دوامة الاعتقال التعسفي.. مطالبات بالمحاسبة وعدم الإفلات من العقاب في ليبيا

دوامة الاعتقال التعسفي.. مطالبات بالمحاسبة وعدم الإفلات من العقاب في ليبيا
علم ليبيا - أرشيف

وسط الانقسام السياسي والأزمات الاقتصادية، تزايدت المخاوف الحقوقية في ليبيا، البلد الغني بالنفط والذي يشهد نزاعًا مسلحًا منذ عام 2011، ورغم الجهود الدولية والإقليمية لحل الأزمة، فما يزال الانقسام بين حكومتي الشرق والغرب يُفاقم الأوضاع، وجاء تحذير شديد اللهجة من الأمم المتحدة ليعيد تسليط الضوء على ملف حقوق الإنسان في البلاد.

وكشف حقوقيون ليبيون في تصريحات لـ"جسور بوست" أن موجة التوقيف التعسفي، التي حذرت الأمم المتحدة من تداعياتها، ليست جديدة، بل تأتي ضمن سلسلة من الانتهاكات المستمرة منذ 2011، وطالبوا بالإفراج الفوري عن جميع المحتجزين تعسفيًا، الذين بلغ عددهم 96 شخصًا في عام 2024 وكذلك 34 آخرون منذ بداية عام 2025، كما دعوا إلى محاسبة المسؤولين عن هذه الانتهاكات وضمان عدم إفلاتهم من العقاب.

وشدد الحقوقيون على ضرورة الالتزام بسيادة القانون، محذرين من أن استمرار هذه الانتهاكات قد يدفع المحكمة الجنائية الدولية إلى التدخل، خصوصًا أنها تمتلك ولاية على الأراضي الليبية وفقًا لقرار مجلس الأمن لعام 2011، كما دعوا إلى ضمان استقلالية قسم حقوق الإنسان في البعثة الأممية عن أي مبادرات سياسية قد تؤثر في قضايا حقوق الإنسان.

تحذير أممي 

في بيان صدر يوم السبت الماضي، تحت عنوان "موجة التوقيف التعسفي في ليبيا تروّع البعثة"، أعربت بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا عن قلقها العميق إزاء حملة الاعتقالات التعسفية التي تنفذها أجهزة إنفاذ القانون وأطراف أمنية في أنحاء البلاد.

وجاء في البيان أن هذه الجهات "تستغل سلطتها لاستهداف الأفراد بناءً على انتماءاتهم السياسية المزعومة، وتكميم أفواه المعارضين، وتقويض استقلال القضاء"، ما أدى إلى "خلق مناخ من الخوف وتقليص الحيز المدني وانتهاك سيادة القانون".

ووفقًا للبعثة الأممية، فإن الاعتقالات شملت العاملين في مجال القانون وأعضاء السلطة القضائية، حيث تم توقيف القاضي علي الشريف في طرابلس بعنف في 10 مارس الجاري.

وما يزال المحامي منير العرفي محتجزًا في بنغازي منذ 12 مارس، إلى جانب المدعيَين العسكريين منصور داعوب ومحمد المبروك الكار، المحتجزين منذ عام 2022 في طرابلس، ما يعكس تصاعد التهديدات التي تستهدف قطاع العدالة.

وفي طرابلس، تعرض النائب علي حسن جاب الله للاحتجاز التعسفي لأكثر من عام قبل أن تصدر بحقه محاكمة عسكرية في أكتوبر 2024، وُصفت بأنها مشوبة بالمخالفات، كذلك، ما يزال محمد المنسلي، مدير مكتب استرداد أموال الدولة الليبية، رهن الاحتجاز منذ 7 يناير، دون تمكينه من الحصول على تمثيل قانوني أو رعاية طبية، وسط تقارير مقلقة عن تدهور حالته الصحية.

أما في بنغازي، فما يزال خليفة مغار عبد الرسول، أحد أعيان مدينة غات، قيد الاحتجاز التعسفي منذ مايو 2024 دون توجيه أي تهم إليه أو السماح له بالتواصل مع محاميه أو أسرته.

رحبت البعثة الأممية بإمكانية دخولها أخيرًا إلى بعض مرافق الاحتجاز، ولو جزئيًا، ما يسمح لها برصد الانتهاكات الممنهجة، وطالبت الأمم المتحدة بالسماح لها بالوصول الكامل إلى جميع مراكز الاحتجاز دون قيود.

وأكدت البعثة أن "الاحتجاز التعسفي واستخدامه سلاحًا يؤدي إلى ترهيب المجتمع المدني، ويقوض فرص الانتقال الديمقراطي في ليبيا، كما يهز ثقة المواطنين في أجهزة إنفاذ القانون والأمن".

وجددت دعوتها للإفراج الفوري عن جميع المحتجزين تعسفيًا، ومحاسبة المسؤولين عن هذه الانتهاكات، لضمان تحقيق العدالة وتعزيز سيادة القانون في البلاد.

سلسلة من وقائع الاعتقال 

وكشفت تقارير حقوقية ليبية عن سلسلة من وقائع الاعتقال التي شهدتها البلاد منذ عام 2025، والتي انتهى بعضها بالإفراج عن المحتجزين، في حين ما يزال آخرون قيد الاحتجاز.

وأفادت المؤسسة الوطنية لحقوق الإنسان في ليبيا (جهة غير رسمية) في تقاريرها الصادرة يومي الجمعة والسبت بأن قسم تقصي الشكاوى والبلاغات تلقى بلاغًا من أسرة المواطنَين وسيم وفاضل أحمد أبوصبيع بشأن تعرضهما للاعتقال التعسفي منذ 28 أكتوبر 2024، أمام منزلهما.

وطالبت المؤسسة بالإفراج الفوري عنهما دون قيد أو شرط، أو عرضهما على النيابة العامة للفصل في مشروعية احتجازهما.

ودعت المؤسسة إلى فتح تحقيق جاد وشفاف من قبل السلطات القضائية المختصة حول الاعتقالات التعسفية التي طالت مواطنين ليبيين وأجانب جنوب غرب طرابلس، دون ذكر عدد المحتجزين.

وفقًا للتقارير الحقوقية، ما يزال المحامي منير العرفي (56 عامًا) مختفيًا قسرًا ومعتقلًا تعسفيًا منذ 13 مارس الجاري، بعد اختطافه من مقر عمله في بنغازي، كما تعرض المواطن فرج اللافي أحمد للاعتقال التعسفي منذ 29 نوفمبر 2024، إلى جانب المواطن عبيد الشعلالي (58 عامًا)، المحتجز منذ 2 أكتوبر 2024.

وأكدت المؤسسة الوطنية لحقوق الإنسان أن ممارسات الاختطاف، والإخفاء القسري، والاعتقال التعسفي، والقتل خارج نطاق القانون، والتعذيب الممنهج، باتت تتم على نطاق واسع، ما يرقى إلى مستوى الجرائم ضد الإنسانية، وفقًا لاختصاص مكتب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية.

وأوضحت المؤسسة أن المحكمة الجنائية الدولية تمتلك ولاية قضائية على الجرائم المرتكبة في ليبيا بموجب قرار مجلس الأمن رقم 1970 (2011)، ما يتيح للضحايا والمتضررين الحق في الوصول إلى العدالة ومحاسبة المسؤولين عن هذه الانتهاكات.

وقبيل صدور بيان بعثة الأمم المتحدة حول الأوضاع الحقوقية، أعلنت المؤسسة الوطنية لحقوق الإنسان في 19 مارس الجاري عن إطلاق سراح اثنين من المعتقلين تعسفيًا، وهما منصور داعوب وعبدالله العطايبي، بعد 35 يومًا من احتجازهما في سجن قرنادة.

اعتقالات تعسفية 

من جانبه، أكد رئيس المؤسسة الوطنية لحقوق الإنسان في ليبيا، أحمد حمزة، أن الاعتقالات التعسفية مستمرة في مختلف أنحاء البلاد، ولا سيما في مدن طرابلس، بنغازي، سبها، ومصراتة.

