اللاجئين كأفراد لهم حقوق، بل كمشكلة يجب التخلص منها بأي وسيلة.

وقال إن ما يزيد الأمر سوءًا هو غياب أي فرصة حقيقية للطعن في قرارات الإعادة، فالمحاكم الإدارية مثقلة بالقضايا، والمحامون المتخصصون في اللجوء يعانون من ضغط العمل، ما يجعل من الصعب تقديم دفاع قانوني فعال لكل حالة، ونتيجة لذلك يجد الكثيرون أنفسهم في طائرة متجهة إلى بلد لم يعد يناسبهم، دون أن تتاح لهم فرصة حقيقية لعرض قضيتهم بشكل عادل.

 



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية