الأعياد بوابة للتسامح العالمي.. هل تصبح طقوس الفرح نواة لوحدة الشعوب؟

الأعياد بوابة للتسامح العالمي.. هل تصبح طقوس الفرح نواة لوحدة الشعوب؟
طقوس الفرح بالعيد

تطل الأعياد الدينية كمنارات مضيئة في عتمة الانقسامات، تحمل في جوهرها بذور الوحدة الإنسانية وقدرة فريدة على تجاوز الحدود المصطنعة التي تفصل بين البشر. 

هذه المناسبات المقدسة ليست مجرد طقوس دينية جامدة، بل هي لحظات وجودية تختزل في طياتها إمكانات هائلة لبناء جسور التواصل بين الحضارات والأديان المختلفة.

تشير أحدث البيانات الصادرة عن المرصد العالمي للحوار بين الأديان التابع لليونسكو (2024) إلى أن 95% من الأعياد الكبرى في الديانات السماوية والوضعية الرئيسية تشترك في مجموعة أساسية من القيم الإنسانية التي تدعو إلى السلام والتسامح والتكافل الاجتماعي. 

قيم المحبة والسلام

هذه النسبة المذهلة تكشف عن أرضية مشتركة خصبة يمكن البناء عليها لتعزيز الحوار بين الأديان والثقافات المختلفة، ففي الإسلام يحمل عيدا الفطر والأضحى رسالة واضحة حول التضامن الإنساني، حيث تشير تقارير البنك الإسلامي للتنمية (مارس 2024) إلى أن حجم التبرعات الخيرية خلال عيد الفطر فقط تجاوز 8 مليارات دولار أمريكي على مستوى العالم، يتم توزيعها دون أي تمييز ديني أو عرقي.

أما في المسيحية فإن احتفالات عيد الميلاد تتحول إلى منصة عالمية للترويج لقيم المحبة والسلام، وقد أظهرت دراسة أنثروبولوجية موسعة أجرتها جامعة أكسفورد (ديسمبر 2023) على 25 ألف أسرة في 70 دولة أن 83% من العائلات المسيحية ترحب بمشاركة أفراد من ديانات أخرى في احتفالاتهم، ويرون في ذلك فرصة لتعميق أواصر التعايش المجتمعي، هذه النسبة ارتفعت بشكل ملحوظ مقارنة بالسنوات السابقة، ما يشير إلى تحول إيجابي في نظرة المجتمعات إلى الأعياد كمناسبات جامعة بدلاً من مناسبات انعزالية.

أصبح الشباب في عالمنا المعاصر القوة الدافعة الرئيسية لهذا التحول الإيجابي، في الإمارات العربية المتحدة، تحولت مبادرة "سفراء التسامح" من فكرة بسيطة إلى حركة مجتمعية ضخمة تضم الآن أكثر من 1500 شاب وشابة من 25 ديانة مختلفة، ووفقاً للتقرير السنوي لوزارة التسامح والتعايش (يناير 2024) هذه المبادرة التي أطلقت 450 فعالية نوعية خلال عام 2023 فقط أسهمت في خفض مؤشر التوترات الطائفية بين الشباب الإماراتي إلى 25 نقطة، مقارنة بـ60 نقطة في عام 2019، حسب قياسات مركز الإمارات للبحوث الاجتماعية.

وعلى المستوى العالمي، تبرز عشرات النماذج الملهمة التي تثبت قدرة الأعياد على تجسير الفجوات بين الأديان، في لبنان الذي يعاني من انقسامات طائفية عميقة، تحولت مبادرة "موائد الإخوة" إلى ظاهرة اجتماعية غير مسبوقة، وإحصائيات منظمة "لبنان واحد" (2024) تكشف أن 15 ألف شخص من 20 طائفة مختلفة اجتمعوا حول ألف مائدة طعام خلال أعياد 2023، بمعدل نمو سنوي بلغ 50% منذ انطلاق المبادرة عام 2016، وهذه التجربة اللبنانية ألهمت 45 دولة حول العالم لإطلاق مبادرات مماثلة، ما يؤكد قدرة فكرة بسيطة على إحداث تغيير جذري في النسيج الاجتماعي.

وفي جنوب إفريقيا التي لا تزال تعاني من آثار سياسة الفصل العنصري، أطلق مجموعة من الشباب المتحمسين مشروع "هدايا السلام" الذي تحول من مبادرة محلية صغيرة إلى حركة إنسانية ضخمة، وتقارير "المعهد الإفريقي للدراسات الاجتماعية" (2024) تشير إلى توزيع 200 ألف هدية عابرة للديانات خلال عام 2023 بمشاركة 20 ألف متطوع من مختلف الخلفيات الدينية والعرقية. 

هذه الأرقام المذهلة تثبت أن روح العطاء التي تميز الأعياد يمكن أن تكون أقوى من أي انقسامات مصطنعة.

لقد أعطت ثورة التواصل الرقمي بُعداً جديداً لتفاعلات الأعياد بين الأديان، حيث تكشف بيانات منصة "تيك توك" العالمية (2024) أن الهاشتاجات المتعلقة بالتهاني بين الأديان خلال الأعياد حققت 7 مليارات مشاهدة، 90% منها منشورات لشباب تحت سن 30 عاماً، وفي مصر حققت حملة "عيدك عيدنا" التي أطلقها ائتلاف من الشباب المسلم والمسيحي في عام 2022، 20 مليون تفاعل خلال عيد الفطر 2023، وحسب تقارير منصة "ميتا"، فهذه الأرقام تثبت أن الشباب العربي أصبحوا رواداً في توظيف التقنيات الحديثة لتعزيز ثقافة التعايش، رغم كل التحديات التي يواجهونها.

التطرف الرقمي

لكن هذا الطريق نحو السلام عبر الأعياد ليس مفروشاً بالورود، حيث تشير بيانات "المرصد الرقمي لمكافحة التطرف" (2024) إلى أن 45% من الشباب في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا يتعرضون لمحتوى متطرف خلال الأعياد الدينية عبر منصات التواصل الاجتماعي، كما أن 40% من الدول في العالم شهدت استغلالاً سياسياً للأعياد الدينية في 2023 لتعزيز الانقسامات بدلاً من الوحدة، ووفقاً لتقرير "مؤشر الحرية الدينية العالمي" هذه الأرقام المقلقة تذكرنا بأن الأعياد يمكن أن تتحول إلى ساحات صراع إذا لم نعمل بشكل منهجي على حمايتها من الاستغلال السياسي والتطرف الديني.

القيم المشتركة وقبول الآخر

لتحويل هذه التحديات إلى فرص، يقترح خبراء الاجتماع والدين عدة استراتيجيات متكاملة يجب العمل عليها بشكل متوازٍ لتطوير مناهج تعليمية مبتكرة تركز على القيم المشتركة، وقد أدت تجربة المغرب في تدريس مادة "فلسفة التعايش" في المدارس الحكومية إلى ارتفاع مؤشر القبول بالآخر إلى 85 نقطة بين الشباب المغربي، وحسب تقرير المجلس الأعلى للتربية والتكوين (2024) فهذه النتيجة المذهلة تثبت أن التعليم يمكن أن يكون أقوى أدوات التغيير الاجتماعي الإيجابي.

أيضًا إشراك القيادات الدينية المؤثرة في تصميم وتنفيذ المبادرات المشتركة، ففي الأردن أدى تأسيس "مجلس حكماء الأديان" إلى زيادة 80% في عدد الفعاليات المشتركة خلال الأعياد، وفق سجلات وزارة الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية. 

وهذا النموذج يثبت أن القيادات الدينية يمكن أن تكون جسوراً للتواصل بدلاً من حواجز للانقسام، إذا ما تم إشراكها بشكل صحيح في عملية بناء السلام، كذلك توظيف الفنون والدراما والإعلام الجديد لنشر ثقافة التعايش، وقد حقق مسلسل "أبناء الوطن" الذي عرض قصة تعايش بين أبناء الديانات المختلفة خلال الأعياد 45 مليون مشاهدة على منصة "شاهد"، حسب بيانات شركة "إم بي سي" (2024)، وهذا النجاح الكاسح يثبت أن الفنون يمكن أن تكون أداة قوية لتغيير الصور النمطية وبناء جسور التفاهم بين المجتمعات المختلفة.

وتلعب المنظمات الدولية تلعب دوراً محورياً في تعزيز هذا التوجه الإنساني. فقد أطلق برنامج الأمم المتحدة لتحالف الحضارات في 2023 المبادرة الطموحة "أعياد السلام" التي حققت إنجازات ملموسة تشمل تدريب 15 ألف شاب وشابة من 150 دولة على قيادة حوارات بين الأديان، وتمويل 500 مبادرة مجتمعية في 100 دولة، وإنتاج 150 فيلماً قصيراً عن القيم المشتركة في الأعياد الدينية، وإنشاء 75 منصة حوار محلية وعالمية.. هذه الأرقام الضخمة تثبت أن المجتمع الدولي بدأ يدرك الأهمية الاستراتيجية للأعياد كأدوات لبناء السلام العالمي.

وعلى المستوى الوطني، تبرز بعض النماذج الحكومية الملهمة في توظيف الأعياد لتعزيز التعايش، ففي الإمارات العربية المتحدة، أدى إعلان العطل الرسمية لجميع الأعياد الدينية الرئيسية إلى زيادة 85% في مشاركة الجمهور في الفعاليات المشتركة خلال ثلاث سنوات، بحسب دراسة مركز الإمارات للدراسات السياسية والاستراتيجية، كما سجلت الفعاليات المشتركة خلال أعياد 2023 مشاركة 250 جنسية مختلفة في دبي وحدها، الأمر الذي يعكس النموذج الإماراتي الفريد في التعايش الذي أصبح مصدر إلهام للعديد من الدول حول العالم.

