منطق «الاستثناء».. انتهاك للحريات
منطق «الاستثناء».. انتهاك للحريات
خلال الفترة من عام 2013 إلى عام 2017، شغلتُ منصباً مُعيَّناً في البيت الأبيض في اللجنة الأمريكية للحرية الدينية الدولية. كنا نصدر سنوياً تقارير تحدد الدول التي تنتهك حرية مواطنيها والمقيمين فيها في ممارسة شعائرهم الدينية بحرية، ونوصي الحكومة الأمريكية باتخاذ إجراءات لإلزام تلك الدول بالامتثال للمعايير الدولية. لاحظتُ منذ البداية وجود مقاومة شديدة من بعض الأعضاء عندما يتعلق الأمر بفحص ممارسات إسرائيل. أرادت اللجنة نشر مقال رأي يعبر عن القلق من أن «في الأرض التي وُلد فيها المسيح، يخشى المسيحيون الاحتفال بعيد الميلاد». اللجنة استشهدت بعدد من الدول العربية (ومن الغريب أنها كانت تشمل لبنان وسوريا).
وعندما سألتُ عن المسيحيين الفلسطينيين، كان الرد رفضاً شبه هستيري. وبعد عام، طلب بطريرك القدس للروم الكاثوليك دعم اللجنة في بعض الطلبات الموجهة للسلطات الإسرائيلية (مثل إصدار تأشيرات للكهنة والسماح بمرور المسيحيين بين إسرائيل والضفة الغربية في عيدَي الميلاد والفصح).
رفض اثنان من زملائي هذا الطلب وأصرّا على أن تكون أولويته مطالبة «حماس» بنزع سلاحها. شعرت بصعوبة المعركة، وقبل أن أقترح على اللجنة التحقيق في أوضاع إسرائيل، طلبت من فريق من المحامين إعداد تقرير عن الممارسات القمعية الإسرائيلية التي تؤثر في المسيحيين والمسلمين الفلسطينيين واليهود غير الأرثوذكس في إسرائيل. عندما قدّمت أنا وزميل في اللجنة (كان قلقاً من معاملة اليهود غير الأرثوذكس في إسرائيل) هذا التقرير، واجهنا عاصفة من الانتقادات. اتهمني اثنان من الأعضاء بمعاداة السامية بسبب «استهدافي إسرائيل بالنقد». هذا الاتهام يساوي بين انتقاد إسرائيل ومعاداة السامية، ويُستخدم لإسكات منتقدي إسرائيل. لكني ذكّرتهم بأنني كنت أصوّت معهم كل عام لانتقاد ممارسات أكثر من عشرين دولة.
لم أكن أنا من ينتقد إسرائيل تحديداً. بل كانوا هم من ميزوا إسرائيل باعتبارها الدولة الوحيدة التي لا يمكن انتقادها. هذا هو «استثناء إسرائيل». ويمكن لإسرائيل أن تنتهك الحرية الدينية والقانون الدولي والقانون الإنساني وحتى القوانين الأمريكية المتعلقة باستخدام المساعدات في انتهاك حقوق الإنسان وأرواح المدنيين، دون أن تُنتقد أبداً. وأي شخص يفعل ذلك يُتهم بمعاداة السامية. وقد سمح هذا الوضع لإسرائيل بالتصرف دون محاسبة. وقد أثر سلباً في الفلسطينيين واللبنانيين والسوريين وغيرهم، ويُستغل الآن سلاحاً داخل الولايات المتحدة، ما يُعرّض حرياتنا الأساسية للخطر. لقد اعتمدت إدارة ترامب الأولى رسمياً تعريف التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست الذي يساوي بين معاداة السامية وانتقاد إسرائيل، كما سنّت عشرات الولايات الأمريكية قوانين لاستخدامه.
وبعد عدة محاولات فاشلة، قد يتم إقراره هذا العام في الكونجرس. الأمر الأكثر إثارة للقلق هو استخدام إدارة ترامب الحالية هذا التعريف كسلاح لتهديد الجامعات، ما يدفعها لاتخاذ إجراءات تنتهك الحرية الأكاديمية وحرية التعبير في الحرم الجامعي، من فصل أساتذة، وإلغاء مقررات دراسية، وتقليص أقسام دراسات الشرق الأوسط. وتستخدم وزارتا الخارجية والأمن الداخلي هذا التعريف لإلغاء تأشيرات الإقامة والبطاقات الخضراء، ما أدى إلى ترحيل أو منع مئات من المؤيدين للقضية الفلسطينية من دخول البلاد. والأشخاص الذين يتم ترحيلهم، والبرامج الجامعية التي تُلغى، والطلاب الذين يُهددون بالطرد يُتّهمون بمعاداة السامية وخلق بيئة عدائية لليهود في الجامعات. ولكن عند الفحص، يتبين أن «جرائمهم» لا تتعدى انتقاد إسرائيل أو دعم الفلسطينيين. إن صمت العديد من الليبراليين في الكونجرس والأوساط الأكاديمية، الذين يسمحون، بسبب خوفهم، باستمرار هذا الوضع، أمر مقلق.
لقد سمحوا لـ«استثناء إسرائيل» بأن يتحول إلى «استثناء فلسطين». يمكن انتقاد أي دولة (حتى دولتنا). ولكن ليس إسرائيل. يجب دعم ضحايا انتهاكات حقوق الإنسان (حتى الإبادة الجماعية)، ولكن ليس الفلسطينيين. يشعر الكثيرون في مجتمعي بالضعف، وهم يشهدون إسرائيل تتصرف دون محاسبة، وتدمر لبنان وسوريا، وتسرّع من وتيرة القتل في غزة والقمع في الضفة الغربية. ويخشى كثيرون التعبير عن آرائهم أو المشاركة في الاحتجاجات السياسية. حتى المواطنون يشعرون بالقلق من السفر، ومن معاملتهم عند العودة إلى الولايات المتحدة. ويخشى حاملو التأشيرات عدم السماح لهم بالعودة. إن «استثناء إسرائيل/فلسطين» يشوه سياستنا الخارجية، ويقوض التزامنا بالقانون الدولي، ويهدد حقوقنا في حرية التعبير، والتجمع، وتقديم العرائض إلى حكومتنا.
ونحن نشهد الآن آثاره المدمرة على الحرية الأكاديمية وعلى جوهر فكرة الجامعة. ما يُثلج الصدر هو وجود ائتلاف واسع ومتنوع ينهض لمواجهة هذا التحدي لحقوقنا وشعوبنا. ويتحد العرب الأمريكيون، والمنظمات المدنية ومنظمات حقوق الإنسان، والجماعات العرقية والدينية، والطلاب والأساتذة، للمطالبة بإنهاء «استثناء إسرائيل/فلسطين».
* نقلاً عن صحيفة الاتحاد