وأوضح حمزة، في تصريح لـ"جسور بوست"، أن دوافع هذه الاعتقالات تراوح بين الخلافات السياسية، إساءة استعمال السلطة، الانتقام الشخصي، قمع المعارضة، واستهداف الصحفيين والناشطين المدنيين. وأشار إلى أن بعض هذه الاعتقالات تحدث دون أي مسوغ قانوني.

وكشف أن المؤسسة رصدت خلال عام 2024، 617 انتهاكًا لحقوق الإنسان، من بينها 96 حالة اعتقال تعسفي، فيما تم تسجيل 34 حالة اعتقال تعسفي منذ بداية 2025 وحتى أواخر مارس الجاري.

وشدد حمزة، على ضرورة أن تكون الأجهزة الأمنية مسؤولة عن حماية المواطنين وحفظ القانون، وليس انتهاك حقوقهم أو تقييد حريتهم في التعبير. وأضاف أن دوامة الاعتقالات التعسفية لم تتوقف منذ 2011، بل تتصاعد بين الحين والآخر.

وفي تعليقه على بيان بعثة الأمم المتحدة، أشار حمزة إلى أن البعثة تتعامل بردود الفعل بدلاً من التدخل الفعلي لحماية الضحايا، حيث تكتفي برفع التقارير دون اتخاذ خطوات حاسمة للحد من الانتهاكات.

وأضاف أن قسم حقوق الإنسان في البعثة الأممية لم يقم بدوره المأمول في حماية المحتجزين، نظرًا لأن دور البعثة يرتبط أكثر بالدعم السياسي، ما يؤدي إلى تداخل بين مهامها الحقوقية والسياسية، ويجعلها تميل إلى مراعاة المصالح السياسية على حساب القضايا الإنسانية.

دعا رئيس المؤسسة الوطنية لحقوق الإنسان إلى فصل مكتب مفوض حقوق الإنسان عن البعثة الأممية، لضمان أن يسير في مسار حقوقي بحت بعيدًا عن الحسابات السياسية، كما شدد على ضرورة الإسراع في البتّ في قضايا المحتجزين، وملاحقة الجهات المسؤولة عن الانتهاكات، ولو استدعى الأمر اللجوء إلى المحكمة الجنائية الدولية، وذلك لوقف الجرائم، وتحسين أوضاع حقوق الإنسان، وتعزيز مبدأ الردع العام والخاص.

مطالب حقوقية

من جانبه، دان رئيس المنظمة العربية لحقوق الإنسان في ليبيا، الدكتور عبد المنعم الحر، في تصريح لـ"جسور بوست"، جميع انتهاكات حقوق الإنسان، سواء تمت تحت غطاء الشرعية أو خارجها، مؤكدًا أن الاعتقالات التعسفية في ليبيا تحدث -في أحايين كثيرة- تحت ستار القانون.

وأضاف: "يُعد الاعتقال التعسفي من أخطر أشكال انتهاك حقوق الإنسان، لما يترتب عليه من إهانة لكرامة المحتجز، وإلحاق أذى جسدي ومعنوي به، بل وقد يؤدي إلى تعذيبه أو حتى إزهاق روحه، ما يشكل انتهاكًا صارخًا لحقه في الحياة"، مشددًا على أن "كل هذه الجرائم تُرتكب تحت غطاء الاعتقال التعسفي".

رحب الدكتور عبد المنعم الحر بتقرير بعثة الأمم المتحدة حول تصاعد موجة التوقيف التعسفي في ليبيا، مشيرًا إلى أن ليبيا تمتلك من الناحية النظرية أحد أفضل القوانين في المنطقة العربية لمكافحة هذه الجرائم، إذ ينص على محاسبة الجناة، ومن يشارك في الجريمة، وحتى من يعلم بها ولا يبلغ عنها أو يسعى لوقفها.

وشدد على ضرورة تفعيل القانون وضمان سيادته، مع ملاحقة المسؤولين عن الانتهاكات وعدم السماح لهم بالإفلات من العقاب، مؤكدًا أن جرائم الاعتقال التعسفي قد تندرج ضمن اختصاص المحكمة الجنائية الدولية، ما يستوجب تحركًا دوليًا لمحاكمة المتورطين فيها.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية