الحجاب في فرنسا.. كيف تتحول قيم الجمهورية إلى أداة لإقصاء الأقلية المسلمة؟
الحجاب في فرنسا.. كيف تتحول قيم الجمهورية إلى أداة لإقصاء الأقلية المسلمة؟
بدأت حملة وزير الداخلية الفرنسي برونو ريتايو ضد الحجاب كتصعيدٍ جديد في معركة طويلة تخوضها فرنسا مع مسألة الرموز الدينية في المجال العام، خاصة الحجاب الإسلامي، الذي أصبح محورًا رئيسيًا للجدل السياسي والاجتماعي.
في بلد يعرّف نفسه بالعلمانية الصارمة، تتجدد المواجهات بين من يرون الحجاب تهديدًا لقيم الجمهورية ومن يعتبرونه حقًا أساسيًا مكفولًا بحرية المعتقد.
وجاء التصعيد الأخير على خلفية النقاش حول مشروع قانون يمنع ارتداء الرموز الدينية في الرياضة، وهو مقترح أثار زوبعة من الانتقادات، محليًا ودوليًا، وسط اتهامات بأن فرنسا أصبحت تتبنى سياسات تمييزية ضد المسلمين، الذين يشكلون نحو 9% من سكان البلاد، وفق تقديرات المعهد الوطني للإحصاء والدراسات الاقتصادية لعام 2024.
في تجمع سياسي حاشد نظّمته مجموعة "تحرك معًا" المقربة من إسرائيل، وسط حضور نحو 2000 شخص، أطلق ريتايو تصريحات نارية، واصفًا الإسلاموية بأنها "السمّ" الذي يهدد فرنسا، مكرسًا خطابه حول فكرة أن هناك "انفصالية واحدة فقط" تمثل خطرًا على الجمهورية، وهي "الإسلاموية".
وبين تصفيق الحضور، هتف قائلاً: "تحيا الرياضة، يسقط الحجاب"، في إشارة واضحة إلى مشروع القانون الذي يدعمه بشدة، والذي يحظر على النساء المحجبات المشاركة في المنافسات الرياضية الرسمية، فيما وصف أريه بنسهون، المدير العام للمجموعة، التجمع بأنه "أول تجمع كبير ضد الإسلاموية في فرنسا"، ما يعكس طبيعة الفعالية التي لم تكن مجرد لقاء سياسي، بل منصة للتعبئة ضد ما يعتبره البعض تغلغلًا دينيًا في الفضاء العام.
ردود الفعل الغاضبة
لم تتأخر ردود الفعل الغاضبة، حيث اعتبر زعيم حزب "فرنسا الأبية"، جان لوك ميلانشون، أن مشاركة وزير الداخلية في هذا التجمع بمثابة دعم غير مباشر لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، متهمًا الفعالية بأنها ممولة من قبل الملياردير اليميني المتطرف بيير-إدوار ستيرين، وقال عبر منصة إكس: "كيف يمكن لوزراء في الحكومة الفرنسية تمثيل دولتنا في مثل هذه المهزلة المظلمة بجانب عنصريين ومعادين للإسلام؟"، كما ردت النائبة كليمون غيتي بقولها إن ريتايو "يعرقل العمل الدبلوماسي الفرنسي، ويدفع بسياسات تمييزية تسيء إلى سمعة البلاد على الساحة الدولية".
هذه ليست المرة الأولى التي يتبنى فيها ريتايو موقفًا متشددًا إزاء الحجاب، لكنه اليوم يحاول استثمار القضية لتعزيز مكانته داخل حزبه "الجمهوريين"، الذي يواجه صراعات داخلية حول قيادته المستقبلية، فمع اقتراب الانتخابات الحزبية، يسعى الوزير إلى جذب قاعدة الناخبين اليمينيين، مستخدمًا خطابًا شعبويًا يركز على القضايا الثقافية والهوية الوطنية.
في استطلاع أجرته مؤسسة "إيفوب" في مارس 2025، تبين أن 62% من الناخبين اليمينيين يؤيدون فرض قيود أكثر صرامة على الحجاب في الفضاء العام، ما يعكس استراتيجية ريتايو في مغازلة هذا الجمهور عبر تبني مواقف متشددة.
لكن الحظر المقترح يواجه انتقادات واسعة من قبل المنظمات الحقوقية، حيث وصفت "هيومن رايتس ووتش" مشروع القانون بأنه “انتهاك صارخ لحرية الدين وحرمان غير مبرر للنساء المسلمات من حقهن في المشاركة الكاملة في المجتمع”، كما أصدرت "الرابطة الفرنسية لحقوق الإنسان" بيانًا قالت فيه إن فرنسا أصبحت "الدولة الديمقراطية الوحيدة التي تفرض قيودًا صارمة على الرموز الدينية في الرياضة"، معتبرة أن هذا النهج يعكس تصاعد رُهاب الإسلام داخل الأوساط السياسية الفرنسية.
على المستوى الرياضي، رفضت اللجنة الأولمبية الدولية فكرة الحظر، مؤكدة أن المبادئ الأولمبية تستند إلى عدم التمييز، وهو ما يضع الحكومة الفرنسية في موقف محرج، خصوصًا مع اقتراب استضافة باريس للألعاب الأولمبية 2024، وأشار رئيس اللجنة، توماس باخ، في مؤتمر صحفي إلى أن "الرياضة يجب أن تكون فضاءً شاملاً، وليس مكانًا للإقصاء على أساس المعتقد" ورغم ذلك، تصر الحكومة الفرنسية على المضي قدمًا في التشريع، مما يفتح الباب أمام مواجهة قانونية مع الهيئات الرياضية الدولية.
اللافت أن هذه السياسات لا تقتصر على المجال الرياضي، بل تمتد إلى قطاعات أخرى، حيث بات من الشائع رؤية قرارات تحظر الحجاب في أماكن العمل والتعليم.. ففي 2021، أصدرت محكمة العدل الأوروبية حكمًا يسمح للشركات بمنع ارتداء الرموز الدينية، وهو ما استندت إليه عدة مؤسسات فرنسية لفرض سياسات داخلية تمنع الحجاب، ما دفع منظمات حقوقية إلى التحذير من أن هذه السياسات قد تؤدي إلى مزيد من التهميش والإقصاء للمسلمين في المجتمع الفرنسي.
قرارات حظر الحجاب
تاريخيًا، بدأت فرنسا أولى خطواتها في حظر الحجاب عام 2004، عندما أقرت قانونًا يمنع ارتداء الرموز الدينية في المدارس العامة، ثم في 2010 تم حظر النقاب في الأماكن العامة منذ ذلك الحين، تطورت القوانين تدريجيًا لتشمل المزيد من المجالات، مما جعل المسلمين في فرنسا يشعرون بأنهم مستهدفون بشكل خاص.
في دراسة أجراها معهد مونتين عام 2023، أعرب 74% من المسلمين الفرنسيين عن شعورهم بأن بلادهم لا تعاملهم على قدم المساواة مع بقية المواطنين، وهو مؤشر يعكس عمق الأزمة الاجتماعية التي تتفاقم بسبب هذه السياسات.
على الجانب الآخر، يدافع مؤيدو الحظر عن مواقفهم بحجة أن فرنسا دولة علمانية، ويجب أن تظل كذلك، بعيدًا عن أي مظاهر دينية في الفضاء العام. ويرى هؤلاء أن الحجاب ليس مجرد اختيار فردي، بل "رمز سياسي" يعبر عن أيديولوجية تهدد قيم الجمهورية، في استطلاع رأي أجرته مؤسسة "إيلاب" في فبراير 2025، قال 58% من الفرنسيين إنهم يؤيدون فرض قيود أكثر صرامة على الرموز الدينية، مما يعكس انقسامًا واضحًا داخل المجتمع حول هذه القضية.
وفقًا لتقرير صادر عن مؤسسة "فيدير باريت" لعام 2024، فإن 65% من النساء المسلمات في فرنسا تعرضن لشكل من أشكال التمييز بسبب ارتداء الحجاب، سواء في العمل أو في المؤسسات التعليمية أو حتى في الأماكن العامة.
التداعيات لا تقتصر على فرنسا وحدها، بل تمتد إلى علاقاتها الخارجية، خاصة مع الدول ذات الأغلبية المسلمة، التي انتقدت مرارًا هذه السياسات، ففي بيان صدر عن منظمة التعاون الإسلامي، وصفت قرارات الحظر بأنها "تمييز ممنهج يتعارض مع القيم الديمقراطية وحقوق الإنسان"، بينما عبّرت دول مثل تركيا والمغرب عن قلقها من تزايد الإجراءات المعادية للإسلام في فرنسا.
أما داخل الاتحاد الأوروبي، فإن موقف فرنسا يثير تساؤلات حول مدى توافق هذه السياسات مع معايير الاتحاد في مجال حقوق الإنسان بعض الدول، مثل ألمانيا وهولندا، لديها قوانين تحظر تغطية الوجه في أماكن معينة، لكنها لم تصل إلى حد منع الحجاب في الرياضة، مما يجعل فرنسا في عزلة نسبية داخل القارة في هذا الملف.
حظر الحجاب في فرنسا يهدد التعايش ويؤجج العنصرية
صرّح رئيس تحرير "تايم نيوز أوروبا بالعربي"، سعيد السبكي، بأن فرنسا كانت أول دولة تحظر النقاب في الأماكن العامة عام 2011، حيث يشمل القانون تغريم المرأة التي ترتديه، ومعاقبة من يجبرها على ذلك بغرامة تصل إلى 43 ألف دولار أو السجن، وأوضح أن القانون لم يذكر النقاب صراحة، بل جاء بصيغة "إخفاء الوجه في الأماكن العامة"، ما أثار جدلاً قانونيًا، إذ أعرب مجلس الدولة الفرنسي عن تحفظاته على تعميم المنع، مشيرًا إلى افتقاره إلى أساس قانوني واضح، ومُوصيًا بحصره في بعض الأماكن العامة فقط.
وأضاف في تصريحات لـ"جسور بوست": مقترح حظر جميع الرموز الدينية في الأماكن العامة واجه اعتراضات قوية، خاصة من اللوبي اليهودي الفرنسي، نظرًا لارتباطه بغطاء الرأس اليهودي "الكيباه" والرموز المسيحية مثل الصليب والزي الديني. أما الحظر المقترح للحجاب في الجامعات والرحلات المدرسية فيتعارض مع مبادئ الحرية الشخصية والدستور الفرنسي، مما يجعله قيدًا غير مبرر للحريات، يتناقض مع مزاعم فرنسا في ضمان حرية التعبير.
وأكد السبكي أن مثل هذه السياسات سيكون لها تبعات سلبية على المسلمين في فرنسا، حيث تعوق اندماجهم في المجتمع، وتزيد من حدة الانقسامات، وقد تؤجج مشاعر العنصرية في بلد يعيش فيه نحو 5 إلى 6 ملايين مسلم، وربما أكثر نظرًا لعدم تسجيل بعضهم رسميًا. كما أشار إلى أن الإعلام الفرنسي، باستثناء بعض الصحف اليسارية، لا يتعامل بموضوعية مع قضايا المسلمين، لافتًا إلى أن الجدل حول الحجاب غالبًا ما يُستخدم كورقة ضغط سياسي خلال الانتخابات أو عند تصاعد التوتر مع دول ذات جاليات إسلامية، مثل دول المغرب العربي.
حظر الحجاب يقوّض الحريات ويعزز الإقصاء
وفي السياق، عبّرت الناشطة الحقوقية أسماء رمزي عن قلقها العميق إزاء التصريحات الأخيرة التي أدلى بها وزير الداخلية الفرنسي، برونو ريتايو، مشيرة إلى أن هذه التصريحات لا تقتصر على مهاجمة تيارات متطرفة بعينها، بل تعكس خطابًا إقصائيًا يضع عموم المسلمين في فرنسا تحت دائرة الاشتباه، وهو ما يتعارض مع قيم الجمهورية الفرنسية القائمة على مبادئ الحرية والمساواة والعدالة.
وتابعت في تصريحاتها لـ"جسور بوست": استخدام مصطلحات فضفاضة مثل "الإسلاموية" دون تحديد دقيق لما يُقصد بها، يفتح الباب أمام تأويلات قد تؤدي إلى التمييز ضد فئات واسعة من المواطنين بسبب انتمائهم الديني، وفي ظل تصاعد الخطاب السياسي المعادي للمسلمين، تزداد المخاوف من أن تؤدي مثل هذه المواقف إلى ممارسات تعسفية ضد الأفراد والجماعات التي تمارس شعائرها الدينية في إطار القانون، مما يقوض مبادئ التعددية التي يفترض أن تكون جزءًا لا يتجزأ من المجتمع الديمقراطي.
واسترسلت: فرض قيود على الحجاب بحجة حماية القيم الجمهورية، يطرح تساؤلات جوهرية حول مدى التزام فرنسا بمبادئ الديمقراطية والحرية الدينية التي طالما رفعت شعاراتها فحرية المعتقد ليست امتيازًا يمنح للبعض ويُحرم منه الآخرون، بل هي حق أساسي مكفول بموجب القوانين الوطنية والدولية، بما في ذلك العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، الذي يؤكد حرية الفكر والوجدان والدين، إن أي محاولة لتقييد هذا الحق، سواء تحت غطاء العلمانية أو بأي مبرر آخر، يجب أن تواجه بإدانة حازمة من قبل جميع الجهات المدافعة عن حقوق الإنسان.
وأشارت إلى أن ازدواجية المعايير في التعامل مع قضايا التمييز باتت أمرًا مثيرًا للقلق، ففي الوقت الذي يتم فيه التركيز على مكافحة معاداة السامية، يتم التغاضي عن الإسلاموفوبيا التي أصبحت ظاهرة مؤسسية في السياسات الفرنسية، محاربة جميع أشكال العنصرية يجب أن تكون على قدم المساواة، إذ لا يمكن قبول أن تكون مواجهة الكراهية انتقائية، بحيث يتم استنكار التمييز ضد فئات معينة، بينما يتم الترويج لخطابات تحريضية ضد فئات أخرى.
وفي هذا الإطار، تشدد أسماء رمزي على أن معالجة قضايا التطرف يجب أن تتم من خلال سياسات عادلة ومتوازنة، لا عبر خطابات سياسية تحريضية تزيد من الانقسام داخل المجتمع إن الأمن والاستقرار لا يمكن تحقيقهما من خلال فرض مزيد من القيود على الحريات، بل عبر خلق بيئة يشعر فيها جميع المواطنين بأنهم جزء من النسيج الوطني، بغض النظر عن خلفياتهم الدينية أو الثقافية.
وقالت إن القرارات والسياسات التي تستهدف فئة بعينها من المجتمع، مثل حظر الحجاب أو التصريحات التي تربط الإسلام بالإرهاب والانفصالية، تؤدي إلى نتائج عكسية، حيث تعزز الشعور بالغربة لدى فئات واسعة من المواطنين المسلمين، مما قد يؤدي إلى تفاقم التوترات الاجتماعية بدلًا من تهدئتها، الدولة التي يفترض أن تكون ضامنة للحريات، يجب ألا تتحول إلى طرف يمارس التمييز ضد بعض مواطنيها، لأن ذلك يتناقض مع جوهر الديمقراطية التي تزعم فرنسا الدفاع عنها.
وفي ضوء ذلك، طالبت الناشطة الحقوقية القيادة الفرنسية بإعادة النظر في خطابها وسياساتها تجاه المسلمين، والالتزام بالمبادئ الحقيقية لحقوق الإنسان، بدلًا من استخدام العلمانية كأداة للإقصاء، واحترام حرية المعتقد يجب أن يكون شاملًا وغير انتقائي، فمن غير المقبول أن تفرض الدولة على النساء ما يجب أن يرتدينه أو لا يرتدينه، لأن هذا النهج يتعارض مع الحقوق الأساسية التي تقوم عليها المجتمعات الديمقراطية.
وأكدت أسماء رمزي أن فرنسا اليوم تواجه تحديًا حقيقيًا، ليس في مواجهة الإسلاموية كما يروج البعض، بل في كيفية تحقيق توازن عادل بين احترام الحريات الفردية وحماية الأمن العام، دون أن يتحول هذا التوازن إلى ذريعة لقمع فئات معينة من المجتمع، وعلى الدولة أن تتذكر أن مبادئ الجمهورية يجب أن تُطبق على الجميع دون استثناء، وإلا فإن الحديث عن المساواة والحرية لن يكون سوى شعارات جوفاء لا تعكس واقع الحال.
وأتمت: السياسات القائمة على التمييز لن تؤدي إلا إلى مزيد من الانقسامات في المجتمع، وهو أمر لا يمكن لفرنسا أن تتحمله في ظل التحديات الراهنة؛ لذا، فإن النهج الصحيح يكمن في تعزيز سياسات الإدماج والتعايش، واحترام التعددية، بدلًا من اللجوء إلى إجراءات تزيد من التوتر وتعمّق الفجوة بين الدولة ومواطنيها.