الأعياد المصرية.. جسور تاريخية للتسامح والتعايش 

شكلت الأعياد المصرية عبر التاريخ نموذجًا بارزًا للتسامح والتعايش بين الثقافات المختلفة، حيث كانت مساحة مشتركة تجمع بين المصريين بمختلف معتقداتهم، فلم يؤدِ دخول العرب إلى مصر إلى طمس العادات والاحتفالات الشعبية الراسخة، بل حافظ المصريون على أعيادهم القديمة، مثل عيد وفاء النيل وشم النسيم، التي استمرت كطقوس سنوية ذات طابع احتفالي واسع النطاق.

أكد الكاتب الصحفي محمود التميمي، في تصريح لـ"جسور بوست"، أن طبيعة الدين الجديد الذي جاء به العرب إلى مصر لم تفرض تغيير العادات المحلية، بل تركت للمصريين حرية الاحتفال بمناسباتهم، وأشار إلى أن المصادر التاريخية تؤكد أن العصر المملوكي شهد انخراط الحكام في الاحتفالات الشعبية، حيث سُمح لأهل البلاد بممارسة طقوسهم بحرية، بل إن بعض القيود، مثل حظر شرب الخمر، كانت تُخفف خلال هذه المناسبات، ما يعكس أجواء التسامح التي سادت تلك الحقبة.

وأوضح التميمي أن هذا التسامح امتد ليشمل الاستعمار الفرنسي، إذ أظهر الفرنسيون احترامًا للأعياد الشعبية، خاصة الاحتفالات الصوفية، حيث حضر نابليون بونابرت إحدى حلقات الذكر الصوفية تعبيرًا عن تقديره للثقافة المحلية، بل إن الفرنسيين استغلوا هذه المناسبات لتعزيز علاقتهم بالمصريين، كما حدث في عيد وفاء النيل، عندما أطلقوا منطادًا لأول مرة في سماء القاهرة، ما أبهر الأهالي وعزز التقارب الثقافي بين الطرفين.

تباين مواقف المستعمرين تجاه الأعياد

وعلى النقيض من الفرنسيين، يرى التميمي أن الاحتلال البريطاني لم يبدِ احترامًا كافيًا للعادات المصرية، إذ تعامل بازدراء مع الاحتفالات الشعبية، ما عمّق العداء بينه وبين المصريين، أما في العهد الفاطمي فقد اتخذ الحكام نهجًا مختلفًا لكسب ودّ الشعب، حيث استحدثوا أصنافًا جديدة من الحلويات المستوحاة من ثقافات المغرب العربي، ووزعوها خلال الأعياد، ما جعلها جزءًا من التراث المصري وأسهم في تعزيز التعايش.

تعزيز التفاهم بين الأديان

في سياق متصل، يرى الكاتب المتخصص في المواطنة والحوار بين الأديان، مايكل فارس، أن المجتمعات المتنوعة دينيًا تواجه خيارين؛ إما تبني التعددية لضمان استقرارها، أو السماح للتوترات بالتصاعد، وأكد أن الشعور بالتهميش يولد الاحتقان، ما قد يؤدي إلى نزاعات داخلية.

وأوضح فارس، لـ"جسور بوست"، أن الأعياد الدينية يمكن أن تكون عامل توحيد إذا تم التعامل معها بروح منفتحة، أو أداة انقسام إذا تم رفضها، وأشار إلى أن بعض المجتمعات تمنع تهنئة غير المسلمين بأعيادهم، ما يعزز النزعة الانعزالية، ودعا إلى تعزيز الاحترام المتبادل عبر تنظيم فعاليات مشتركة بين أتباع الأديان المختلفة، مثل تبادل الزيارات خلال الأعياد وتقديم التهاني، لما لذلك من أثر إيجابي في نشر ثقافة التسامح.

التعاون لمواجهة تحديات التعصب

أكد فارس أن التعاون بين القادة الدينيين يمكن أن يلعب دورًا أساسيًا في تصحيح المفاهيم الخاطئة حول الأعياد، من خلال إصدار بيانات مشتركة تؤكد قيم الرحمة والسلام، وإطلاق مبادرات ملموسة تعكس قيم التعايش، لكنه نبه إلى وجود عقبات، أبرزها الجهل بمعتقدات الآخرين وانتشار خطابات الكراهية.

وأشار إلى أن بعض الدول العربية تفرض قيودًا على الاحتفالات الدينية لغير المسلمين، مستشهدًا بما حدث في ليبيا، حيث تم فرض عقوبات على غير المسلمين المحتفلين بأعيادهم، وشدد على أن تجاوز هذه التحديات يتطلب دعمًا مجتمعيًا ودوليًا، عبر الضغط لإزالة القوانين المقيدة لحرية الاعتقاد، وتنقيح الخطاب الديني من أي محتوى تحريضي، وتعزيز دور المؤسسات الحقوقية في حماية الممارسات الدينية.

ختامًا، يرى الخبراء أن الأعياد لم تكن مجرد مناسبات احتفالية، بل مثَّلت عبر العصور جسورًا للحوار والتفاعل بين المصريين وحكامهم، وبينهم وبين الشعوب التي تواصلوا معها، ومن هنا فإن الحفاظ على هذا الإرث الثقافي وتعزيزه يمكن أن يكون مفتاحًا لتعزيز التعايش المشترك وترسيخ قيم التسامح في المجتمع الحديث.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية